نطلُّ من شرفة الشاعر سماء عيسى على أرواح أمهاتنا الطيبات، نتلمّس الجدران والأزقّة الباردة، نهيم في لغة الوجد والحنين كما يهيم المتصوفة في الطواسين، علّنا نصافح ملائكة الجبل، ونحضن الحواريين الذين قتلتهم القلعة، ونستوضح من خلف الضباب الكثيف وجوه أمهاتنا الراحلات عبر نص سردي توزّع على تسعة مقاطع، كل مقطع منه هو حكاية أمٍّ سحبها الموت نحو عرشه المكين .
(1)
يكتب سماء عيسى بدم قلبه لأرواح أمهاتنا، يستحضر الموت الراقص على الأجساد، يبعث الحياة فيهن من الموت الذي أخذهن بعيدا حيث الحلم والخيال. لغة الموت الجنائزية تحمل مشاعلها بين القبور النابتة على أرض الفقد المؤلم. تصبح القبور شرفات تطلُّ على العالم الآخر، عالم السفر الأبدي. فلكل قبر قصة روح عابرة؛ غير أن أرواح أمهاتنا ما زالت تهيم في المكان والطرقات، (وأنتِ جثةٌ تنامين على سفح جبل بعيد، أكل منكِ المرض القاتل كل وهج الحياة، لم يبق من وجودك على الأَرْضِ، غير ورقة يابسة صفراءَ، من شجرة عتيقة في موسم الخريف)*. إن علاقة المرأة بالشجرة علاقة رمزية موغلة في ذاكرة الانسان، موغلة في ذاكرة الشاعر المورقة بالحنين، تلك الشجرة المتفرعة تصبح بعد الموت ورقة يابسة صفراء. فالموت يسيطر على المشهد ويصبح هو مرآة الطبيعة الذابلة، ( الأرض لا تنبت إلا هذا الضياع الدائم، وهذا الأفول الذي يعتري قلوبنا وأرواحنا منذ ولادتنا ويتربص بنا كنمر جاثم في الطريق)*. ثمة أسئلة تتقافز في طريق سراب الحلم، أسئلة توجّه نظراتها الحادة إلى الحياة، إلى الكون المترامي، ثمة أسئلة تحمل في رحمها أجوبتها الوجودية الساخرة، ( لم ليس الصدفة ستقود هذا الكوكب يوما إلى فناء قريب، جراء ارتطامه بكواكب أخرى في مسيرته المجهولة التي لم تكن لها بداية يوما ما، ولن تكون بها نهايةً يوما ما)*. إن فناء الجسد يصاحبه زوال الألم، كما أن الموت هو حرية الروح، أنه (رحمة الرحيل بعد تجربة عذاب مر)*، في نص سماء عيسى طرح فلسفي عميق لما بعد الموت، تمتزج هذه الفلسفة مع لغة شعرية جنائزية تحركها طاقة الفقد والحنين. فبرغم حدث الموت الذي هو رغبة روحية للإنعتاق من سجن الجسد المريض سيكتشف القارئ أن الموت هو رغبة جسدية كذلك..
(2)
وأنا أقرأ المقطع رقم (٢) تذكرت صديقا روى لي كيف توفت أمه بعد ولادته مباشرة، ولم يجد والده أمرأة ترضعه من نساء القرية، فأستخدموا حليب العنزة التي صادف أن ولدت في نفس الفترة، ويروي لي أنه كان يحبو بإتجاه العنزة حينما يجوع ويرضع منها مباشرة، وحينما يكون مربوطا في إحدى خشبات البيت فإن العنزة تأتي بنفسها لترضعه ، بل إنها لو رأت أحدا يقترب منه تسرع نحوه لتحميه وتدافع عنه؛ وكما يقول سماء عيسى: ( إنها الألفة، إنه تجلي العشق)*.

(3)
ما العلاقة بين الشاعر والحزن؟ بين العزلة والحزن؟ وكيف نجد في الحزن أنفسنا؟ ينتصر سماء عيسى للحزانى دائماً، للأمهات الصامتات الآتي يحملن موتهن في وجوههن الجميلة وكأنها أعواد الثقاب ( كان صمتها مقدسا هادئا وبريئا، حتى مع رغد العيش الذي عاشته في السنوات الأخيرة من عمرها، ظل الحزن هو ما يكسو ملامحها، كان مسيطرا عليها منذ الطفولة، لم أجدها يوما تضحك أو حتى تبتسم، إلا والحزن الدفين يغطي في عذوبة نادرة ملامح وجهها الريفي الهادئ)*. ما بين المدينة والريف مسافة لا يقطعها الزمن دون المرور بأحراش كثيفة وأوابد مخيفة، يصطدم إنسان الريف باللاانسانية المدينة، فأما أن يختار العزلة والصمت وأما أن يغوص في وحل النفاق الاجتماعي. فمن يختار العزلة والصمت لا يقوى على فجيعة موت مَن يُحب، تزداد العزلة والصمت وتصبح المدينة حالة موت لا يأتي، في المقابل تصبح القرية هي الأم الحنون، هي الملآذ الآمن، يخلق سماء عيسى مفارقته المدهشة من التضاد السابق؛ حينما تترك الأم أبناءها لتعود لحضن أمها بعد أن فقدت أحد أبنائها ، يقول: ( غير أن الموت لا يعرف ولا يقدر هذه الأماني، فجأة ونحن في غفلة الدنيا وجريانها التافه، اختطف ابنتها الصغرى في حادث سير مفاجئ، بعدها اقتربت حياتها من الموت، وعادت الأدراج إلى حضن أمها في القرية بحثا عن المأوى القديم لحزن ظل ينزف دما بقية عمرها)*.
(4)
إن كانت المقاطع السابقة تنضوي على قصص أمهات أخذهن الموت بعد عذاب ومكابدة، فإن المقطع رقم(٤) يمثّل حالة قتل قاسية، فالدم المسفوك لم يجف بعد، ورائحة الرصاص تملأ المكان، والقاتل ما زال يغني. وبرغم اكتمال أركان الجريمة غير أن سماء عيسى يجعل المقتول أُمَّا مجهولة!!، فهو بذلك يفتح نافذة التأويل للقارئ على أمهات عديدة، يقول:( كان القتلة قد ابتنوا لهم قلعة على البحر، وكانت كل منافذ القلعة وأبوابها مغلقة، فقط باب يفتح طريقه إلى البحر وهو يأخذهم إلى ما وراء البحار التي جاؤوا منها)*. من المفاجآت الكثيرة التي يقدمها لنا المقطع رقم (٤) سنتوقف طويلا أمام المقارنة الساخرة بين ذاكرة الانسان الضعيفة وذاكرة المكان بما يحتويه من جدران وأشجار وحيوانات ( بقى ثمة دم ينسلُّ على الأرض بين فترة وأخرى، دم ينتشر بالمنازل والجدران والأزقة، نسينا الدم لكن الجدران لا تنسى ولا الأشجار التي تشكلت عروقها وأغصانها وثمارها من جثث أنبياء الأرض تنسى، ولا الغنمة الصغيرة الواقفة في حزن عند الباب تنسى، ولا القطة في الطلل المهجور وهي ترسل مواءها الليلي الحزين تنسى)*. إن استدعاء كل هذه الرموز في حادثة القتل يستوجب من القارئ التفكير الخلّاق في معرفة هويّة الأم التي تفجّر مخيال الشاعر بذاكرتها الخاصة، فرموزها كالقلعة والبحر والغنمة والقطة والطفل الميّت الذي يتغذى من الدم كلها مجتمعة تشكّل صورة الأم المقتولة.

ملاحظة:
المقاطع التي ورد في آخرها ( * ) تم تضمينها من مجموعة الشاعر سماء عيسى (شرفة على أرواح أمهاتنا)..

حمد الخروصي
twitter: @hamed_alkharusi