[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/kazemalmosawy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]كاظم الموسوي[/author]
اراد المؤلفان التأكيد على أهمية مراكز الفكر كلاعب أساسي في الديمقراطية إلا أنهما استمرا في سرد تشوش التعريف عند الأوساط الفرنسية، فأعادا تعدد الاسماء، للعنوان ذاته، معددين: خلايا التفكير، مختبرات الافكار، مصاهر الفكر، وغيرها. ووجدا في تعريف استاذ العلوم السياسية الأميركي جيمس ماكغان لها بعض حل، حيث نقلا عنه رأيه; "مراكز الفكر تشكل جزءا من صميم المجتمع المدني وتعمل كمحفز للأفكار والفعل المهم في الديمقراطيات الصاعدة والمتقدمة في العالم".
وحاول المؤلفان أن يوفقا بين هذه التعريفات وما يتطابق معها في ثقافة المجتمع الفرنسي، ومن خلال وضع تسع سمات متميزة لها تعرفها أو تقربها، هي: مركز الفكر هو هيئة دائمة، ومتخصص بإنتاج حلول للسياسة العامة، وذلك بفضل طاقم متخصص متفرغ للبحث، ويؤمن ناتجا أصيلا من التفكير والتحليل والنصح، ورسالته أن يوجه إلى الحكام وإلى الرأي العام، وغير مكلف بإنجاز مهام حكومية، ويسعى بشكل عامل للإبقاء على استقلاليته الثقافية، ولا يرتبط بمصالح محددة، ولم تعد مهمته الأساسية تأهيل أو منح شهادات، وأخيرا لعمله طموح ظاهر أو مخفي للعمل على مفهوم ما للخير العام بخلاف الهيئات التي همها الربح أو التجارة فقط (ص60). هذه السمات تتطابق مع كل التعريفات تقريبا، ومنها الفرنسية طبعا، الا أن الأوساط الفرنسية وضعت أمامها مهمات مباشرة لخدمة الأهداف منها في تخصصات مطلوبة وتقليدية في مدلول أو مسير المراكز الفكرية. ورغم تاخر الاهتمام بها في فرنسا واوروبا عموما ظلت النماذج الانجليزية والامريكية هي الأبرز في المشهد أو على هذا الصعيد. وتوزعت الاهتمامات فيها حسب متطلباتها زمانيا ومكانيا. بل جرى تقسيمها إلى أربعة أنواع، هي: الأول، مراكز الفكر الجامعية، وهذه هي "الجامعات بدون طلاب" مثل المؤسسة الفرنسية للعلاقات الدولية في فرنسا، ومركز دراسات السياسة الأوروبية في بروكسل. والثاني، مراكز الدفاع وتنتج أفكارا وتوجيهات تنسجم بدقة مع مبادىء أساسية ومع محور تدليل اوليات قضية معينة، مثل مؤسسة ادم سميث في بريطانيا ومؤسسة هريتيج في واشنطن. والثالث، مؤسسة البحث بالتعاقد، وهي شبيهة بمراكز الفكر الجامعية ولكن اختلافها بموارد التمويل التي تأتي بشكل أساسي من عقود مع وكالات حكومية أو مصالح خاصة، كمؤسسة رند. والرابع، مراكز الفكر التابعة للاحزاب، وتتمتع باستقلال ذاتي وعملها مفيد للحزب المرتبطة به. وكلها في النهاية مصادر بحث ومخازن افكار مستندة على المواهب والخبرات والإعلام والإقناع والتقنيات الحديثة في إلزامية التواصل والاثر السياسي.
هذه المراكز تأسست وتطورت بعد الأزمات التي عصفت في أوروبا واميركا، أو في العالم كله، والتي لم تعد الحكومات وحدها قادرة على إيجاد الحلول لها.
وضع المؤلفان أربع مراحل أو فترات أسهمت فيها. هي قبل وأثناء وبعد الحربين العالميتين، الأولى والثانية، وفترة الصدمات النفطية في السبعينات، والرابعة بعد سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة. وتوسعت مراكز الفكر وازدادت نوعيا وكميا، ولعبت أدوارها واسعة في التحولات والمتغيرات الدولية. وتشابكت فيها الحكومات والشركات والمصالح الحكومية والخاصة والمشتركة واسهمت العولمة فيها ايضا. فحسب حسابات البروفسور ماكغان، "ثلثا مختبرات الأفكار الموجودة اليوم تأسست بعد عام 1970 واكثر من النصف منذ 1980" وزاد عددها خمس مرات بين 1990-1970 ووصل عددها إلى 1500 مركز ومؤسسة في الولايات المتحدة، حسب دراسة ماكغان، وفي أوروبا كان انفجارها اكثر حداثة ولكن ليس أقل مشهدية. ورايا أن التعقيد المتصاعد للرهانات والتحولات السياسية اليوم، في عالم معولم، يحفز ويشكل مراكز الفكر (ص 109) وعن طريق هذا الرأي كشف المؤلفان الأدوار الفاعلة والخطيرة في تعميم المصالح الأميركية والتغلغل السلبي ومحاربة المجتمعات الأوروبية الشرقية والتفاعل داخلها لإسقاط أنظمتها وحرف توجهاتها، تجسيدا لعدائها الايديولوجي. وهي كذلك من خلال العرض الموجز لاسماء وأدوار وتمويل هذه المراكز أو مسمياتها.
كما وضحت تداخل الأهداف والمشاريع والمخططات فيها، وتعارضها مع قدرات المجتمعات وظروف التغيير والضغوطات المتصاعدة عليها، في السباق السياسي والتنافس الأيديولوجي والصراعات الفكرية والسياسية. مثلما لعب ولا يزال التمويل المالي دوره في تخريب استقلاليتها وموضوعيتها وفوائدها الأساسية. مما جعل القفزات في نموها وتعددها واعدادها غير نافعة بما يخدم المصالح الوطنية والقومية، وهو ما قامت به بشكل خاص الشركات متعددة الجنسية والأميركية منها. أو يمكن اعتبار ما قامت به لا يصب في تقدير وظيفتها الرئيسية في إدارة العلاقات والسياسات والتأثير على الرأي العام لخدمة مصالحه الأساسية. وفي قراءة تطورات الأوضاع ومراكز الفكر نقل المؤلفان اراء متضاربة تركز على طبيعة الصراعات فيها وحولها بين المنتجين الأميركي والبريطاني من جهة والأوروبي من جهة اخرى، وتجتمع أغلبها في ترويج الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق الحر. اي ان اغلبيتها تنحو باتجاه واحد، تنقصه الأصالة وتسوده المصالح السياسية الآنية والمستقبلية لحكومته. وهذا ما فضحه مفكران اميركيان معروفان، هما، جوزيف ستغلتز ونعوم تشومسكي في كتب ومقالات وتصريحات منشورة.
خلص الكاتبان بعد جولتهما السريعة على مراكز الفكر في مواقعها وأثرها فيها وتحليل فعاليتها في المناطق والبلدان التي تواجدت أو امتدت اليها، إلى أن مراكز الفكر تعيش توترات متنوعة دائما، بحسب رأيهما، أبرزها التمويل المالي ولهذا فإن تنويع مصادر التمويل عامل إيجابي ومحفز أساسي لأهدافها وتطورها واستقلاليتها الفكرية، كما أن الأزمات والصراعات الدولية توفر البيئات الملائمة التي تحتاج إلى التوازن والموضوعية والنجاح لاماد اطول وآفاق أوسع مما يوفر الفرص لها والضرورة لاستمرارها أو تجددها أو العكس منها، وكذلك تشديد التنوع وتجدد الأفكار وقدرات البروز الاعلامي أو البرهان على استثمار التقنية الحديثة ووسائل التواصل والانترنت بما يضيف لها ويعزز الاحتياج اليها، ويعيد الى الأذهان الدور الفعال لمراكز الفكر، أو ما اصبح معروفا كذلك بعد تلك الفترة من التشوش، والانتباه الى صحوة التعريف والتحديد ومواجهة التحديات أو الأزمات.
يبدو أن المؤلفين في كتابهما هذا حاولا إثارة الانتباه لدور مراكز الفكر وأهميتها وفعاليتها في عالمنا المعاصر، مع تركيزهما على الحاجة إليها، وضرورتها في إلادارة والسياسة والعلاقات ومستقبل العالم، ومن خلال الكتاب تفهم الخطورة أو ما وراء ما قامت به بعض تلك المراكز في فترات محددة من أدوار مصيرية ومهمات كارثية على الشعوب والبلدان التي توجهت أو وضعتها هدفا لها. وهنا موضع الاهتمام أو الاعتبار، والمبادرة والاجتهاد. فليس كل شيء لامع ذهبا.