[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2017/03/rajb.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. رجب بن علي العويسي[/author]
يأتي تناولنا للموضوع في ظل ما تعيشه المنطقة العربية عامة والخليجية خاصة من تحديات سياسية ألقت بظلالها على واقعها الاجتماعي وتعاطيها مع قضايا التنمية وبناء الإنسان، وما ولدته حالة التنمر السياسي الحاصلة من تأثيرات سلبية انعكست على مختلف جوانب الحياة اليومية للمواطن العربي، وأثرت على منظومة القيم والمبادئ والأخلاقيات والأعراف التي تميزت بها الشخصية العربية، وما ارتبط بها من سلوك الإساءة والاعتداء والإيذاء، وسياسة الكره والإكراه والحصار، والوصاية وفرض سياسة الأمر الواقع (مع أو ضد)، وما نتج عنها من التدخلات في السيادة الوطنية للدول، وسلوك التهكم والسخرية والإيذاء النفسي والتشهير اللاأخلاقي للرموز والقادة، وحالة التأزم النفسي في السياسة الداخلية والخارجية، والتشويه للكثير من المبادئ والقيم والأخلاقيات التي تعكس شخصية الإنسان العربي، القائمة على روح التضحية والإباء، والمسؤولية والنخوة العربية والتماسك، في ظل اتساع مسارات مقومات الوحدة العربية، كالتأريخ المشترك واللغة العربية وما تتقاسمه شعوب المنطقة من عادات وتقاليد وتراث وموروث حضاري وتراثي وفني، ووحدة المصير المشترك، ووحدة التحديات التي تواجه الأمه والقضية العربية الفلسطينية وغيرها من الممكنات التي باتت تواجهها اليوم إشكاليات الاعتراف والتقنين وزيادة الخلافات بشأنها.
لقد أسهمت حالة التنمر السياسي التي تمر بها المنطقة في وأد الكثير من الطموحات والأولويات الحضارية التي أسسها المخلصون من هذه الأمة وعملوا على تحقيقها، وتأصلت في الإنسان العربي القيم الداعمة لتحقيقها في ظل القواسم المشتركة والتآلفات المتناغمة بين كيانات الأمة وأنظمتها رغم وجود الاختلافات، إلا أنها أثبتت قدرتها على تجاوز الكثير من المحن، وأسست لشراكات إقليمية أنتجت الكثير من التوجهات الإيجابية على مختلف الأصعدة، بيد أن حالة التنمر السياسي الكبرى التي تعيشها المنطقة قد أسقطت كل الأحلام، وأفصحت عن حالة التصدع الحاصلة في مسيرة التضامن العربي والعمل العربي المشترك، ضمور القرار العربي وعدم فاعلية جامعة الدول العربية أو المنظمات العربية الأخرى المنبثقة منها، والتي يفترض أن تسهم بدور فاعل في جمع الشمل العربي، وتأكيد الوحدة العربية، واحترام المواثيق والمعاهدات العربية – العربية، وزيادة حجم التبادل الاقتصادي والتجاري، ومساحات التفاهمات وتعميق الشراكات في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والفكرية، وتعزيز فاعلية الرأي العربي في التعاطي مع القضايا العربية، وطريقة نقل القضية العربية الأساسية (فلسطين) إلى منظومة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، غير أن ما أثمرت عنه هذه الانتكاسة العربية من تحديات ألقت بظلالها على مسارات العمل العربي المشترك، وانتجت سياسة أقرب إلى العدائية وعدم الاستقرار وإثارة الفتنة وتكريس دور الحزبية السياسية المعارضة، وتعميق الفئوية والمناطقية والمذهبية، وتأصيل ثقافة الكراهية والتخويف، والترويج لمفاهيم الفساد والإفساد والمظاهرات وغيرها.
على أن ما يحصل من حالة اللااستقرار التي تعيشها بعض الأقطار العربية في العراق واليمن وليبا وسوريا والحصار المفروض على قطر، كل ذلك أنتج تحولات سلبية على مسار العمل العربي المشترك، لم يقتصر على أروقة السياسة فحسب بل اتجهت إلى العمق العربي ذاته (الأخوة العربية والشارع العربي وقيم وأخلاقيات الإنسان العربي)، في ظل انحراف الإعلام عن رسالته، وتسييسه وتوجيهه للنيل من كرامة بعض الشعوب العربية وهويتها، وإثارة الأحقاد والكراهيات التي باتت تصنع من الإعلام حالة بائسة تفتقد للقيم والأخلاقيات والمبادئ والأعراف الإنسانية، وتتقاطع مع منظور الرسالة الإعلامية ودورها في بناء السلام وتحقيق الأمن وترسيخ النظام وتعميق روح المسؤولية وبناء حصون التنمية، وحفظ حق الإنسان العربي أينما حل واستقر، وما تشهده الساحة الإعلامية العربية من شد وجذب وافتقار لمنهج الحكمة في التعامل مع مجريات الواقع ومعطياته وتطوراته وأحداثه، وتكريس لغة الفوقية وأسلوب الاستفزاز، وما انجرت إليه من مساوئ الحروب والتدمير، والتطاول على أخلاقيات الشعوب وتراثها وتأريخها وحضارتها وهويتها وأصالتها، ومحاولة الوصاية عليها، وافتعال الأزمات وإثارة الأفكار العدائية القائمة على إرباك الشباب وتضليل الحقائق وتجييش العالم الإلكتروني لبناء الصورة السوداوية التي باتت تعيشها بعض السياسات العربية في ظل ازدواجية المعايير وضعف ثقافة الحوار السياسي العربي ومصداقية السياسة الخارجية، وإدخال القضايا المجتمعية والقبلية والحدودية وغيرها في خضم هذه الأزمات، وحالة الهذيان والسلوك الطائش في التعامل مع الأخوة الأشفاء، حتى تحول السلوك العربي نحو الأخ والشقيق والجار والرحم العربي، إلى تراشق بالكلمات النابية، والألفاظ المسيئة والكلام المستهجن، والتشويش في أثناء السلام الوطني، والتي أفصحت عن أنموذج سلبي في شخصية الإنسان العربي وتعاطيه مع مفهوم التباينات السياسية وغيرها من الانتهاكات الصارخة لقيم المروءة وحقوق الشعوب وحرية التعبير، بما ينبئ عن قادم مشؤوم يعصف بكل المبادئ والأخلاقيات والمنهجيات وقيم الأخوة، والمشتركات الإنسانية العربية والعلاقات والتفاهمات المشتركة، لينتج جيلا آخر يعيش على تراكمات ومفاهيم وأفكار عدائية، انعكست سلبا على بناء هندسة الإنسان العربي وشخصيته ونقله من حالة التوازن التي كانت تعيشها الشعوب العربية في فترات طويلة، والمسلمات والقناعات التي تحملها حول حقوق الإنسان العربي في أي بقعة من العالم، والتقدير والاحترام الذي كان يؤمن به الإنسان العربي نحو أخيه الإنسان العربي الآخر المختلف معه مذهبا ودينا ولونا وعرقا والمؤتلف معه في إنسانيته العربية وأخلاقه ومبادئه وقيمه وأعرافه وتأريخه ومصيره وقضاياه.
وعليه لم يعد هذا الواقع السياسي العربي، قادرا على إنتاج القوة وتصحيح الأوضاع وبناء الذات العربية وردم هوة الخلاف وتعزيز منحى التصالح، وتقريب مسارات العمل المشترك، وإبعاد الشعوب عن الخلاف السياسي، وتجنيبها حالة عدم الثقة الحاصلة بين القائمين على السياسة العربية، فقد أنتج من الإنسان العربي شخصية مغايرة للطموح، مستهلكة غير منتجة، لا تتمتع بأي حصانة أخلاقية أو قيمية أو مهنية تصنع لها حضورا في العالم والمحافل الدولية، فالعالم يراقب الحالة العربية، وما يحصل فيها من إساءة الأمانة، وغدر الأصحاب والأشقاء، وكراهية الأخوة، مسارا لرفع سقف مطالبه وشروطه التي سترهق كاهل الإنسان العربي حتى في قبوله كإنسان له حق اللجوء السياسي أو الحماية والرعاية في دول العالم المختلفة، إن ما تصنعه السياسة العربية اليوم في أكثر أحوالها من حالة الاختزال لخصوصية الإنسان العربي (ثقافته ونجاحاته وإنتاجه وأمجاده)، تكريس لحالة الفوقية والسلطوية والانا وثقافة الضدية بين إخوة البيت العربي الواحد، والتي باتت تطرح على الواقع العربي نهضة أخرى وثورة نحو العودة للأخلاق والقيم العربية، لسنا بحاجة اليوم إلى الربيع العربي الذي بات يشكل تهديدا ليس للسياسات والحكومات العربية المخلصة لشعوبها فقط، بل للإنسان العربي وحضوره وموقعه ومكانته بين العالم، ونظرة الآخرين إليه حتى أفقده توازنه وأضاع مكانته وأفسد مشروعه في حماية منجزات الأمة، وإعادة الهيبة لها وللغتها العربية الفصحى ولتاريخها الماجد الذي سلبه الاستعمار، وها هي غوغائية السياسة تضيّعه اليوم، وتُسلمه لكل المتسلقين على الضمير العربي والساعين لفرقته وذهاب ريحه.
إننا بحاجة إلى دور أكبر لنهضة الشعوب العربية (فكرها وأخلاقها ومروءتها) في إعادة الهيبة للشخصية العربية، وعدم الانجرار وراء هذه الأفكار التي باتت تسيء للأخوة العربية، وإن على الحكمة العربية ممثلة في المخلصين من قادة الأمة وعلمائها ومثقفيها والقائمين على أمور السياسة والإعلام والفتوى، مراجعة الأمر وإعادة تصحيح المسار، وتوجيه العمل في الفترة القادمة إلى إصلاح ما أفسدته السياسة وأنتجته من ثقافة الكراهية والتهور والاندفاع، وأبرزته من وجه الشؤم والقلق والترويع والخوف، وأن تؤدي الدبلوماسية السياسية والبرلمانية والتعليمية والإعلام المسؤول، دورا قادما في تصحيح المفاهيم الخاطئة التي بدت تزجّ بنفسها في الشارع العربي، وتلقي بتفثها على المثقفين والمتعلمين والعلماء والفقهاء وعلماء الدين، من أجل حقن دماء أبرياء الأمة من الأطفال والشيوخ والنساء وغيرهم، وتحصين الشعوب العربية من موجة العنف القادمة التي تمر بها وحالة الغليان التي تشحن الإنسان العربي، لترده إلى صوابه ووعيه، وتضمّه إلى حاضنة الأمة في مبادئها وأخلاقها وقيمها وسلوكها وعقلانيتها، فلم يعد من وقت في انتظار استمرار هذا الواقع الذي بدت ملامحه تأخذ منحى خطيرا، وأوجدت مسارا تعبويا، وشحنا تحريضا يتنافى مع كل الأعراف الدولية، حتى بدأت إسقاطاته تنعكس على الساحات الترفيهية والرياضية والتعليمية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والتجارية والصحية والأمنية وغيرها، وتبقى مسؤولية كل إنسان عربي البحث في كل محطات الإنجاز السابقة التي حققتها الأمة وأكد عليها قادتها الأماجد وعلماؤها الأخيار الذين سعوا لوحدتها وتضامنها، ودعوا بكل صدق ومسؤولية إلى وحدة الصف، وتعزيز التناغم والتكامل والتعاون والتعاضد بين أبناء الأمة، حتى أنتجت مشتركات عربية واحدة، في وحدة الهدف والمبدأ والمصير، إن اثبات حضور هذه الأمة وكفاءة الإنسان العربي في عالم المشحون بانتكاسات السياسة، تتطلب منه الوعي بمسؤولياته كجزء في هذه الأمة عليه مسؤولية تقوية منصات الحوار والشراكة وتأصيل مبدأ الأخوة بين أبناء الأمة، فإن المواقف هي من تصنع أخلاق الشعوب وتترجم معدنها الأصيل في قدرتها على تجاوز غوغائية السياسة واختلافات السياسيين، وأن القوة كل القوة في السير على هذا النهج، والخيرية كل الخيرية في الضمير الحي والشعور الواعي بحالة الأمة وشؤونها وقضاياها، حافظا لمبادئها، قائما على حدودها، ملتزما الحق والصدق في مواجهة كل أشكال التغريب القيمي والسقوط الأخلاقي، لتتفوق قيم الإنسان العربي وأخلاقه على حالة التنمر السياسي التي تعصف بالأمة، وحينها يسطر أروع نماذج التضحية من أجل بناء حصون السلام والتنمية، وتعزيز مسارات الحب والتضامن والحوار والتسامح والتعايش والوئام.