القرآن كله نصٌّ مترابط، وهو نصٌّ كذلك متناغم، متكامل، وسُوَرُهُ تتعانق، وآياته تتآزر، وقد تترابط آياتٌ في سورة معينة مع آياتٍ متقدمة في سورة، أو سور أخرى ارتباطاً شديدًا، بل قد تترابط سُوَرٌ بِسُوَرٍ بعدها، حتى إن بعض الصحابة كان يقرأ السورتين معًا على اعتبار أنهما سورة واحدة من شدة ارتباطهما دلالياً ولفظياً، سَبْكًا وحَبْكًا، كما كان يفعل سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عندما كان يقرأ سورة الفيل، ثم يواصل فيقرأ معها سورة قريش لارتباطهما ارتباطا عضويًّا، ودلاليًّا، وسياقيًّا، ويقول:(هماكسورة واحدة) من شدة التماسك بينهما، وتوجد في اللغة العربية روابطُ لفظيةٌ تزيد من تماسك النص، وتُعْلي من شأن تآزره، وتعانقه، وتآلف جمله، وتآخي عباراته، سواء أكانت تلك الأدوات حروفًا، أم أسماء، أم أفعالا، ولكنني سميتُها هنا بالأدوات؛ ليدخل فيها كلُّتلك الأنواع، ومن تلك الأدوات الحرفية الرابطةحروف العطف، مثل: (الواو، والفاء، وثم ، وأو، وأم ، ولا، ولكنْ، وبلْ)، وأدوات الشرط، مثل:(أسماء كانت أو حروفا ) مثل:(إنْ، ومن، وما، ومهما، ومتى، وأين، وأينما، وأنَّى، وحيثما ، وكيفما، وأيّ)، وأدوات التعليل، مثل:(حيث إن، ولذا، ومن ثم، وعليه، ومن هنا، ومن أجل ذلك، لأجل ذلك)،وهكذا، وروابط التمثيل، مثل:(ومن ذلك ، كما، مثيل ، نظير، شبيه، مضاهٍ، مثل، ومثل ذلك)، وروابط السببية، كقولنا:(بسبب أن، ونتيجة لذلك، وبناء عليه، وترتبا على ذلك)، وروابط الأثر والنتيجة والعاقبة، مثل:(وخلاصة القول، وجملة الكلام، وترتبا على ذلك، وفحوة ما قيل).
ومنها كذلك التوابع النحوية بصورة عامة، من: العطف، والتوكيد، والنعت، والبدل، بكل صورها، وأنماطها اللغوية، ويدخل فيها كذلك وسائلُ امتداد التركيب في اللغة،وهي التي تناولناها كثيرا سابقا في مقالات مطولة، ومتخصصة، ومتنوعة.
وإذا تجاوزنا تلك المقدمة لننظر في آيات السورة الكريمة التي يقول الله تعالى فيها:(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)، حيث تبدأ السورة الكريمة بأداة الشرط (إذا) التي تربط وتمتِّن العلاقة بين الشرط، وجوابه، وتفيد تكرار الحدث،وتحقق حصوله، فمجيء نصر الله والفتح، ودخول الناس في دين الله أفواجا هو أمر محتومٌ، محقَّقٌ، واقعُ، لازم لا محالة؛ ومن ثم فالتسبيح والاستغفار لابد أن يحصلا من المؤمنين لأن وعد الله حق، وحَقِّيَّتُهُالحتْمية أتتْ، وفُهِمت من استعمال القرآن الكريم للأداة (إذا) التي تفيد التحقيق، واستمراه، ثم تأتي جملة الإضافة:(جاء نصر الله والفتح) التي ترتبط بالمضاف ارتباط القلب بالجسد، والروح بالجسم، وتُشَدُّ معه برباط متين، وحبل قوي، حيث لا يمكن حذفها، فهي الرابط الذي يَشُدُّ، ويربط الجواب بالشرط هو والفاء الواقعة في الجواب، كلٌّمنهما يُقَوِّي من تماسك الجملة، وتآزر دلالتها، وتوقُّف الجواب دائما يكون على حصول الشرط، وحصول الجواب يكون فور حدوث الشرط، فهما متعانقان، متآخيان، متضامَّان، والفعل (جاء) فعلٌ ماضٍ، فاعله هو (نصرُ الله)، وهو تركيب إضافي، ارتبط فيه المضاف بالمضاف إليه، ومن شدة ارتباطهما وتناغمهما وجدنا أنه قد وَرَدَ عن النحاة قولهم:" المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد" أيْ كأنها كلمة واحدة، حيث يعمل المضاف في المضاف إليه، ولا مضاف إليه من غير مضافٍ، ولا معنى للمضاف من غير استناده إلى ما بعده، وهو(المضاف إليه)، وارتباط (النصر) عل سبيل الإضافة بلفظ الجلالة (الله) من قبيل إضافة المصدر إلى فاعله، أيْ ينصر اللهُ،أو نصرٌ لله، والمفعول محذوف، تقديره: ينصر الله المؤمنين، أو المسلمين، أو المحسنين، أو الطائعين، أو المتقين، وقد حُذِفَ لتتسع دائرة نصر الله لكافة المطيعين: مسلمين كانوا، أو مؤمنين، أو محسنين، ثم تتمتَّن العلاقة بالعطف، حيث عُطِفَ مفردٌ على مفرد، أيْ جاء النصرُ والفتحُ، والأول معرَّف بالإضافة، والثاني معرَّف بأل، أيْ هما معرَّفان مشاهَدان معلومان، غير منكَّرَين، واضحان وضوحَ الشمسِ في سماها، والقمرِ إذا تلاها، والمعطوف، والمعطوف عليه كالشيء الواحد أيضًا، فكلها تتآخى، وتتآزر، وتتماسك تماسكا لا نهاية له، والواو هنا لمطلق الجمع، أو الجمع المطلق، فالنصر يأتي أولا، ثم الفتح أو الفتح يأتي أولا، ثم النصر، المهم أنهما قد تجمَّعا في نهاية المطاف، ونزل تمامُ النعمة، وكمال الفضل، وترتبط الجملة الشرطية، ومعطوفها بالظرف:(إذا) الذي قام في الوقت نفسه مقام أداة الشرط، فترتبط ارتباطًا قويًّا، فلا يمكنك السكوت عن الكلام، وإغلاق الحديث قبل إتمام المعطوف والمعطوف عليه، وهو ما يؤكد تماسكها، وصدق تعانقها، فالواو هنا كذلك لعطف المفردات، وهو من أنماط وألوان التماسك اللفظي، ثم تعقبها الواو العاطفة للجمل، والممتِّنَة لأواصر ووشائج القربَى بين الجمل، ووراءها الدلالات، حيث عطفت جملة:(ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً) على جملة (جاء نصر الله والفتح)، الأمر الذي يتأكد معه استمرار الدلالة، واستدرارُ النعم، واستقرارُ الفضل من الله، حيث امتنَّ أولاً بالنصر، ثم الفتح، ثم رؤية نتائج ذلك بدخول الناس في دين الله أفواجًا، وأرسالا، واستمرارًا وتِبَاعًا، فترى القرى تأتي تبايع وتؤمن وترى المحافظات والمدن والدول والقارات كلها تأتي وراء يعضها ومن ثم جاء الفعل الذي يفيد الرؤية:(وترى) فقد استعمل القرآن الكريم في تلك السورة أفعال الحركة.

د/جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية
[email protected]