د. رضية بنت ناصر الهاشمية [email protected]
تقوم المجتمعات البشرية على المعرفة، ويعد التعليم هو بوابة الدخول إلى عالم المعرفة ومصدر تطور هذه المجتمعات والتنافس فيما بينها. وقوة هذه المعرفة التي يمتلكها مجتمع ما يحدد مدى قوته بين تلك المجتمعات. وهذا ما عبر عنه "فرنسيس بيكون" قبل أكثر من أربعة قرون حين كتب أن "المعرفة قوة". وتتشكل وتتحول هذه القوة من عصر إلى آخر بحسب ما تقتضيه مصلحة التطور الحضاري للمجتمعات الإنسانية. إلا أن التحول المعرفي الذي ظهر مع بداية القرن الحادي والعشرين أحدث تغيرات جذرية وتحديات حقيقية بسبب هيمنة معرفة جديدة هي المعرفة التكنولوجية.
وتكمن قوة المعرفة في كونها ليست معرفة تكنولوجية فقط، بل تتعدى بأن تكون محركا رئيسيا للنمو الاقتصادي. ليصبح الهدف من المعرفة ليس تحقيقها وإنما صناعة وإنتاج المعرفة. ويمكننا القول إن المعرفة في هذا القرن؛ معرفة اقتصادية، تقوم على التداخل بين المجالات الفيزيائية والرقمية والبيولوجية، لتصبح مزيجا واحدا غير منفصل تظهر في الإلكترونيات الدقيقة وقوة الحاسوب (الكمبيوتر)؛ لتظهر على هيئة إنسان آلي- (Robot)- أو كما يُعرف بالذكاء الصناعي أو الاصطناعي. ويمكن القول إن هذه المعرفة ما هي إلا محاكاة للذكاء الإنساني، تتم عبر برمجة حواسيب آلية. وقد أثرت هذه المحاكاة في جميع المجالات الاقتصادية والصناعية والعلمية، بل وغيرت الكثير من المفاهيم الإنسانية.
- والسيطرة على مثل هذه المعرفة يشبه سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على النظام المالي والاتصالات والميدان العسكري، وهذا يفسر لنا التسابق والتنافس نحو امتلاك هذه المعرفة. ويظهر هذا التسابق في الحرب الباردة بين الصين والولايات الأميركية والتي تعود لأسباب اقتصادية أكثر من كونها سياسية. ففي اللحظة التي تغلب فيها نوع من الذكاء الصناعي على بطل العالم في لعبة من اختراع الصينيين عام (2016م) أدرك الأميركيون امتلاك الصين تقنية أكثر تقدما. وقد أعلنت الصين في يوليو (2017م) عن أهدافها وهي أن تصبح من بين أفضل الدول لسنة (2020م)، وأنه بحلول (2025م) سيشكل الذكاء الاصطناعي القوة الأولى في كل صناعتها، وفي (2030م) يتحتم على الصين أن تكون "الرائدة عالميا في مجال الذكاء الاصطناعي". (www.aldohamagazine.com). وتخيل نتائج ذلك؛ فالذكاء الاصطناعي سيطبق في كل المجالات: الصحة والتربية والتجارة والقانون والفن والرياضة والاستكشافات العلمية وغيرها.
إن التوجه نحو الاقتصاد المعرفي توجه عالمي، حيث تهدف المنظمات العالمية مثل اليونسكو والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي إلى الاستثمار في الاقتصاد المعرفي القائم على إعداد أفراد فاعلين في بناء المعرفة الاقتصادية. ويعد التعليم منصة بناء هذه المعرفة؛ وللحصول عليها لا بد من اعتماد المعرفة العلمية والإبداع والذكاء المعلوماتي كأسس لنظام ذلك التعليم في إعداد عقول بشرية جديدة ـ إن صح التعبير ـ ويتيح لكل فرد فرصة ليتعلم كي يعمل ويتعلم كي يعيش مع الآخرين ويتعلم كي يحقق ذاته. ويمكن القول: إن لم تحقق المعرفة الجديدة قيمة وتنافسا اقتصاديا من خلال توظيفها ستصبح قابلة للنسيان والاندثار.
فنحن بحاجة إلى نموذج اقتصادي جديد مختلف عن نموذج القرن العشرين ـ الذي ركز على الصحة والتعليم وحرية الفرد والشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص على وجود سوق حرة يتيح تلبية الاحتياجات الأساسية لكل إنسان معتمد على موارد الكوكب الذي نعيش فيه ـ نموذج يركز ويعظم رفاهية الإنسان أكثر من النمو ذاته، ويقوم على نوعية الحياة التي نرغب في عيشها. لذا يأتي هذا النموذج الاقتصادي كهدف إنساني يتصف بالإبداع والابتكار والتطور المستمر. وعليه وجب أن نغير من خصائص وسمات مجتمع التعليم الذي نريده للمرحلة القادمة لنتمكن من الحصول على هذه القوة أو هذه النوعية من المعرفة.