[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
بعد ساعتين ونصف من الطيران باتجاه جنوب غرب، قطعنا المسافة بين شرق الصين الممتد على بحرها، حيث شنغهاي وجنوبها، ووصلنا إلى منطقة شبه استوائية، تبعد عن بحر الصين الجنوبي حوالي مئتي كيلومتر، هي منطقة "كوانج شي" ذات الحكم الذاتي.. وهي منطقة فيها أقليات قومية، بينها قومية سوان الأكثر عددا، ويبلغ عدد السكان فيها حوالي (45) خمسة وأربعين مليون نسمة، وعاصمتها مدينة "نانيين".. وتشتهر بالفواكه، والخضرة الدائمة، وحرارة الوِد. وهي تقع على مسافة ثلاثمئة كيلومتر تقريبا من حدود الصين مع فيتنام، تلك الحدود التي تمتد مسافة ألف كيلومتر تقريبا أيضا، وكان لها تاريخ في حرب فيتنام ضد الاستعمار الأميركي. ومن المصادفات اللافتة أن يكون طول حدود الصين مع فيتنام، مساويا تقريبا للمدة التي بقيتها فيتنام في الماضي، حوالي ألف سنة، ضمن فضاء الصين.
تعيش بين عشرة قوميات إلى اثنتي عشرة قومية في هذه المنطقة، ومنها قوميات: هان ــ سوان ـ خويـ والفيغورية...الخ، والقوميتان الأخيرتان معظم أبنائهما أو كلهم من المسلمين. ومنطقة نانيين، أي "عاصمة الجنوب" دائمة الخضرة، وتشكل السهول فيها 10% من مساحتها تقريبا والباقي مناطق جبلية. كان وصولنا إلى المنطقة في فصل الخريف، وهو أجمل أيام السنة عندهم، وفيها ينبت ويَغلّ: الأناناس والموز والمانجا إضافة إلى قصب السكر.. ومن أسف أن تلك الفواكه التي أحبها جميعا، لا أستطيع أن أتذوقها، بسبب ارتفاع السكر في الدم، ذاك الذي حرمني منذ سنوات، من متعة تذوق ما أحب أن تذوقه.
في المطار القديم الذي تذكِّر قاعة الرُّكاب فيه بمطارات مدن الدرجة الثالثة في العهد الاشتراكي الشيوعي في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، كان يستقبلنا صديقنا الشاعر: "وي تشي لين"، ومعه كاتبان، وشابة تعمل في العلاقات العامة للاتحاد. منذ اللحظة الأولى للقاء هؤلاء الأصدقاء شعرتُ بالود والصدق والتعاطف، وبحفاوتهم الممتازة، وكل ذلك كان يتدفق عبر نظرات العيون والكلمات والحركات والسلوك. الطقس كان حارا نسبيا، وعند الباب الخارجي لقاعة المطار استقبلتنا حرارة أعلى من حرارة الجو في الداخل، وخضرةُ الأشجار الاستوائية الكبيرة التي تنتشر في المكان. في الطريق إلى المدينة كان يحيينا نبات قصب السكر، المحصول الأساس في المنطقة، وقصب المامبو النامي بصورة مدهشة، وأشجار أخرى تظلل الطريق، وتشكل قنطرة بهيجة يقيمها تعانق الأغصان الذي لم ينقطع بين المطار والمدينة، في طريق ليست قصيرة نسبيا.. بدأت تظهر لنا ملامح مدينة "نانيين" التي يعود تاريخها إلى نيِّفٍ وألف سنة، ويبلغ عدد سكانها أكثر من مليون نسمة بقليل.. بدت لنا مختلفة عن غيرها من مدن الصين، البيوت فيها متواضعة وفقيرة، وعربات بائعي البطيخ تنتشر في الشوارع، وتتناثر عمارات ضخمة قليلة تحاول أن تقيم حضورا من نوع ما لناطحات السحاب. قلت للشاعر "وي تشي لين" ممازحا: إنكم تسابقون شنغهاي في ناطحات السحاب، ابتسم بتواضع وقال: لا.
كنا نمر وقتذاك فوق جسر على نهر "يونج جيانج"، المجرى الأعلى لنهر اللؤلؤ، وهو يعبر المدينة من هذا الموقع متجها إلى الشرق، مغيّرا اتجاهاته مع السهول والهضاب، وممتدا حتى مدينة "كانتون"، ويلتقي بنهر اللؤلؤ "خوان بو" الذي يخترق شنغهاي، الميناء والعاصمة التجارية، حيث أصبحت حقول الأرز على ضفته الشرقية في المدينة، مركز ناطحات السحاب التي تعطي للميناء الشرقي للصين أهمية عصرية، بينما يبقى ميناء مدينة كانتون، وهي البوابة الجنوبية للصين، أقل قدرة على المنافسة من ميناء شنغهاي.
ولكانتون تاريخ قديم، فهي بوابة طريق الحرير البَحري، ومدخل التجار العرب إلى الصين، ولكنها اليوم تأخذ مكانها بعد شنغهاي، في حين تتقدم في دخلها القومي لتكون الأولى تقريبا بين المناطق الثلاث والثلاثين في الصين. ويجري اهتمام بها الآن لتكون أكثر حيوية بحريا، في التواصل مع جنوب شرق آسيا، لكن منافسة "هونج كونج" على الأولوية ليست سهلة، بعد أن عادت إلى أحضان الصين، وهي تجاور منطقة كانتون، وتعدُّ أكثر منها حيوية وأوفر فرصا.. وفي كانتون مقبرة لمن كانوا يقضون نحبهم من العرب وهم في تلك المنطقة التجارية التاريخية، ويُقال إن بين من دُفنوا هناك أحد الأشخاص المنحدرين من سلالة بيت آل النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وجدت نفسي، بعد انسيابٍ نفسي طويل على جناح الذكريات والتاريخ، بين زحام من الدراجات النارية والهوائية والسيارات.. المدينة في وقت انتهاء الدوام الرسمي الذي يعمل فيه الناس على فترتين تتخللهما راحة للغداء، وينصرفون من العمل بعد الخامسة. وصلنا إلى الفندق الذي يتربَّع على جزء من أرض مرتفعة نسبيا، فهمس لي مرافقي: هذا فندق "مينج يوان"، نزل فيه "ماو زي دونج" يوم زار منطقة قُوانسي، أي "كوانجشي Guang chi " في عام 1958، لقد كان الأحدث بين الفنادق آنذاك، وربما الوحيد، وهو ليس كذلك اليوم. دخلنا البهو بين ابتسام العاملين وترحيب المُضيفين، واستقر بي المقام في الغرفة (308) التي كانت تشرف على الجانب الخلفي الشمالي للفندق، وتحظى بإطلالة جزئية على أشجار كثيفة تمتد نحو الشرق.
في السادسة مساءً علينا أن نأخذ الحافلة إلى المكان الذي تقام لنا فيه دعوة عشاء احتفاء بوصولنا، يقيمها اتحاد أوساط الأدب والفن في المنطقة وهو الذي يضم في تشكيلته اتحاد الكتاب في الصين. كان الازدحام ما زال شديدا، ووصلنا إلى قاعة القوميات في فندق عريق في تلك المدينة التي تأتي في المرتبة العشرين من حيث الدخل القومي بين المناطق في الصين. على جدران القاعة كانت صور لبعض الشخصيات الصينية، منها صورة لــ"محمدي" أحد رجال المنطقة المشهورين ووزير شؤون القوميات. قال لي رجل جَبلي الملامح، قوي البنية، باسم الثغر، براق العينيين، أسود الشعر: سوف أسقيك شايا متميزا تنتجه الأقلية القومية يو Iyau أو IU التي تسكن الجبال في هذه المنطقة.
قلت: شكرا أيها الصديق، ما هي ميزة هذا الشاي؟!
أشار بيده إلى أرنبة أنفه، وأتى بحركة شارك فيها وجهُه ورأسه وصدره ويده معا، معبرا عن النشوة والحرارة التي تصعد من الأنف.. قال المترجم شين، وهو يوافق كلام الرجل: "ستشرب منه الآن".
جلست إلى المائدة وبدأ تعارفنا، كان معنا من المضيفين:
- وي تشي لين، نائب رئيس اتحاد كتاب الصين، صديقنا الذي زارنا سابقا في سوريا.
- لان هوي تشانج، رئيس اتحاد الأوساط الأدبية والفنية.
- وي يي فان، رئيس اتحاد كتاب المنطقة.
- فنج يي، نائب الرئيس الدائم لاتحاد الكتاب في المنطقة.
- لين وان لي، نائب رئيس اتحاد الكتاب.
- لان تشي تشانج نائب رئيس اتحاد الكتاب، والسيدة تيان دينج التي سترافقنا في أثناء إقامتنا في المنطقة.
بدأت الفتيات العاملات في المطعم تحية اللقاء والترحيب، بأغنية جماعية، عززت حرارة اللقاء الذي ما وجدنا أكثر دفئا منه في المناطق الأخرى.. وبعد دقائق قال لي لان هوي تشانج: تعال لأريك كيف يُصنع شاي قومية يو.
نهضنا إلى زاوية القاعة، حيث كانت الفتيات يتجمَّعن وقوفا إلى جانب إحداهن التي تتولى المهمة، وأمامها موقد النار المتنقل. الشاي موضوع فيما يشبه المِقلاة في ماء يغلي، وإلى جانب الموقد إناء من الخزف الصيني، وُضِعت عليه مصفاةٌ خشبية منسوجة من أعواد خاصة، لها شكل المصباح الزيتي القديم، مصباح علاء الدين السحري. صَبَّت الفتاة محتويات المِقلاة في المصفاة فتسرب الماء إلى إناء الخزف، وبقيت أوراق الشاي الأخضر في المصفاة، فأخذت تمعسها وتدقها بأداة خشبية ذات زاوية قائمة، ثم وضعت شرائح من نبات أبيض اللون، تشبه شرائح الزنجبيل الكبيرة، بل هي هو، في تربيعات كأنها شطائر الأناناس، وأخذت تدقُّها وتهرسها. قال لي"لان هوي" إنها جذور من الأرض، ثم أشار إلى الفناجين المصفوفة على منضدة جانبية: نضع هنا في الفنجان قليلا من الرز والفستق العادي، الفول السوداني، ونشربه مع الشاي، إنه لذيذ.. ثم قادتنا ضحكته البريئة وحركته الودية إلى مواقعنا من المائدة، حيث قُدِّم لناي الشاي الأخضر الذي شهدنا صنعه.
"كأسان حسب عرف قومية "يو"، هكذا قالت الفتاة المَرحة الجريئة التي تولت الإشراف على المائدة والغناء، وكانت تفيض حيوية وودا، وتتصرف بأدب جم. كان الشاي أعذب وأطيب مما توقعت، وتمنيت لو كانت لي منه كأس ثالثة. تناولنا طعاما لذيذا، وتحدثنا بود وحرارة، والتقت مشاعرنا بصفاء، ولمست أنني في هذه المدينة بين أصدقاء. نظرت إلى "وي تشي لين" في جلسته المتواضعة وشعره المسترسل، فبادلني النظرة والبسمة: سعيد بوجودك هنا.
قلت باحترام: "العالم أصبح الآن أوسع وأحب، بيننا مسافات بعيدة، لكننا التقينا.. يا صديقي تشي لين "الصَّفيُّ البعيدُ قريبُ المزار"، تفضلوا إلى أصدقائكم في دمشق.
كان الشاعر تشي لين قد زار القنيطرة مع وفد الكتاب الصينيين، ومن هناك حمل حجارة وترابا من الجولان، وحمل رسالة من شعبنا، وصوتا لقضيتنا.. قال لي: أوصلت الحجر والتراب إلى أصدقائي ومعارفي هنا، وشرحت لهم ما رأيت: سوريا بلد عريق الحضارة، وقضية شعبها عادلة، نحن معكم، وكل أصدقائي يتعاطفون الآن معكم، ويعرفون شيئا عن سوريا، ويتمنون زيارتها.
كان لهذه الكلمات البسيطة وقع شديد الأثر في نفسي: يكفي أن تفتح باب قلبك بصدق، وأن تكشف الغطاء عن حقك وتمسح عنه الغبار، حتى تجد أشرافا في العالم يقفون إلى جانبك. المجزرة الصهيونية البشعة التي ذهبت ضحيتها مدينة القنيطرة سوف تغزو مشاعر الناس، والمدينة الشهيدة التي قتلها الحقد الصهيوني، ستعيش في وجدان كثيرين في أنحاء من العالم.. حقنا لن يموت، وقضيتنا العادلة سوف تنتصر، و..
كنتُ سعيدا بما سمعت منه، وزاد في سعادتي شعور الموجودين بمودة تدفعهم لمعرفة المزيد عنا.. "عندما كنت في شنغهاي، غمغم نائب رئيس الاتحاد على العشاء، وهو يستمع الإجابة منا عن عدد سكان سوريا.. قائلا: إنه يساوي عدد الناس في شنغهاي في النهار وقت الذروة". وبقيت العبارة حادة في رأسي وقلبي.. العدد صحيح، والنوعية ذات قيمة.
قلت: إننا جزء من أمة كبيرة، نحن عرب، وسوريا تحتل مركزا قوميا مهما في الوطن العربي، نحن بعد عدد قليل من السنوات سنكون ثلاثمئة وخمسين مليون عربي، نتكلم لغة واحدة، ثقافتنا واحدة وعقيدتنا واحدة، ومساحة وطننا تعادل مساحة الصين تقريبا، ولدينا ثروات كثيرة، وتاريخ عريق..".. شعرت أنني أعيد توضيح ما وضحته للشنغهائيِّ، ولكن الأصدقاء هنا شعروا بشيء من الاعتزاز.
العلاقات العربية ـ الصينية قديمة عريقة، وتقوم على تبادل المنافع والاحترام، لم يصطدم الصينيون والعرب في حروب، وبوابات الصين الجنوبية مثل (كانتون) والغربية أو الشمالية الغربية مثل "كاشجر" استقبلت عربا ومسلمين، ودخل الإسلام الصين، "اعتنقته قوميات مثل: خوي ـ والقومية الفيغورية... التي تكتب بالحرف العربي حتى الآن.".. ولا يوجد ما يمكن أن يسيء إلى صورة العربي التاريخية، ولكن وضع العرب المُقسم المُهشم اليوم، وموقفهم المتخاذل أمام الصهيونية والولايات المتحدة الأميركية... جعلهم في وضع بائس. لقد قسمنا الاستعمار، نحن اليوم اثنتان وعشرون دولة، ولكن الشعب واحد والأمل واحد والقضايا المصيرية مشتركة. وبدأت أذكر الدول العربية التي تنتمي إلى جامعة الدول العربية، وفي أعماقي يعتمِل حزن خفي، وخطاب آخر موجه للذات: "لو أنّ هذه الأمة موحدة!! لو أنّ العرب يستثمرون أموالهم في أقطارهم، ويوالون دينهم وأمتهم، لو أنّ نهضة علمية وصناعية وزراعية حدثت واستثمرت فيها أموال تهدَر في غير السبل المقبولة والمعقولة، لو أن نهضة حضارية شاملة تدب في أوصال الشعب والأرض لو أنَّ،… لكُنَّا في أعلى سلم الأهمية والاهتمام والاحترام في عالم اليوم، ولوصلنا قديما عريقا بجديد رائع... ولكن... ولكن؟! كاد جوفي يغرق بالدمع، وعلى وجهي ملامح التاريخ العربي العريق، وكل ما فيَّ يتشظَّى باتجاهات.. قاربت في مواجهة الذات، ذاتي الوطنية والقومية: "الفساد الذي ينخر نفوسا وعقولا ووزارات ومؤسسات وإدارات وإرادات، والانتهازية المُتَجَلبِبَة بالوطنية والحرص والشعاراتية، والوصولية الاحترافية القاحلة من كل معرفة وأهلية للأداء السليم القويم النظيف، والازراء بالعلم والتقانة والقيم يكرج في مساحات تربوية وتعليمية وإعلامية وثقافية، ذاك الذي تعاني منه مصالح وقطاعات بشرية، ويؤثر سلبا في الحاضر والمستقبل، وقاربت الأرض التي يزيد ما هو أجرد و"بُورٌ" ومهمل منها على نصف ما نملك، والأنانيات المتورمة التي تتضخم في ذوات مريضات، وتتأطر في رؤى قاصرة، محدودة الأفق، تنذر بممارسات هي البؤس وأكثر، والفتَنَ الكوامن في اعتقادات وانتحاءات وتصرفات وممارسات مَرَضية، مضادة لكل توجه اجتماعي عام سليم وقويم وبناء وأخلاقي… تذكرتُ... وتذكرتُ... وتذكرتُ واكتويت... وطَفَتْ سحابةٌ على قلبي وعينيّ، أخفيتها في كأس من شراب "الكوك" جوز الهند، واغتصبت ابتسامة، ورسمت على وجهي ملامح سرور، رسمتها بألوان الإرادة وبمياسم الاكتواء، لتبدو صادقة ومؤثرة وحارة.. وعدت إلى الأصدقاء المتهلِّلين الفرحين بحضورنا، أشهقُ بالبهجة، ويتلطى في مقلتيّ دمعٌ، عليه أن يكون دمعَ الفرَح.
انتهى وقت العشاء، والتقطنا الصور التذكارية ونحن نتقلد هدايا استوائية رمزية، ورموزا مما ترفعه قومية سوان، أكبر قوميات المنطقة، عادات وتقاليد، قدمها لنا المضيفون باسم اتحاد الكتاب واتحاد الأوساط الأدبية والفنية في المنطقة، ثم عدنا إلى الفندق في الساعة التاسعة والنصف ليلا، وفي جعبتنا برنامج الغد الكثيف: الاستيقاظ في السابعة ـ الفطور في السابعة والنصف ـ المغادرة في الثامنة والنصف إلى حديقة الجبل.