[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
هكذا فشل سترندبرج في زيجات ثلاث، فصبَّ جام غضبه على المرأة.. احتقرها، وأصبح عدوها اللدود، واعتبرها العنصر الذي يحرك الشر في العالم، وصوّر ذلك كله في أدبه. فأينما اتجهنا في آثار سترندبرج الأدبية تطالعنا شخصيته وأحداث حياته، ولو تحرينا أعماله بدقة لقلنا إنه البطل في معظم مسرحياته.

في ليلة من ليالي عام 1849 وعلى أرض السويد، بين زئير العواصف ودفق المطر.. تعالت صرخة حادة مؤلمة من بيت رجل أرستقراطي، يعتز بنفسه أشد الاعتزاز، ويحتفظ، في أسوأ ظروفه المادية، بخادمين على الأقل يقومان على خدمته، ولا يستطيع أي منهما أن يمسح حذاء هذا السيد المتعجرف، إلا وهو يرتدي قفازيه وبزَّته الرسمية. ولملمت المرأة آلامها، وحنت على طفلها المسكين الذي قدم إلى العالم في ظروف سيّئة، إذ أفلس والده في اليوم الذي ولد هو فيه.
ومرت الأيام تلو الأيام، ولم ينته من أرض السويد ذلك الصوت المُتألم.. صرخة الاحتجاج تلك التي واجه بها طفل وليد قسوة الأرض وأهلها. وأصبح الرضيع طفلا يتردد على المدرسة، وفي نفسه شيء يخفيه عن الناس، ويمضغه بصمت بينه وبين نفسه. لم يكن ذلك الشيء سرا من الأسرار، بل عارا كان يحسه أوغست الصغير إذا ما لعب مع رفاقه الصغار، أو مرَّ في الطريق من أمام الناس، لقد كانت أمه خادمة. في البيت كان يسمع ذلك من أبيه، وهو يعيّر الزوج المسكينة، أم (أوجست)، بوضاعة أصلها.
لقد تزوج الكونت من خادمته، وواظب على احتقارها وإشعارها بضِعتها. وكان الصغار الاثنا عشر، وبينهم (أوجست)، ينامون ويستيقظون على طعم الفقر، إذا كان للفقر طعم، وعلى الشجار وتبادل الإهانات في البيت. واستبد بنفس (أوجست) عطفٌ كبير على والدته، وكانت تعطف عليه أكثر من عطفه عليها، ولكنها ماتت ولم يتجاوز الثالثة عشرة، وما لبثت مربية البيت أن أصبحت زوجة لأبيه، وبدأت تجرِّعه العلقم، وتعيِّشه في الذل.
وكبر (أوجست) ونما، كما يكبر وينمو أي يتيم فقير، وتنقل من مدرسة إلى أخرى حتى دخل جامعة أبسالا. ولكن الفقر لم يسمح له أن يتم دراسته، وطارده حتى اضطر للعمل في عدة حرف ليكسب قوته، فمارس التعليم والصحافة والتمثيل والتلقين في المَسرح، وكان يلقى في ذلك كله العناء الشديد. فأثناء تدريسه لابنة أحد البارونات في الريف مثلا، كان يلقى من الخدم كل احتقار وازدراء، ويهينونه معلنين أنهم لا يعتبرونه أرفع منهم مستوى، والواقع أنه كان يعاني من عقدة الاضطهاد والاحتقار.
كان نسبه لأمه يؤرقه، فيجعله تارة ناقما على المَرأة، وتارة عاطفا على الخدم والفقراء، معتبرا نفسه منهم.. كان يشعر بالدُّونية إذا ما جالس أفراد المجتمع الراقي، لأنه يحس بوضاعة أصله. كان مرة جالسا إلى مائدة العشاء بين أفراد أسرة يهودية غنية درَّس ابنتها، حين مرت مظاهرة سياسية تحت نافذة البيت، وعلّق أحد الحضور على المظاهرة بقوله: "ما هم إلا الرعاع". فنهض (أوجست) من فوره وغادر المكان احتجاجا على ذلك، واعتبر الإهانة موجهة إليه، فقد كان يحس أنه يرتبط بالطبقة الدنيا.. وانتقم لنفسه من الطبقة الأرستقراطية فيما بعد عندما أصبح أديبا لامعا.
صهَر الألم والبؤس روح سترندبرج المُعذبة، فاندلعت مشاعره على شكل نقمة، بل لعنة للحياة والمرأة من دون الناس.. وصوّر كل ذلك في شعر جميل حينا، وفي صورة مسرحيات وقصص في أكثر الأحيان.
كبر (أوجست) وأصبح أديبا لامعا، وانقلبت رنَّة الأسى التي رافقته في طفولته، إلى صيحة احتجاج ضد العصر والناس. ولم يكن تعلُّقه بالأدب يمنعه من ممارسة أعمال أخرى، فقد كان عالِما له أبحاث في المعادن، ورساما، وطبيبا وشاعرا، وإنسانا يتفاعل مع الأحداث، ولا يراها إلا من خلال تأثيرها عليه، وتشابكها مع حياته الخاصة. كان أبعد الناس عن النظرة الموضوعية للحياة.. بل إن أهم الصفات التي تميزه، هي الذاتية العميقة التي تتجلى في فنِّه. فقد كان كما لو أن الحياة كلها قد تركزت في نفسه، وكما لو أن كل شيء وُجد من أجل التأثير والضغط على شخصيته. ولطغيان هذه الفكرة على نفسه، كان دائما يفسر الحوادث، لا على أساس علاقاتها بحوادث أخرى، أو بالواقع الموضوعي الصحيح، بل على أساس علاقاتها بأشياء حدثت له شخصيا.
ففي مسرحيته "بعد النار" تعبر شخصية الغريب في المسرحية عن رأي المؤلف حينما يعلن أنه: مهما اتخذت الحياة من أشكال، فإنني دائما ألمس ارتباطا وتكرارا.. إن المواقف يترتب أحدها على الآخر، والشخوص التي نراها تذكرنا بأناس قابلناهم فيما مضى من الزمان".
وسترندبرج هو أكثر أديب ظهرت شخصيته في أدبه.. فأدبه سجلٌّ لحياته الخاصة وتجاربه ودراساته.. وشخصياتُه المسرحية تدور كلها في فلك شخصيته كإنسان.
وقبل أن ندخل إلى فن سترندبرج وأدبه نود أن نعرض بشيء إلى حياته الخاصة.
في سنة 1875 التقى سترندبرج بالسيدة "سيري فون"، زوجة أحد ضباط الحرس، وأخذت صلتها به تقوى حتى طلقها زوجُها، ولم تلبث أن وجدت نفسها حاملا، فسُر سترندبرج لذلك، وأصر على الزواج منها. كان في السابعة والعشرين من عمره، واستمر زواجه "بسيري" أربعة عشر عاما، كان خلالها غيورا من زوجه الممثلة وعليها. ولم يكتب لهذا الزواج الدوام، فطلَّقها، وعاش بعدها في ضياع واضطراب وألم. وبدأت عقدة الاضطهاد تسيطر عليه، فأساء إلى معظم أصدقائه، وأصبح يشعر بأن العالم كله متآمر عليه.. وساءت حاله إلى أبعد الحدود، ومما زاد نفسَه اضطرابا اتجاهُه إلى ميدان العلوم، وثورته على معاصريه من العلماء، مُعلنا أن بعض العناصر التي لا يمكن تجزئتها يمكن في الواقع تجزئتها، وبخاصة عنصر الكبريت. وأخذ الوهم يخيل له أن المال هو العقبة الوحيدة التي تحول دون الوصول إلى تحقيق اكتشافه ذاك.
كانت هذه لوثة أصابته، وازدادت أحواله العقلية سوءا، فاكتتب له بعض أصدقائه بمبلغ من المال، وأرسلوه إلى برلين للإقامة تحت الإشراف الطبي، وما لبث أن تحسن قليلا.
وفي عام 1893 عاد للزواج مرة ثانية من الكاتبة النمساوية "فريدا أوهل"، ولم يدم زواجُهما طويلا.. لأنه بدأ يغار من النجاح الذي تلاقيه ككاتبة.. وبدأ يشك في مؤلفاتها. وعادت نوبات الهذيان تنتابه، وتم بينهما الطلاق بعد حين، وذهب (أوجست) إلى باريس ليعيش هناك وحيدا. والتقى بالرسام الشهير "بول جوجان"، وأعجب بفنه كثيرا، وقال فيه ذات يوم: "إنه جوجان الفوضوي الثائر الذي يتحدى الخالق.. وينقلب على العالم والأشياء تحطيما، ليعيد الخلق من جديد، ويثبت ذاته. إنه نوع من العُتاة الجبابرة الذين يفضِّلون رؤية السماء حمراء على رؤيتها زرقاء كبقية الناس".
عاش (أوجست) في باريس، وعاود أبحاثه العلمية، ولما أخفق في إثبات نظريته، عاودته عقدة الاضطهاد، وأخذ يرتاب في أقرب أصدقائه إليه، ويخشى أن يدس له أحدهم السم في الطعام.. فسافر إلى السويد للعلاج، وتحسنت حالته قليلا، إلا أن الاضطراب ما لبث أن عاوده، وبدأ يرتاب في الطبيب الذي يعالجه، ويظن أنه كان يحاول أن يسرق منه سِرَّ تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب.. وما لبث أن قطع صلته بالطبيب، وسافر إلى النمسا حيث أشرفت عليه "فريدا" زوجه الثانية.. ولكنه اختلف معها وعاد إلى السويد، وأقام في مدينة لند. ومرت فترة اضطراب أخرى، تنقل خلالها بين باريس وستوكهولم. ثم ما لبث قلمه أن جاد بروائع أدبية للمسرح، بعد أن قطع الناس أملَهم فيه.. فحياه العالم، واحتفلت به ستوكهولم. وعاد من جديد للزواج في عام 1900 من الممثلة النرويجية "هارييت بوص" التي أنجبت له طفلة، وبعد عشر سنوات نشب الخلاف حادا بينه وبينها على تربية الطفلة، مما أدى بحياتهما الزوجية إلى الانهيار.
وهكذا فشل سترندبرج في زيجات ثلاث، فصبَّ جام غضبه على المرأة.. احتقرها، وأصبح عدوها اللدود، واعتبرها العنصر الذي يحرك الشر في العالم، وصوّر ذلك كله في أدبه. فأينما اتجهنا في آثار سترندبرج الأدبية تطالعنا شخصيته وأحداث حياته، ولو تحرينا أعماله بدقة لقلنا إنه البطل في معظم مسرحياته.
فهذا هو في مسرحيته "الأب" يتشاجر مع زوجه على تربية ابنته، ويعرض رأيه في النساء، ويصل في الشك والشعور بالاضطهاد إلى أمر لا يمكن أن يصل إليه إنسان في الحياة.. وهو: هل يمكن أن يثق الرجل ببنوة أبنائه؟ هل يمكن أن يثق الرجل بالمرأة؟ هذه هي الأفكار التي راودته. وساعدت زوجُه على زرعها في نفسه، وأحكمت الخطة ليبدو كأنه مجنون، وبذلك يسقط حقُّه في رعاية ابنته ويعود أمر تربيتها إليها، مما جعله يقول: "ما هو أسخف من منظر أب يجر ابنته في الشارع أو يتحدث عن "أولادي"؟ الأَولى له أن يقول "أولاد زوجتي". ويكوّن رأيه في النساء على النحو الآتي "إنهن لا يدركن أن غدرهن أمر غريزي فيهن، وقد يكون ذلك مما يجعلنا نرأف بحقهن، ولكنه لا يغير من حكمي عليهن".
وتنحصر الأفكار التي يدور حولها معظم إنتاج سترندبرج المسرحي في ثلاث نقاط:
أ- الصراع الدائم المستمر بين الرجل والمرأة.. الصراع الجنسي، والصراع من أجل السلطة في الحياة الزوجية، ويتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في مسرحياته: "الأب"، "مس جوليا"، "الرباط". فنراه في مسرحية الأب يحاور امرأته فيقول على لسان الكابتن:
الكابتن : لا تحطميني.. حافظي على قواي العقلية يا لورا! أنت لا تفهمين ما أقول. إذا لم تكن الطفلة ابنتي لن يكون لي إشراف عليها. وهذا هو ما تريدينه، أليس كذلك؟ ولعلك تريدين شيئا آخر، كذلك تريدين أن تكون لك السلطة على الطفلة، وتريدين في نفس الوقت أن أعولَك.
لورا : نعم السلطة.. فيم كل هذا الصراع، صراع الحياة والموت، إن لم يكن من أجل السلطة.
الكابتن : فيما يتعلق بي أنا، لا أؤمن بالحياة الأخرى، ولذا فإن ابنتي هي حياتي الأخرى، هي فكرتي في الخلود، ولعل هذه الفكرة هي التي لها أساس من الواقع. خذيها لتبتُري حياتي."
وتصر الأم على أن تشككه في أبوته لابنته، الأمر الذي يتركه على شفا الجنون. وعلى الرغم من ذلك، فهي لا ترحمه ولا ترأف بمصير ابنتها. وتصل الأمور إلى حد أن يُحمَل الزوج إلى مشفى الأمراض العقلية، تحت عيني الزوجة وأمها، وبين فرحتها بالنصر عليه ورضاها عن غرورها وانحطاطها الذي تجاوز كل حد.
وفي مسرحيته "الرباط" يعرض علينا سترندبرج مشكلة عائلية من نوع آخر، يتجلى فيها أيضا ذلك الصراع بين الرجل والمرأة الذي عرفه مسرحه على أشده. في "الرباط" يتقدم البارون والبارونة في مقاطعة اسكندنافية إلى المحكمة، للوصول إلى قرار فصل مؤقت في الفراش والمأكل والملبس لمدة سنة، على أثر خلاف نشب بينهما. ويتفق الطرفان على أن يسود الاحترام عرضهما للأمور أمام المحكمة، وعلى ألا يعرضا جوهر الخلاف بينهما، حفاظا على مكانتهما وشرفهما وسمعة طفلهما. وعندما تبدأ المحاكمة تجد الزوجة "البارونة" نفسها مندفعة، بتأثير من تكوينها النفسي والعاطفي، إلى مهاجمة زوجها واتهامه، الأمر الذي يحفزه على الدفاع عن نفسه برد الاتهام إليها، وتوجيه اتهام جديد لها. وتبدأ سلسلة الفعل ورد الفعل تأخذ مداها أمام المحكمة، والقاضي يتشبث بكل اتهام.. إلى أن يجد الزوج نفسه متهما بالزنا من قبل زوجه، فيوجه سهمه الأخير الذي حاول أن يحفظه دون استعمال، على الرغم من أن ذلك يدمي قلبه. ويعلن أن "البارونة" تخونه، وأنها لا تعامله كزوج، وأنها دفعته إلى تكوين علاقة مع امرأة أخرى. وتكذِّب البارونة هذا الادعاء بالطبع، وتبدي استعدادها لحلف اليمين. وعندما تفرغ هيئة المحكمة والمحلفون للتداول في القضية قليلا، يقف كل من الزوج وزوجُه أمام بعضهما عاريين تماما، وقد أنهك كلٌّ منهما الآخر وجرَّحه تجريحا. ويعرض الزوج أن يتلافى تقديم الإثبات على خيانتها حفاظا على الطفل، وعلى ما تبقى من كيانهما، وأن يطلب من المحكمة عدم التدخل في هذا الأمر، وتقبل الزوجة فيسلمها الرسائل، ولكنها تصر أمام المحكمة على استئناف العراك، فيتقدم شاهد ليعلن متطوعا أنه شاهدها بالجرم مع خليلها، ويضطر الزوج إلى تقديم نسخة من رسائلها، ويسقَط في يدها. ولكنها على الرغم من ذلك تسب وتكذب وتعلن أنها بريئة.
وتقرر المحكمة الفصل، كما تقرر أن يكون طفلُهما تحت إشراف غيرهما، الأمر الذي يزعجهما أشد إزعاج، فيسرع الزوج إلى إخفاء الطفل عند راعي الكنيسة. وتود البارونة لو تستطيع الحفاظ على الطفل أو الهرب مع زوجها لتعيش وإياه خارج الحدود، ضمن الرباط المقدس الذي يجمعهما، ولكن ذلك يكون نتيجة فترة ضعف تمرُّ بها.. ويرفض الزوج أن يكون الابن بين يديها، لأنها ستربيه على نحو تنتقم فيه من طبيعة الرجل فيه، وتجعله على شاكلتِها.
في هذه المسرحية يبرز صراع الجنسين، الرجل والمرأة، إلى جانب صراع الزوجين، ويبيِّن المؤلف خروج المرأة عن حدود طبيعتها، واسترجالها واستهتارها بكل قيمة. وفي هذه المسرحية نزَع سترندبرج الطِّلاء الذي تطلي الطبقة الراقية به نفسَها.
ب- مشكلات التربية وما ينشأ عنها من إساءات إلى النشء.. وقد استقى سترندبرج هذا من حياته الخاصة، من تربيته السيّئة التي تسبَّبت له بكثير من المتاعب.
كان في سترندبرج ميزة العالم الذي يستبطِن ذاته، ويمضغ آلامه ويحللها ليعرف أسباب شقائه، ثم يسعى بعد ذلك ليجنِّب البشرية شرَّ الوقوع فيما وقع فيه هو. وخير دليل على هذا نجده في مسرحيته "الأب"، فقد تفانى الكابتن أدولف، الذي هو سترندبرج نفسه، في العمل من أجل أن يؤول أمر تربية ابنته برتا إليه. وكانت له نظرية معينة في التربية، فهو يقول مخاطبا القس: "لا تظن أنني أريد أن أجعل منها ـ يقصد ابنته ـ أعجوبة، ولا حتى صورة أخرى لي.. ولكنني لن أجعل من نفسي قوادا لابنتي، فتنشأ وهي لا تفقه في الدنيا شيئا سوى فكرة الزواج، وإلا كان شاقا عليها جدا إذا هي لم تتزوج. كما أنني لا أريد أن أقنعها بأن تقضي فترة تمرين طويلة، استعدادا لوظيفة تناسب الرجل أكثر مما تناسب المرأة، لأن ذلك سيضيع هباء، إذا هي قررت أن تتزوج".
جـ - عقدة الاضطهاد والشعور بالدونية، ومهاجمة الفوارق الطبقية.. بل الصراخ في وجه العالم "بأن الإنسان هو الإنسان، سواء أكان نبيلا أم صعلوكا..". الإنسان فيه القوة والضعف، فيه الحقارة والرّفعة، لا فرق في ذلك بين فقير أو غني، نبيل أو حقير"، كأنما يدافع سترندبرج بهذا عن شرف أمه، ويرد سخرية الناس إلى حلوقهم.
وخير مثال على هذا نجده في مسرحيته الرائعة "مس جوليا" التي نهج فيها سترندبرج نهجا فنيا جديدا، فألغى الاستراحة في أثناء العرض المسرحي، إيمانا منه بأنها تقلل من متعة المتفرج، وأدخل الرقص والغناء، مؤكدا الاتجاه الأوبرالي في المسرح. ففي هذه المسرحية الرائعة، نسمع جان الخادم، يخاطب مس جوليا بقوله:
جان : مس جوليا.. الكلب يستطيع أن ينام على الأريكة التي تجلس عليها سيدته، الحصان يستطيع أن ينعم بيد سيدته الشابة تربت له على أنفه، أمّا الخادم.. قد ترين من حين لآخر خادما لديه من قوة العزيمة، ما يكفي لكي يمكنه من شق طريقه في الحياة."
ويقول في مكان آخر من المسرحية، بعد أن تسقط مس جوليا في الوحل معه، هو الخادم، وتجثو تحت ركبتيه طالبة منه أن يضربها، بل وأن يدوسها بقدميه، بعد أن كان الصراع بينهما حادا في أول المسرحية، وبعد أن كانت جوليا تعامله بكل احتقار، لأنه خادم.. يقول لها:
جان: لا.. الضرب في الميت حرام.. وخصوصا إذا كان الميت سيده.. ومع ذلك فأنا لا أستطيع أن أخفي سروري، لأنني تبينت أن ما يبهرُنا نحن الخدم، ما هو إلا بريق زائف، وأن ظَهر الصقر أغبر اللون هو الآخر، وأن المساحيق تكسو الوجنات الغضة، وأن الأظافر المصقولة قد تكون ذات حَدٍّ أسود، وأن المنديل قد يكون قذرا بالرغم من رائحة العطر التي تفوح منه.. إلا أنني آسف لأنني أدركت أن ما كنت أغرق شوقا للوصول إليه لم يكن أفضل من ذلك وأجدر، يؤسفني أن أراك تسقطين إلى أحط من طاهيتك.. يؤسفني هذا كما يؤسفني أن أرى الأزهار تتضوَّع تحت الأمطار، وتستحيل إلى أوحال."
بهذه القوة الشاعرية والحقد والاحتقار، يصوّر سترندبرج مشاعره نحو الطبقة الارستقراطية.
ولسترندبرج في فنه عدة صفات:
1- الذاتية العميقة المُغرقة في الانطواء على نفسها.. وفقدان النظرة الموضوعية.
2- طغيان الجانب الروحي على الجانب المادي، حتى في حوادثه المسرحية.. بل إن النواحي المادية تكاد تكون منعدمة الوجود، ويكاد يثبت أنها أوهام من صنع الخيال.
3- تأثره الكبير بالمؤلفين والفلاسفة.. فقد تأثر ببوكل كير كجارد، وسويدنبرج فلسفيا. كما تأثر بالشعراء "بيرون" و"مترلنك" و"شيللر" وغيرهم، أدبيا.
ونتيجة لهذا، ظهر في أدبه وأسلوبه تنوُّعٌ كبير. فهو في مسرحياته الأولى رومنسي متأثر بشيللر وبيرون. وقد اختار موضوعاتها من الأدب الكلاسي، ثم من تاريخ بلاده، ومن أهم هذه المسرحيات: السيد أولوف، سِر النقابة، سيدة سير بنجت، وتحولات المحظوظ بيير.
وتحتل المسرحية التاريخية الأولى "السيد أولوف"، مكانة مرموقة بين المسرحيات التاريخية في ذلك العصر، لأنها ذات صفة مزدوجة، فهي بالإضافة لتقديمها التاريخ، تعبر عن ذاتية سترندبرج، إذ يمكن النظر إلى شخصياتها على النحو الآتي:
أولوف: المثالي العملي، و"جوستاف فاسا" رجل الأعمال الذي لا يسمح لأي مثل أعلى أن يثنيه عن عزمه، "جيرت" الرجل الخيالي.. وكلهم يصورون جوانب من شخصية سترندبرج ذاته.
وجاءت بعد هذه المرحلة الرومانسية، مرحلة الواقعية العنيفة.. وأشهر مسرحياته فيها: الأب، ومس جوليا، ببطلتها التي يصفها سترندبرج بقوله: إنها نصف امرأة، وكارهة الرجال.. ويقول عنها أيضا: "إنها نوع من شخوص المأساة، يعرض لنا نضالا يائسا ضد الطبيعة. إنها فتاة عصبية تنتمي إلى عائلة أرستقراطية منحلّة، تشعر بكبرياء، وإن كانت على استعداد لكبت هذا الشعور، في سعيها المحموم وراء إشباع ولعها بالإثارة الحسية".
وفي هذه المسرحية التي تتوافر فيها مميزات المذهب الطبيعي كافة، ومع ذلك ليست من النصوص التي تمثل المذهب الطبيعي في المسرح.. في هذه المسرحية حطّم سترندبرج التقاليد المسرحية، وخلق فنا جديدا في مواصفاته.. واستمر تيار هذا الخلق في إنتاجه اللاحق، وفي إنتاج من خَلَفه من الأدباء.
يقول سترندبرج، عن نفسه، في مقدمته لمسرحية مس جوليا: "لقد حطمت التقاليد، بأن منعت شخوصي من توجيه أسئلة سخيفة على إجابات بارعة. فقد تجنبت طريقة الحوار الفرنسية، بما فيها من دقة في التركيب تشبه العمليات الحسابية، وجعلت تفكير الشخوص يسير في غير انتظام، كما يحدث في الحياة الواقعية، حيث لا يصل الحديث بموضوع إلى نهايته، ولكن يأخذ ذهن إنسان ما نقطة البداية عفوا من حديث شخص آخر، ويترتب على هذا تشتت الحوار، كذلك في مدِّ المشاهد الأولى بمادة تتطور بعد ذلك وتتكرر وتنمو، كأنها موضوع قطعة موسيقية.. إذ الحبكة المسرحية مليئة بالإمكانيات، وبما أنها لا تتعلق ـ بالفعل ـ إلا بشخصين فقط، فإنني اقتصرت عليهما، مع تقديم شخصية صغيرة فحسب، ممثلة في الطباخة، كما جعلت روح الوالد التعسة الحديث المهتم أساسا بالأساليب السيكولوجية. إن أرواحنا المتطفلة لا تقنع برؤية الحوادث، بل تريد معرفة كيفية وقوعها. إن ما نريد رؤيته هو الأسلاك والآلات.. نريد فحص الصندوق ذي القاع الوهمي، ونعالج الحلقة السحرية لنجد نقطة الاتصال، ونريد أن ننظر إلى أوراق اللعب، لنرى طريقة ترقيمها.".
وقد ألغى المؤلف تقسيم المسرحية إلى فصول، وهي تجربة قام بها اعتقادا منه بأن قدرتنا المتناقضة على أن نتوهم أن ما يدور على المسرح هو حقيقة واقعة، قد أضعفتها فترات الاستراحة بين الفصول، حيث يجد فيها وقتا للتأمل، مما يجعله يفلت من سيطرة المؤلف على مشاعره وأحاسيسه.
ومن مسرحياته الواقعية: الدائنون ـ وباريا ـ ورياح السَّموم. ويظهر فيها أثر إدجار آلن بو على الكاتب.. ومسرحية "ديون على الحساب" التي اتضحت فيها آثار نيتشه Nietzsche على المؤلف. والإنذار الأول، واللعب بالنار، وحب الأم، والرباط.
وعاد سترندبرج لكتابة المسرحيات التاريخية في الفترة الأخيرة. وهذه المسرحيات شديدة الصلة بالمسرحيات التاريخية السابقة. فمسرحية "جوستاف فاسا" استطراد لمعالجة الشخوص في مسرحية "السيد ألوف". ومن مسرحيات هذه الفترة "إريك الرابع عشر" و"قصة الفولكنز" و"جوستاف أدولف" و"اننجيلبركت" و"كارل الثاني عشر" و"الملكة كريستينا".
أما المسرحيات التي كتبت بعد عام 1899. فقد وضحت فيها معالم مذاهب مسرحية كثيرة جديدة. ففي مسرحية "الوصل" مثلا ابتعاد عن المذهب الواقعي، وارتماء في أحضان الرمزية السويدنبرجية، إن عالمها مشحون بالأحلام والسحر. ومن هذا النوع أيضا مسرحية "الغرفة" التي كتبها سترندبرج لمسرح فالك في استوكهولم.
وفي مسرحية "رقصة الموت" التي يعدها النقاد أعظم أعماله، نجد قائدا منعزلا يعيش في قلعة، ومعه زوجُه "أليس" التي تبغضه ويبغضها. ويأتي كيرت صديق القائد إدجار إلى القلعة، فيسيطر جو الشر، وتقع أليس في حب كيرت، ويشتركان في تدبير المؤامرة ضد إدجار. ونتيجة صدمة من الصدمات تتغير نظرة إدجار للحياة، فيدرك أخطاءه ويسعى للوفاق والوئام، ولكن الزوجة تستمر بتحطيم زوجها من دون رحمة ولا شفقة، وتعاني في الوقت ذاته من شعور الشك المُر.
ولا يخلو عالم سترندبرج من بعض لحظات العذوبة، أو الاستراحة من تنغيص الألم والشك والغدر للحياة الزوجية، فندخل لحظة إلى ما يشبه الأحلام، في تاريخ بعيد عن تاريخ أوروبا والبلدان الاسكندنافية.. ندخل عصر هارون الرشيد وحب ألف ليلة وليلة. فمسرحية "حذاء أبي القاسم الطنبوري" مستوحاة من ألف ليلة وليلة، ومن حكايا بغداد في عصر الرشيد، وقصة حذاء أبي القاسم الطنبوري أشهر من أن تعرَّف، فقد لاحقه سوء طالعه من خلال علاقته بذلك الحذاء، حتى عرَّضه لكثير من المشكلات. لكن الجديد الذي ركز عليه سترندبرج في هذه القصة، ليس ما صادفه أبو القاسم بسبب حذائه، بل قصة حب شاعرية رقيقة، بين سليكة ابنة أبي القاسم وبين الأمير الغُوري.
فقد هام الأمير الغوري حبا بتلك الفتاة الرقيقة، وأصابه منها السقم والمرض، وتردت أحواله النفسية خاصة بعد أن سمع بعزوفها عن الزواج، فقد قررت سليكة ألا تتزوج، لأنها رأت في المنام عُصفورا ذكرا لا يخفُّ إلى نجدة زوجه، عندما وقعت في شباك الصياد، في حين أنها خفَّت هي إلى نجدته عندما وقع في الشباك نفسها وخلصته.. وكذلك لأنها رأت جارها أحمد، يترك زوجه وحدها من دون معيل، ويسافر بعيدا غير عابئ بآلامها، وبما تلاقيه من عذاب الوحدة ومرارة العيش بعدَه.
ولذا فقد رأت سليكة أن الزواج أنانية من الرجل، تقابلها تضحية مفرطة من المرأة.. وتبقى العلاقة عبارة عن مرارات تتكبدها المرأة، والرجل غير عابئ بشيء.
وسعت مربية سليكة لتوفِّق بين الأمير الغوري وبين سليكة، ولتقنعها بالزواج، ولكن الوساطة المباشرة لم تنجح، فأشار حسن، وهو أحد التجار الشُّطار، بأن يعلن الأمير الغوري عن مرضه، ويوضع في محفته على قارعة الطريق، كما هي العادة في بغداد عندما يشتد المرض على شخص ولا يجد شفاءً، حيث يضعه أهله في الطريق ليراه الناس، فيصف له العارفون منهم دواء لمرضه.
وهكذا وُضع الأمير في الطريق، ورُسمت خطة كي تمر سليكة من أمامه فتسأله عن حاله، ويدور بينهما بعض الحوار الذي لا بد وأن يعيد شيئا من الأمل للأمير الغوري، ولا بد أيضا أن يؤثر في نفس سليكة فيصيبها شيء من العطف أو الحب لهذا الأمير المُدلّه في حبها. وتسير الأمور كما رسم حسن وقرر هو والمربية. وفعلا تقع سليكة، كما تشاء الروايات والخرافات، في حب الأمير الغوري من أول نظرة، وتبدأ معاناتها من الحب وآلامه.. فهي لا تريد الزواج خوفا من نتائجه، ويقرر حسن والمربية أن يقوما بتفسير الحلم بما يقنعها بالزواج، فيرسم حسن لوحة تمثل حلمها مضافا إليه التفسير، ويجعل أحد الطيور الجارحة يهاجم العُصفور الذَّكَر في الوقت الذي وقعت فيه زوجه في فخ الصياد، وهذا هو السبب الذي منع العُصفور من نجدة زوجه، وإلا لكان أنجدها.. فالإخلاص متوفر والعاطفة متبادلة ولكن… أما التاجر أحمد الذي هجر زوجَه فقد عاد إلى بغداد بعد أن حصل على ثروة، وكان قد هاجر وتحمَّل الغربة وشظف العيش، سعيا وراء الرزق، حتى لا يعرِّض زوجه وأهله للجوع ومرارة الحاجة. وهكذا تم تفسير الأمور لسليكة، فقبلت أن تتزوج من الأمير الغُوري.
أما الطنبوري أبوها الذي عرف ببخلِه، فقد عانى كثيرا من المشكلات التي سببها له حذاؤه، وعبثا حاول التخلص منه. وكان كلما حاول أن يتخلص من ذلك الحذاء أعيد إليه، وسبب له الخسائر المادية، حتى أنه عندما رماه في بحيرة كبيرة، سَدَّ مجرى المياه عن المدينة وأُخرج ليعادَ إلى صاحبه.
هذا هو ملخص الحوادث التي تناولها (أوجست سترندبرج) في مسرحيته "حذاء أبي القاسم الطنبوري"، بالإضافة إلى تصويره لجو بغداد في عصر الرشيد، ولجولات الخليفة متخفيا مع وزيره جعفر البرمكي. وقد ركّز سترندبرج في هذه المسرحية، كما هي عادته، على العلاقة بين الرجل والمرأة، وبالأخص الزوج والزوجة، وكانت آخر كلمات في المسرحية، موجهة إلى الأميرة سليكة: "انظري أيتها الأميرة، لقد عاد الزوج لينقذ زوجه ومنزله وأولاده، وفي وسعك الآن، في قرارة نفسك، أن تتخلي عن حلمك، لأن الحقيقة قد برهنت لك توا أن الزوج يعود إلى زوجته".
وهكذا نرى سترندبرج يدور حول هذا المحور في مسرحياته، وهو علاقة الرجل بالمرأة، الأمر الذي عانى منه كثيرا في حياته الخاصة. ويبدو سترندبرج هنا أبهج ما يكون، وأقل ما يكون نقمة على المرأة.. فقد عرفناه ناقما كارها في مسرحية الأب، ولاحظنا أنه يعرض أنماطا لصور الصراع الأليم بين الجنسين، وكل ذلك بسبب علاقاته الزوجية غير الناجحة، وعلاقة أمه وأبيه. ويبدو أن هذه المسرحية كتبت في حالة صفو بينه وبين إحدى زوجاته، وهي شبه اعتذار رقيق من زوج يعود إلى أحضان زوجه بعد جفاء.
المسرحية رقيقة في معالجتها، وبسيطة في أسلوبها.. تحوي قدرا من الشاعرية وروح الشرق، وتجسد نمطا كان أشبه بالحلم المعطر بالنسبة للأوروبيين. وهي تفتقد للبنية الدرامية كما تفتقد لكثير من العناصر المشوّقة، ولعنصر الصراع بوجه خاص، وهي أشبه ما تكون بحوارية شعرية تنساب برقة وبساطة.
وفي لون آخر من المسرحيات كتبه سترندبرج فيما بعد عام 1898، نهَج نهجا واختار أسلوبا جديدا.. فأخرج مسرحية الأحلام، وهي من المسرحيات التي مهَّدت للسوريالية التي تزعمها أندريه بريتون. وتمتاز ببعدها المطلق عن الواقع وإغراقها في الذاتية. ففي مسرحيته "إلى دمشق" تتجلى السوريالية الخالصة، حيث تعرضها الأحلام والأشياء الذاتية الخاصة. ولم يكن سترندبرج يخبط خبط عشواء، عندما كتب هذا اللون من المسرحيات، ولكنه كان يكتب حسب هدف وضعه هو.. فقد صرح بأنه "حاول محاكاة أسلوب الأحلام، بما فيه من تفكك وبما فيه من منطقية. كل شيء محتمل وممكن الوقوع، إن الزمان والمكان لا وجود لهما، فمن إنسان واقعي تافه يمكن للتمثيل أن يبتكر عددا من الذكريات والخبرات والخيالات السابحة، والسخافات والأعمال المرتجلة. إن الشخوص تنقسم وتتكاثر وتختفي وتتجمد وتبهُت وتنضج معالمها، ولكن شعورا واحدا يسيطر عليها جميعا هو شعور الحالم. وفي هذا الوجود، لا أسرار ولا تناقضات أو قوانين أو نوازع للضمير.. كما لا يوجد هنا إدانة أو إعفاء، بل مجرد سرد لقصة. وبما أن الحلم غالبا ما يكون مؤلما وقلما يكون سارا، فإن القصة تسري فيها رنَّة الأسى والعطف على المخلوقات. ويلعب النوم، على الرغم من تحريره لنا من قيود الواقع، يلعب دورا مؤلما في غالب الأحوال. وعندما يبلغ الألم أقصاه، يستيقظ الإنسان ليلائم نفسه مع الواقع الذي يكون، على الرغم من مرارته، أسعد حالا من عذاب الأحلام".
هذه هي وجهة نظر سترندبرج في كشفه الجديد لعالم جديد. وأهم مسرحيات هذا الكشف "سوناتا الشّبح"، وهي كشف واسع النطاق لزيف وخداع كبيرين، غلّفا حياة عدد من الشخصيات، وتكاد تعطي صورة عن مجتمع. وتقود حملة الكشف شخصيةُ رجل عجوز مقعد يصنع الأعاجيب. وها هو يحاصر بيتا من البيوت التي تظهر كنموذج للبيت المثالي الذي يطمح الناس إلى مجرد الدخول إليه، فضلا عن أن يكوّنوا بيوتا على شاكلته.. والأسرة التي تعيش فيه، تُعد من أفضل الأسر وأرقاها.
تبدأ المسرحية مع العجوز الذي يلتقي بطالب قام بالأمس بعمل شجاع، فأنقذ بعض الأرواح من تحت ردم بيت انهار فجأة. ويحاول العجوز أن يقنع الشاب بأن والده قد أساء إساءة كبيرة له قبل وفاته، وأنه لا يريد ثمنا لذلك سوى أن يقدّم له خدمة بسيطة جدا.. أن يذهب إلى المسرح، ويتعرف على ابنة الكولونيل صاحب البيت، ويعرف المكانة التي ستكون له هناك مع أبيها. يوافق الشاب ويرتب العجوز بقية الأمور.
في مرحلة أخرى، نجد أسرة الكولونيل تستعد لاستقبال زوار في مقدمتهم الطالب الشاب، ونرى الخادمين يتحدثان وهما يهيئان ما يلزم للدعوة، وفي أثناء حديثهما، يدخل الرجل العجوز ويطلب مقابلة الكولونيل، وفي المقابلة تظهر سيطرة العجوز على الكولونيل، لأن الأخير سبق أن سرق خطيبة الأول، واضطر الثاني إلى أن يرد له فعلته بأسوأ منها، فأغوى امرأته، وأنجبت منها الفتاة التي نراها الآن مُنية المُتمني.
ونظرا لأن العجوز يعرف السوء الذي تغوص فيه أسرة الكولونيل، فقد قرر أن يجد لابنته شابا نظيفا، فأوقع ذلك الطالب بين مخالبه. ولكي يضمن لابنته وللشاب جوا نظيفا في المستقبل، قرر أن يكشف الفساد في ذلك البيت. ولذلك عرَّى الكولونيل صاحب السوابق الذي لم يكن لا نبيلا ولا "كولونيلا"، وجرَّده تماما، وعرَّى الزوجة التي كانت خطيبة سابقة له، وبدأ يقدم سلسلة حسابات غريبة. ولكن الزوجة التي عكفت عشرين سنة في صيوان صغير بالمنزل لا تخرج منه، حتى أصبحت كأنها مومياء، تنطق كلمات معيَّنة بطريقة معيَّنة، حتى لتخال أن في البيت ببغاء لا كائنا حيا، الزوجة تواجه العجوز بحزم غريب، وتُبطل أسلحته كلها. لقد أوقفت عقارب الساعة، والتفتت إليه تقول:
"أستطيع أن أوقف الزمن عن سيره، أن أمحوَ الماضي وأصلح ما فسد، ولكن لا بالرشوة ولا بالتهديد.. بل بالمعاناة والتوبة. نحن مخلوقات تعسة، تعلم هذا. لقد أخطأنا وأذنبنا كما فعل من عَدانا، على أننا لسنا كما نبدو، لأننا في أعماقنا خير من أنفسنا ما دمنا نكره خطايانا، ولكن عندما تختار أنت يا "جوزيف هامل" باسمك المزيف، أن تجلس منا مجلس الحُكم، فإنك تسجل على نفسك أنك أسوأ منا نحن الخطاة التعساء.. لأنك لست الإنسان الذي تبدو في ثيابه. أنت لص للنفوس الإنسانية، أنت سرقتني مرة بالوعود الكاذبة.. أنت قتلت الكولونيل الذي دُفن اليوم، أنت سرقت الطالب بعد أن قيدته بادعاء دَين على أبيه الذي لم تُداينه بفلس واحد أبدا. ولكن هناك نقطة غامضة في حياتك، لست على ثقة تامة من كنهها، على الرغم مما عندي من شُبهات".
وتمضي المومياء بالكشف عن تلك الشّبهة، ويتضح أن هذا العجوز مجرم قديم، وقد أخذ فتاة بائعة لبن صغيرة ليغرقها لأنها اطلعت على جريمته، وهو يخشى، ولا يستطيع أن يرى أية بائعة لبن. وعندما يُعرَّى على هذا النحو، تطلب إليه المرأة المومياء أن يدخل خلف حاجز مُعدٍّ في البيت دائما ليموت خلفه من أصبح موته محتما. وهناك يشنق العجوز نفسه، لأنه سيئ إلى درجة لم تعد محتَملة.. ولا بد من أن يموت هو أولا، إذا أراد أن يهيئ للطالب وللفتاة، الابنة، حياة سعيدة.
في الفصل الأخير من المسرحية، نجد الفتاة والطالب وهما يتبادلان حوارا عن الحياة والمُتَع، يشبه المقبلات التي تفتح النفس للطعام، ولكن نشعر بأن كلا منهما لا يُقبل على الحياة بنفس مفتوحة.. كأنما هناك حائل أو جدار، وتستمر لعبة تقبُّل الحياة معا.. لعبة الإيهام والخداع التي تسهِّل العيش.. ولكن الفتى يصل إلى نهاية المطاف فيقول لفتاته:
"تصوري أن أجمل الأزهار تكون سامة إلى مثل هذا الحد، بل أشدها تسميما. إنها لعنة تحيق بالخليقة كلها، بالحياة ذاتها. لماذا لا تكونين زوجتي؟! لأن ينبوع الحياة ذاته في داخلك سقيم. من السموم ما لا يذهب بالبصر، ومنها ما يفتح الأعين.. ويبدو أنني ولدت وفي دمي ذلك النوع الأخير، لأنني لا أستطيع أن أرى القبيح جميلا، ولا أن أسمي الشر خيرا. يقولون إن المسيح قد هبط إلى الجحيم..
إنهم يقصدون مجيئه إلى هذه الأرض.. إلى مصحِّ المجانين هذا.. إلى هذه المقبرة." وعند هذا الحد تنكشف النهاية أمام الفتاة، وتموت خلف الساتر المعدني هي الأخرى وتختفي، فيترحم عليها الشاب، ويعتبر أن المنقذ قد رئف بحقها. وتنتهي المسرحية بأنشودة تفيض سماحة.
ويتجلى في هذه المسرحية تشاؤم سترندبرج بوضوح، ولكنه حصاد معاناة واعية في الحياة، ولا يريد صاحبها أن يتلهى بتصيد الفرح على أرصفة الدنيا ببلاهة مطلقة.. ولا يريد أن يعيش الوهم ويسعى إليه متقنِّعا بألف قناع، ليستسيغ لقمة مرة كل يوم، تشكل بمجموعها لقيمات الحياة ومراحلها. إنه يريد الطهارة والنقاء والوضوح، يريد الحياة في ظل الصراحة والبراءة والصدق، يريد أن تأخذ الحياة مجراها بنقاء، كما تأخذ زهرة الأوركيد الماء وتحوله إلى عطر ولون جميل، من دون أن تكون سامة شديدة السُّمية، على الرغم من جمالها وعطرها.. يريد.. ويريد.. ولكن هذا لا يتوافر له في دنيا الأحياء التي تقوم على الخديعة والمكر والزيف.
وفي أسلوب المعالجة الفنية الذي اتبّعه سترندبرج في هذه المسرحية، إرهاصات بما سنراه في مسرح العبث واللامعقول، عند صمويل بيكيت ويوجين أونيسكو. وقد حقق تقنية متقدمة، ورسم شخوصا، وسجل حوارا تأثر به كتاب المذاهب الفنية المجدّدة فيما بعد، ونراه عندهم بوضوح. من ذلك قوله:" كل لغة شيفرة".. التي سنراها تنقلب عند يونسكو إلى لغة حوار غريبة تصل إلى علامات "دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي"، و"ما جدوى الكلام ما دام كلٌّ منا لا يستطيع مخادعة صاحبه"، تلك التي ستظهر في مضامين مسرحيات بيراندللو وفي كثير من مسرحيات سواه كهويّة، فقد كان له في غيره من الكتاب والناس تأثير كبير.
إن سترندبرج يلخص تاريخ المسرحية من 1800 حتى العصر الحاضر، ففي أدبه بذور المذاهب كلها "الرومانسية والواقعية والطبيعية والوجودية والعبثية.."، لقد حطم سترندبرج، أكثر من أي رجل آخر، دراما القرن التاسع عشر، وأتاح لمن تبعوه أن يبدأوا على أرض ممهدة. وقد قال يوجين أونيل: "إنه بشير التجديد في مسرحنا الحديث"، ويُعرَف من أكثر النقاد بشكسبير السويد.. إلا أن هذه التوصيفات لا معنى لها، إذا لم يكن الإنتاج دليلا عليها وشفيعا لها.. ولدى سترندبرج إنتاج يستحق الكثير.
لقد مرت حياته العاصفة بين طيات الألم والاضطراب والعُقد النفسية، واستمرت الأمواج تلطمه ويلطمها إلى يوم عيد ميلاده الثالث والستين.. بينما كانت السويد تحتفل، ويحتفل معها العالم بابنها العظيم، وبينما كانت المواكب تسير تحت نافذته، والناس ينادون به أعظم كُتاب السويد، كان الموت يتربص به. وبعد أن شهد بعينيه احتفال العالم به، فارق الحياة في عام 1912 وهو يحتضن الإنجيل.