[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]لم أتوقع للحظة واحدة، أن أكون في موضع كأنني أعشقه منذ ولدْت، وأتمنى أن أقضي فيه وقتا، منذ عرفتُ سلسلة الأماني المحبطة والأحلام المهصورة.. ولكنني وجدتُ نفسي في حضن الحلم: "الأشجار الخضراء، والهضاب المُعْشِبة، وشموخ النخل الفتي بثقة وبهاء، بين الصنوبر والمانجو والحَوْر والقصب الاستوائي، والماء الغزير، وفي حضن تنوع طبيعة ساحرة تمتد بساطا أخضر. تُرى من قال للصينيين إن طينتي مجبولة مع العشب الأخضر والأزهار وتدرجات اللون الممتدة بين الحقل والوردة والغابة والسماء الصافية، ونُثار ذهب الماء في الفضاء.. حتى هيأوا ذلك في حديقة الجبل الأخضر الممتعة التي تمتد إلى الشرق والشمال الشرقي من مدينة "نانيين"؟! ومن قال إن مدينة الحرير الصيني "سوجو" التي زرتها، هي جنة الصين على الأرض؟! ربما كانت جنة الصين هنا في الجنوب، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يجزم بشيء، بعد المفاجآت التي تعدّها الحياة والطبيعة وأنفس طيبة، في هذه الأرض الغنية؟!النهر يرافق التلال الخضراء والأشجارَ الباسقة، والطريق يصعد بنا رويدا رويدا إلى مرتفع تنداح في جنباته الغابة، حيث تترنح الطيور على ألحانها طربا.. هناك على مَقرُبة منا، تبدو قمةُ "الباجُودا" البوذية من جديد، وأقواس البوابات الصينية المُعتادة فوق الأدراج. مشينا بين الخضرة على ضفاف البحيرة ثم صعدنا الدرج، البوابة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة... وانفرجت الخضرة عن البرج العملاق المُكوَّن من إحدى عشرة طبقة: تتكون الباجودا من طبقات مفردة: خمس أو تسع أو إحدى عشرة أو ثلاث عشرة، والمعتاد بين تسع وثلاث عشرة. أمامنا على الأدراج أطفالُ مدرسة، أخذوا يصعدون فوق أدراج البرج وينتشرون حوله، ونحن نتأمل الطبيعة الأخاذة.. هنا في هذه الحديقة يوجد قصر لنوردوم سيهانوك، قال شين.نوردوم سيهانوك؟! وقفز بي الخيال والذكرى معا إلى بنوم بنيه عاصمة كمبوديا، لقد نمنا ليلة في قصر نوردوم سيهانوك في تلك المدينة الغارقة في البؤس والألم.. كان ذلك قبل سنوات من ذلك التاريخ.. أذكر الخضرة في القصر، وأذكر الغرف المزوَّدة بأسِرَّة ذات "نامُوسيات" لتقي من البعوض الكثير الوقح، وأذكر وجوه الناس التي تفيض فقرا وبؤسا وقتامة. كان سيهانوك آنذاك خارج كمبوديا التي وصلنا إليها من فيتنام، بعد زيارة لمدينتي هانوي وسايجون، في فترة من فترات صراع الصين والاتحاد السوفييتي في المنطقة وعليها، صراع متعدد الوجوه، في صلبة قضايا أيديولوجية بين الماويين والسوفييت. ذَكرت اسم "بولبوت" أمام شين، فبادر بسرعة إلى القول: إن بولبوت في السجن الآن، قلت نعم... ولكن بولبوت قام بمذابح بشعة في كمبوديا.. والصين...قال شين: لم تعد الصين تهتم ببولبوت منذ ذلك الحين.قلت: أعرف ذلك، ولكنني رأيتُ بعض حصاد بولبوت.. رأيت بنفسي قمما من الجماجم أُخرجت من المقابر الجماعية قرب بنوم بنيه.. كان ذلك فظيعا.وعادت الصورة حية إلى ذاكرتي، صورة تلال صغيرة من الجماجم في مناطق المقابر الجماعية التي زرناها، وهي على مقربة من بنوم بينه. يومها كان بولبوت في الصين والموت في كمبوديا، الوحل يغطي الرؤوس المكوَّمة على حافة المقابر الجماعية كما يغطي الأيديولوجيات المتلهفة للدم. كم تعاطفنا نحن أعضاء وفد اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا الذي زار تلك المنطقة مع الشعب في كمبوديا، كان تعاطفنا كبيرا.. كنا نرى الناس هناك وكأنهم ضحايا تحت الطلب، وتنقلاتهم في الشوارع يعني جرجرة البؤس فوق الشوك، ومنظر البنايات المدمرة أو المحروقة يشير إلى إنذارات مقبلة وإشارات ماضية، ويشير إلى حرائق كتابة التاريخ وتاريخ الحرائق، وحرائق الإنسان. مواقع التعذيب التي كانت في المدارس أو في المواقع التي أعدَّت لذلك، مثيرة للمشاعر تماما، مليون إنسان قتلهم بولبوت وأنصارُه، هكذا قُدِّم لنا الرَّقم هناك، وأذكره كما قدِّم لنا، والمسؤولية على القائلين الذين أكدوا أقوالهم مرات ومرات. وأيا كانت درجة الكذب أو الحقيقة في ذلك، فإن ما يبقى منه يبقى بعد الحذف الممكن رقما كبيرا، وما علينا إلا أن نستعيد ساعة تعذيب واحدة، وميتا واحدا بريئا، ومقبرة جماعية واحدة، حتى تنتصب أمامنا مأساة الإنسان، ومأساة الحرية والعدالة على هذه الأرض، في مواقع شتى شهدت اضطهاد الإنسان للإنسان، وشقاء البشر بالبشر. وإذا ما فكرنا بالأسباب والنتائج التي تتصل ببولبوت وأمثاله، فإننا نقف على حصاد الأيديولوجيا الشيوعية المتطرفة من الأرواح البشرية، تحت وطأة بطش متطرفين في الصين والاتحاد السوفييتي وأنصارهما، بطشهم بشعوبهم وبالآخرين، يوم توافقا ويوم افترقا.. يوم حصاد ستالين، وحصاد عصابة الأربعة في الثورة الثقافية في الصين، وحصاد بولبوت، ومن كان على شاكلتهم في معسكرهم، وفي المعسكر الآخر "الرأسمالي" المناقض لهم، وفي معسكرات من هذا القبيل، يقف على رأسها الصهاينة في فلسطين، وتجاوزات على الله، والدين، والأخلاق، والقيم، والقومية والوطنية، في بلدان كثيرة، منها بلداننا العربية المصابة بداء من أدواء البشرية المنكوبة ببعض البشر.يا للبشرية المنهكَة المنتهَكَة، إنها تئن تحت نير البؤس والموت، يقتلها الغرب والشرق، ويقتلها المُفكرون الحمقى قبل السياسيين الأكثر حماقة، ويقتلها متدينون يفهمون الدتدين بغير ما أنزل الله سبحانه من هداية وسلطان.عظة طويلة جدا انتزعتني من الطبيعة الخلابة، وقذفتني بعيدا خارج الصين وخارج الزمن الحالي، أعادتني إلى جرائم الاستعمار الغربي الفظيعة في وطننا، والجزائر أنموذج النماذج الصارخ، وإلى رعب الحرب الاستعمارية في فيتنام ورعبها في كمبوديا وكوريا قبل التقسيم وبعده، وإلى عذاباتنا المستمرة في فلسطين على أيدي العنصريين الصهاينة وحلفائهم وأدواتهم، وإلى كثير مما يجري في أنحاء من وطننا العربي، وفي ما يُسمَّى الشرق الأوسط. كنت جامدا في مكاني، لا أعرف في أي موقع من الحديقة أنا، ولا إلى أين تتجه أمامي صور المحروقين والمقبورين أحياء والمعذبين حتى الموت والمدفونين تحت الأنقاض، والذين حصدهم الرصاص ومزِّقوا أشلاء بالقذائف، وغاصوا في أوحال المستنقعات، وابتلعهم الصمت الرهيب.."هيا بنا يا أستاذ… هيا..".جاءني صوت من بعيد، كأنّه من آخر العالم.. وكمن تنتزعه من كابوس وجدت نفسي أنتفض: ماذا... من؟!واكتست العبارة القادمة إليَّ لطفا وكياسة: "هل تريدون أن ننزل ونتابع جولتنا في غابة الحديقة الخضراء"؟! للحظة شعرت أنني أتنزَّل على نفسي وأعيد التواصل مع جسدي، وأخذَت آثار القشعريرة التي نشرتها الذكريات في جسدي تتلاشى شيئا فشيئا.. قلت نعم... وعرفَت قدماي المشي، كأنما هي المرة الأولى التي أخطو فيها على وجه الأرض.. سلكت قدماي طريقهما وكأنّهما تنطلقان من كساح مقيم...الدرج يعود بنا إلى مستوى آخر من أرض الحديقة الغابة، أو الغابة الحديقة.. والطريق المحفوفة بالأشجار عن جانبيها، تقودنا إلى هضبة ماتعة، مفروشة بالأعشاب المشوبة خضرتُها ببعض الاصفرار الخريفي، وفوق ذلك البساط العجيب تنتشر أشجار النخيل، مكللة بخُضرة غامقة. إن أنواع نخيل الزينة في هذه الحديقة لافتة للنظر، وبينها نخيل ورقُه يختلف عما عرفت ورأيت من نخيل، وهو يصطف إلى جانب أشجار، بينها شجرة نادرة تحمل قطوفا من ثمر قالوا إنه يُعصر زيتا للطعام، وهو زيت نخيل أيضا.كانت البهجة المنبعثة من انتشار البشَر على الهضاب الخضراء، ومعظمهم أطفال يلعبون، تغزوني وتغريني بالخروج من تأثير دوائر الكابوس المتلاحقة التي حلت بي وأنا في أعلى الهضبة، حيث الباغودا وذكرى بولبوت. ها هي الحياة متجددة.. الأطفال يضحكون والشمس مشرقة، والعمران مزدهر، كأنما لم يكن في الدنيا بؤس وعذاب وموت.. كأن لم يمر على الإنسان شيء من ذلك في التاريخ؟!النسيان نعمة من نعم الله على البشر، فلو استغرقنا في ذكرى حدث مُرٍّ لا تفارقنا، لدخلنا كهف الكآبة من دون أمل بالخروج منه، لكثرة ما يستدعي الكآبة ويجددها ويؤثِّلُها. إنها الحياة فيها كل ما يمكن أن يخطر على البال، وما يسبَح على متنه الخيال، وفيها الإنسان صانع الأعاجيب في كل مجال، وهو المعجزة الكُبرى على أية حال.. نعم إنها الحياة... هكذا هي.. هكذا كانت وهكذا ستبقى؟! من ذا الذي يعِدُنا بأمن وسعادة، وببعد عن المآسي والحروب والمجاعات والظلم وسطوة الطغاة والديكتاتوريات والعقول القاصرات الفاسدات في هذا العالم؟! من الذي يعدنا بغد لا نظير له، من حيث الأمان والازدهار والاحترام؟! كذب أيها الواعدون.. الحياة تسخر من كل ما تدَّعون ومن تعدونهم وما تعِدون به، الذاكرة البشرية تفيض بمخزونها أحيانا، فيعم طوفان من نوع خاص، والدهر لكم/لنا بالمرصاد… فهو ينقض بناءكم/ بناءنا، مدماكا مدماكا ولبنة لبنة، ويقدم ما لا تتوقعون.. ولكم أن تسألوا مَن الدهر، كيف هو، لم لا يقاوَم أو يُقهر!! أليس فعله في نهاية المطاف من صنعنا وبأيدينا نحن البشر؟!.. ربما نعم... ربما نعم... ولكنه خارج الإرادة والتقدير، لأن تفاصيل ما تصنعون وما تراكمون تفيض عليكم نتائجه من حيث لا تحسبون ولا تتوقعون... فيكون ذاك فعل الدهر، وما هو إلا تراكم فعلكم غير المنظور وغير المدروس في اتجاه انفجار على نحو ما، في وقت ما.. على غير ما تقدِّرون، فتكونون لناره وقودا، أو لجنته عُودا، وناره أكثر من جَنته، وهشيمه أكثر مما تحصون أو تتخيلون، والهشيم تسرح فيه النار كيف تشاء، وببساطة قد لا يقدرها أو يتوقعها الأحياء.مشيت.. وتجاوزت صخورا يُسَقْسِق منها الماء، تبدو غريبة في موقعها ومنظرها، تكسر رتابة امتداد الأرض الخضراء، وتشكل طريقا يمشي عليها الماء من مرتفع إلى منحدر، حيث يلتقي مع ماء البحيرة. صعدنا بالسيارة التي كانت تنتظرنا في موقع من الطريق لتنقلنا إلى موقع آخر من تلك الأرض.. موقع مشرف على النهر الذي يتعرج بين السحر الأرضي المنتشر، إنه موقع: جَبل العنقاء.. نحن العرب نقول: ثلاثة لا وجود لها أو يستحيل وجودها، "الغول والعنقاء والخِل الوفي"، ولكن عنقاء "تشي" في الصين موجودة بأشكال مختلفة، والعنقاء عندهم طائر يشبه الإوَز أو الكراكي، وعنقاؤهم لا بد أن تلتقي مع التنين، فالرمزان يوجدان معا في معظم الأماكن.. ولكن جبل العنقاء هذا يبدو مكرَّسا لها. بعد أن تسلقنا جزءا من الجبل، على أدراج مريحة التدرج، بدا لنا تمثال للعنقاء في نهاية مقطع صاعد صعب نسبيا، واستمددنا شيئا من العزم من إيحاء الطبيعة الجميلة، تسلَّقنا بعد موقع التمثال مقاطع أشد صعودا وصعوبة. كنت أجد نفسي منشدَّا إلى السير نحو الأمام. وتوقفنا نتأمل الطبيعة في قمة الجبل، ومن هناك يمكن أن نرى نهر "يونج جيانج" بشكل أفضل، إنه ذاك الممتد إلى كانتون، وهو أعظم نهر في جنوب الصين، النهر الذي هو الرافد الأعلى لنهر اللؤلؤ، رابع نهر عظيم في الصين من حيث الطول والتدفق، بعد يانج تسي، والنهر الأصفر" خانخه"، وخلونجيان في منشوريا.. إنه ينساب في السهول مُزنِّرا الجبل والتلال بسِوار فضي، والخضرة تجعل ذلك السِّوار أكثر وضوحا وجمالا وتألّقا. على مقربة من القمة كانت أشجار السَّرو تتشامخ مطاولة الباجودا المبنية من خمس طبقات، وأينما سرَّحت النظر تجد الأشجار والخضرة، وتنوع التلال يقود إلى سهل خصب، يمنحه النهرُ الماءَ، ويمنحه البشر الأيدي العاملة، فيغدو الإنتاج وفيرا والخير عميما.في درج الباجودا الضيق نسبيا، وفي المرحلة الثالثة منه، أو الطبقة الثالثة، وجدتني بموازاة قمم السرو الباسقة. في الصعود يجدد عزمَك الأصحاب، وما بقي إلى القمة أقل بكثير مما قطعناه إليها. من الأعلى نظرت إلى النهر الذي يتثنى محيطا بحديقة جبل العنقاء، كان كل شيء واضحا بعكس ما كان يتبدى لي من السفوح، الآن أنت تنظر من أعلى فتنخفض بالنسبة إليك حتى قمة الجبل وقمم الأشجار التي تنبت عليها وتصعد انطلاقا منها. على البعد تبدو الباجودا الكبيرة التي في موقعها قصر نوردوم سيهانوك.. هنا الباجودا من خمس طبقات، وهو وضع نادر، إنها الأصغر وربما الأعلى، لأنها من فوق جبلها أكثر ارتفاعا من سواها. أمامي مدينة نانيين والنهر والسهول والهضاب والباجودا الكبيرة، كل شيء يبدو واضحا وجميلا من هنا.. من القمة، تتركز الرؤية في الارتفاع، كلما صعدت أكثر رأيتُ أفضل، وتلخصت أمامك خلاصات الرؤى، ربما ينطبق ما في الطبيعة على ما في الحياة وشؤونها.. للقمة سحرها وتأثيرها ومميزاتها و.. صحيح أن الصعود إليها صعب، ولكن الرؤية منها نادرة المثال، ومن يبحث عن الأفضل يتعب أكثر ويدفع أكثر ويجني أفضل.كان النسيم عليلا نَقيا، يمر على مصافٍ من الماء والأعشاب، ومن أشجار المانجو والمامبو والصنوبر والنخيل وسواها، فيغدو مؤرَّجا نديا لا تستطيع أن تطمع بأفضل من هذا وأنت في هذه المواقع. كل شيء جذاب، وأنا هنا أعلى من قمم أشجار الصنوبر التي أحب. ذكرني الصنوبر المتناثر بقلة، هنا وهناك فوق التلال، بطريقي إلى "كَسَبْ" في الشمال الغربي من سوريا في حضن جبل "الأقرع"، هضابنا هناك وجبالنا وأشجارنا أكثر كثافة، وأبهى رؤية، مغموس في بحر الخضرة ذي الأمواج التي تقبِّل رؤوس الجبال، لكنها ليست متاحة لنا بالقدر الذي يجعلنا نستمتع بما فيها من جمال.. الإنسان منا محاصر ومحروم، يرى ولا يلمس فيزداد حسرة، ويعتاد الرؤية والحسرة. هناك قمم في "كَسَبْ"، وما ينحدر منها باتجاه الشرق والجنوب لا مثيل لها، وتدرجات الأشجار كأنها أجنحة طائر عملاق، يحملك على جفن الرؤية، وهو يحوم مستعرضا الفضاء.. لا يبزّ أجنحة كسب السحرية تلك، أو لا يضاهيها بالأحرى، إلا ما رأيتُ من أشجار متكاثفة في سحابات من الخضرة الممتدة، تحملك على أجنحتها وتحلق بك عاليا، إلا في جبال القفقاس الشركسية التي صارت روسية، هناك في أرض الشراكسة ومرابع نضال الشيخ شامل، وفي مناطق سماها الروس باسم الشاعر "ليرمنتوف" وأسبغوا عليها رومانسية جذابة.. هناك تستطيع أن تنظر من أعلى إلى سحب تتراكم على الخضرة التي تكوِّنها قمم الأشجار الباسقة، الممتدة على سفوح وهضاب إلى مسافات لا يقطعها النظر ولا يملّ منها الناظر، وتشكل تلك الذرى بساطا للغيم يستريح عليه من تعب السفر.بعد أن ملأت رئتي جيدا من الهواء النقي، واختزنت في عيني وذاكرتي صورا للطبيعة الجميلة، والتقطت بعض الصور بآلة التصوير التي كنتُ أحملها معي.. نزلت الدرج مع مرافقي دفعة واحدة، درج الباجودا ودرج جبل العنقاء. في جزء من الطريق النازلة، أحسست بشيء من التقلقل في قدمي، قل إنه قلق الخطو إن شئت.. كانت نسبة السُّكَّر في دمي قد أخذت في الهبوط فيما أقدِّر، مددتُ يدي إلى جيبي أبحث عن قطعة من السكاكر كنت أضعها في جيبي احتياطا لمثل هذه الحالات النادرة، فلم أجد شيئا، إنها في جيب الرداء الآخر في الفندق. مضى الوقت حَرِجا، كنت وأنا أنزل الدرج أستشعر قلق خطوي الخفيف، وأفكر بالحالات الشديدة التي يُصاب بها مرضى السكر عندما ينخفض السكر في دمهم فجأة، ويصل إلى درجة محرجة، وكيف يكون خطر ذلك الانخفاض المفاجئ، شديدا، وأكثر خطورة من درجات الارتفاع. لقد شعرتُ بسلْمٍ عجيب يجتاح نفسي، وبرضا كامل، واستطابة لكل شيء، ومحبة للأرض، أرض الله. هيأ الله لي سبحانه وتعالى قوة وفرصة، للوصول إلى حالة من الرضا، ورأيتُ في ذلك رحمة وراحة. لقد تساوت عندي في تلك اللحظات كل قطع الأرض بوصفها قبرا.. هنا أرض الله، وأنا من تراب أرضه، تكوَّنت من عطاء الأرض، وتكرَّست في جسدٍ تناقلته الأصلاب نطفة بعد نطفة، وتغذيت من ثمر الأرض ونباتها ومما تصنعه من حياة، وأنا إلى الأرض أعود، بقدَر من الله وحكمة منه ونعمة، فأي أرض كانت لي قبرا كان ذلك من الله قَدَرا، وأنا أومن بقدر الله وأجلّ حكمته.صحيح أنني أحب أرض قريتي، وأحب أن يكون قبري في البقعة التي تضم قبر والدي ووالدتي وإخوتي وأقاربي وأهل بلدي.. ولكن.. من ذا الذي يملك أن يشاء فوق ما يشاء الله؟ ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا ولا تدري نفس بأي أرض تموت؟شعرت باطمئنان ورضا وتسليمٍ لا أذكر أنني شعرت بمثلها من قبل، ورافق ذلك شيء من الإحساس بالانتماء للعالم كله، للأرض كلها، وللناس كلهم، وللإنسانية جمعاء.. وصحب ذلك رضا أخذ ينتشر في الأعماق ومن الأعماق بشكل شامل متكامل... شعرت أنني في كل شيء، ومن كل شيء في هذا الوجود. يا الله.. ما أسعد لحظة راحة الروح وترفّعها وارتفاعها وسموها وتلاشيها في الوجود، بحب عميق شامل لكل ما في الوجود.عند أسفل المقطع الأخير من الدرج، انفسَحَت مساحة من الأرض مرصوفة، وعلى مقربة منها عدد من المقاعد الحجرية، تحت مظلة من شجر ظليل. شدتني نفسي إلى هناك، كانت قدماي ما زالتا صالحتين للاستعمال، والدوار الخفيف الذي شعرتُ به في أثناء مراحل من النزول قد توقف قليلا. جلستُ على المقعد أنظر إلى فتحة بين الهضاب بعيدة، وتسلل النسيم من هناك منعشا ومفعما برائحة الصنوبر الفاغمة، وأخذ يتغلغل في حويصلات رئتي، وشعرتُ بأن الخلايا ذاتها في جسمي تتفتح للطبيعة وتناديها وتنشرح لها.. أخذت الراحة تطرد التعب من جسمي، وبعد دقائق كانت أمامي زجاجة ماء صغيرة لم أطلبها ولم أتوقعها ولم أشعر أصلا بالحاجة إليها، ولكن الفتاة "تيان دونج" التي ترافقنا من نانيين، أحضرت لكل منا ما يشربه من دون استشارة. شربت الماء، واستمتعت بدقائق الوقت في ظل الشجر على ذلك الكرسي الحجري، واستطبت الهواء كثيرا.. كانت الشمس تتخفى وراء مرتفع، وتتبرقع بغيم خفيف، وكل شيء يأخذ درجة حيزه في الوجود من غير إثارة: النور والهواء والحر والبرد... إنه اعتدال في الخارج والداخل أحاطا بي، وبدوت في مزاج أصفى، واستعداد أفضل للمتابعة. كان ذلك وضعا خاصا بي لم يشعر به أحد ممن هم معي على الإطلاق، ولم أشعرهم أنا به.. إنها لحظة من لحظات اقتران الموت والحياة في مفترق نزاع، ولا أقول نزع، وولحظات توازن مادة الجسد مع معنويات الروح، وانشراح الروح والجسد معا للحياة، بسَعَةٍ وامتدادٍ وعمْقٍ.استقللنا السيارة من جديد لنعود إلى مدينة نانيين، مدينة العنقاء، عبر طريق كنا سلكنا معظمها في الصعود، تلتف حول البحيرة. في الفندق كان لدينا بعض الوقت قبل اللقاء مع الكتاب في المدينة.. دخلت الغرفة، وأخذت قطعة من السكاكر أُعدِّل بها نسبة السكر في الدم، وكنتُ أشعر ببعض الحاجة إلى الراحة، بعد الجولة الجميلة، والتعب الشفيف، وانخفاض سكر الدم.