(الوطن) بالتعاون مع الادعاء العام

بتاريخ 11 يناير 2018م، وبعد انتظارٍ طويل، طالعتنا وسائل الإعلام المختلفة، بمرسومٍ سُلطانيٍّ سَامٍ، رقم:(7 /2018)، بإصدارِ قانون الجزاء، وقضى المرسوم في مادته الثانية بإلغاء قانون الجزاء العُمَاني (القديم) رقم:(7 /1974)، وإلغاء كلّ ما يخالف أحكامه، أو يتعارض معه.
هذا، وبالنظر إلى أن القانون الماثل أكَّدَ صراحةً، في مادته الخامسة على مبدأ عدم الاعتِداد بعذر الجهل بالقانون، فإنّ (المجتمع والقانون)، وتنفيذًا لرسالتِها التوعويَّة، أخذت على عاتقِها مسئولية تبصيرِ العامة بأهم أحكام هذا القانون، لاسيَّما تلك التي وسَّعَ فيها المشرِّع من نطاقِ التجريم، أو لم تكُن أصلاً مجرَّمة.
نورد تاليًا الجزء الثاني عشر من أهم تلك (الومضات):
ـ استعرضنا في الحلقةِ الفائتة، بالشرحِ والتفصيل، جرائم الشيكات، التي أورد المشرِّع نصوصها في المواد (356 – 359) من قانون الجزاء، هذا، وبالنظر إلى أن جرائم الشيكات تتصدر قائمة الجرائم الأكثر حدوثًا في السَّلطنة، وفق ما كشفت عنه الإحصائية الجرمية لعام 2018م، التي عرضها الادعاء العام في المؤتمر الصحفي المنعقد بتاريخ 24 الجاري، آثرنا أن نسلّط مزيدًا من الضوء على هذه الجرائم في الحلقة الماثلة، وذلك من خلال بيان موقف المحكمة العليا بشأن بعض التصرفات المتصلة بالموضوع.
ـ يحدث في الواقع العملي أن يسحب (س) من الناس مجموعة من الشيكات لصالح مُستفيدٍ واحد، مقابل عقد واحد، فلنقل عقد إيجار عقار مثلاً، فيرتجع الشيك الأول من المصرف لعدم وجود رصيد، فيتقدم المستفيد (المسحوب له الشيك)، تبعًا لذلك، إلى جهات الضبط القضائي لتحريك دعواه، فتقرر المحكمة إدانة مُنشئ الشيك (المتهم) بتهمة إصدار شيكًا بدون رصيد قائم ومُعد للدفع، وتقضي بسجنه وتغريمه مبلغًا للحق العام؛ وربما تقضي أيضًا بإلزامه بدفع قيمة الشيك، إذا طلب المجني عليه ذلك، وفق مقتضيات المادة (356) جزاء، وبعد فترة من الزمن، يرتد الشيك الثاني، أو ترتد معه الشيكات المتبقية، للسبب ذاته، عدم وجود رصيد كافٍ في حساب المتهم، فهل يجوز قانونًا التعامل مع الشيكات اللاحقة، كلٍ على حِدة، كدعوى جزائية مُستقلة عن الدعوى التي حُكِمت ابتداءً عن الشيك الأول؟.
استقر الفقه والقضاء على عدم جواز تحريك دعوى جزائية لاحقة عن الشيكات المتبقية، ما دام الثابت يشير إلى أنها صدرت للمعاملة ذاتها، التي أدين بموجبها المتهم عقب ارتجاع الشيك الأول؛ فجميع الشيكات، المتصلة بموضوعٍ واحد، ولمستفيدٍ واحد، والصادرة في تاريخٍ واحد، وإن تباينت تواريخ استحقاقها، تُعدُّ نشاطًا إجراميًا واحدًا، لا يقبل التجزئة.
ومن منطلق أن القانون يمنع محاكمة متهمٍ عن جُرمٍ مرتين، فالدعوى الجزائية تنقضي بأيلولة الحكم الذي صدر في الشيك الأول باتًّا ولا مجال، تبعًا لذلك، من إعادة تحريك دعوى شيكات بدون رصيد عن الشيكات اللاحقة، المرتبطة بالصفقة ذاتها، فإذا حدث وأن قرَّر الادعاء العام، خطأً، إحالة الشيكات اللاحقة إلى المحكمة؛ فالأخيرة ستقضي بانقضاء الدعوى العُمومية، لسابقة الفصل فيها؛ مما يقتضي على الادعاء العام، والحال كذلك، التقرير بحفظ التحقيقات، للسَّبب ذاته، وعلى ذوي الشأن إحالة طلباتهم المدنية، وتحديدًا قِيَم الشيكات إلى المحكمة المدنية المختصة، فالحقوق المدنية مُصانة، في جميع الحالات، ولا شأن لها وانقضاء الدعوى العمومية.
ـ كما يحدث في بعض الأحيان أن يتم التعامل مع الشيك، بين طرفي التعاقد، على أنه أداة ائتمان (ضمان)، لا أداة وفاء؛ فنجد أن ساحب الشيك (منشئه) يتساهل في أمر الشيك، ويدفع عن نفسه تهمة إصدار شيك بدون رصيد، بالقول أن سحبه للشيك كان عن سبيل الضمان، وأنه وكان قد اتفق مع المستفيد من الشيك على هذا الأساس، فهل فعلاً يسقط مثل هذا الاتفاق الحماية الجزائية عن الشيك؟.
ـ قررت المحكمة العليا، في شأن هكذا دفوع، الآتي: (هي ليست إلا دفوعًا، الغرض منها التنصل من المسئولية الجزائية لأن أركان جريمة إصدار شيك بدون مقابل متوافرة بحقه، باعتبار أن الشيك هو أداة وفاء، وليس أداة ائتمان، شأنه شأن من يدفع مبلغًا من النقود، مستحقًا عليه للدائن، وتبين أن هذه النقود مزيفة، لأنه يحول في عمله دون قبض المستفيد قيمة الشيك) (المحكمة العليا، الدائرة الجزائية، طعن رقم: 134 /2002، بتاريخ 12 نوفمبر 2002م).
ـ فغرض المشرع الجزائي من تجريم فعل إعطاء شيك دون مقابل هو حماية التعامل بالشيك، ذلك لأنه يعد أداة تحل محل النقود في المعاملات، وقررت المحكمة العليا في حكمٍ آخر الآتي: (أنه، بمجرد إعطاء شيك يدل مظهره وصيغته على أنه مستحق الأداء في تاريخ استحقاقه، وأنه أداة وفاء، لا أداة ائتمان، يتم طرحه للتداول، فتنعطف عليه الحماية القانونية التي أسبغها المشرع على الشيك ...، أما البواعث والأسباب، فلا أثر لها في قيام المسؤولية الجنائية ...، فقد قصد المشرع من العقاب حماية الشيك في التداول، وقبوله في المعاملات كأداة وفاء، تجري مجرى النقود) (طعن رقم 127 /2002، بتاريخ 26 نوفمبر 2002م).
ـ وهذا ما أكَّدته المحكمة العليا أيضًا في حكمها الصادر مؤخرًا، بتاريخ 16 أبريل الجاري، حيث قررت قبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بنقض الحكم المطعون فيه وإعادة أوراق الدعوى إلى المحكمة التي أصدرته، لتتفصل فيها من جديد بهيئة مغايرة.
ـ وفي تفصيل هذا الحكم، نشير إلى أن الادعاء العام كان قد أحال المتهم (م. ش) إلى المحكمة الابتدائية بسمد الشأن، لأنه بتاريخ 4 /9 /2018م، أعطى شيكًا بقيمة (3517) ريالاً عُمانياً، للمجني عليه (م. س)، مسحوبًا على بنك مسقط، لا يقابله رصيد قائم، وفق الثابت في التحقيقات، أقر المتهم استدلالاً (أمام الضبطية القضائية)، وكذا في تحقيقات الادعاء العام، وفي التحقيق النهائي (أمام القضاء) بما هو منسوب إليه من اتهام، موضحًا ذلك بالقول أنه كان قد استأجر من المجني عليه عقارًا ليقيم عليه مصنعًا للطابوق، بإيجار شهري قدره (500) ريال عماني، وسلمه الشيك محل الدعوى على سبيل الضمان، بعد أن اتفقا على أن يعمل المجني عليه على إعادة أصل الشيك إلى المتهم، عقب استلام كامل الإيجارات إلا أنه أخفق عن السداد، بسبب احتجازه في إحدى مراكز الحبس الاحتياطي، لتورطه في قضية أخرى، وتوقف المصنع عن العمل والانتاج.
ـ خلصت المحكمة الابتدائية إلى عدم ثبوت التهمة بحق المتهم، كون الشيك محل الدعوى سحب على سبيل الضمان لا الوفاء، وقررت حضوريًا براءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه، وعدم الاختصاص بالمطالبة المدنية.
ـ وكانت المحكمة قد استندت في حكم البراءة إلى وجود مبدأ سبق وأن أرسته المحكمة العليا في الطعنين رقمي (139 /2003، 140 /2004)، يشير المبدأ اختصارًا إلى أن الشيك الذي يصدر على سبيل الضمان، لا الوفاء، يسقط عنه الحماية الجزائية.
ـ لم يرتضِ الادعاء العام بحكم المحكمة الابتدائية، فطعن في الحكم أمام محكمة الاستئناف، مُستندًا في ذلك إلى أن المادة (356) من قانون الجزاء الجديد، رقم:(7 /2018)، لم يقيد النص بشيك وفاء أو ضمان؛ وإنما اكتفى في قيام الجريمة مجرد تسليم الشيك القابل للصرف دون أن يكون له مقابل، وأن الشيك يتمتع بالحماية الجزائية، في جميع حالاته، بمجرد التوقيع عليه؛ وذلك، حماية للمتعاملين معه ولا مجال، والحال كذلك، للبحث في الباعث من إصدار الشيك.
ومع ذلك، قررت محكمة الاستئناف قبول الاستئناف شكلاً، ورفضه موضوعًا، وتأييد الحكم المستأنف؛ أي أنها أيدت حكم البراءة على أساس أن الشيك سحب للضمان، لا للوفاء.
• لم يرتضِ الادعاء العام بالحكم، فطعنت فيه أمام المحكمة العليا، للخطأ في تطبيق القانون، والفساد في الاستدلال، وتمسَّك أمام هذه المحكمة بمقتضيات المادة (356) التي يستفاد منها أن جريمة إعطاء الشيك بدون مقابل تتحقق بمجرد إعطاء شيك يدل في مظهره على أنه مستحق الأداء، باعتباره أداة وفاء، مع علم الساحب بعدم وجود رصيد قائم وقابل للسحب.
ـ أيّدت المحكمة العليا الدفع الذي تمسك به الادعاء العام وقررت قبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بنقض الحكم المطعون فيه، وإعادة أوراق الدعوى إلى المحكمة التي أصدرته، لتفصل فيها من جديد بهيئة مغايرة.
ـ وفي الختام، نقول أن المسئولية الجزائية لساحب الشيك تبقى قائمة، دونما النظر إلى البواعث والأسباب، بل تبقى المسئولية قائمة وإن كان السبب غير مشروع ذلك، لأن المشرِّع، عندما أسبَغ على الشيك الحماية الجزائية، إنما انصرفَ قصده إلى حماية التعامل مع هذا الصَّك، الذي يقوم مقام النقود في التعاملات؛ للحيلولة دون زعزعة ثقة الناس به كأداة وفاء قابل للتداول.
* ترقبوا في الأسبوع القادم المزيد من الومضات في هذا القانون.