إن سر نجاح الدول المتقدمة كان في تبني قيم ومبادئ أخلاقية أصبحت راسخة لدى شعوب هذه الدول، إلا أن هذه الدول أو معظمها خرجت عن هذه الضوابط والقواعد الأخلاقية في سياساتها الخارجية، فكانت معاييرها مزدوجة وفق مصالحها التي تدعيها، والتي لا تخدم بالتأكيد مصالح الشعوب..

ما زال الجدل الدائر بشأن العلاقة بين السياسة من جهة والمصالح والأخلاق من جهة أخرى قائما منذ زمن بعيد، حيث اختلفت الآراء حول هذه العلاقة وأيهما أصلح لحياة الشعوب والمجتمعات الإنسانية، للدرجة التي جعلت البعض يزعم بأنه من المستحيل الجمع بين المصالح والأخلاق في سياسة واحدة، وأن الغالب في سياسة الدول هي المصالح وليس الأخلاق، وذلك على الرغم من حرص الدول المتقدمة على التمسك بالمبادئ والأخلاق، باعتبارها الحصن الذي يحمي الدول والحضارات من الوقوع في براثن التدهور والانهيار، وقد وصل التمسك بذلك لدرجة إسقاط رؤساء دول فقط نتيجة للكذب في بعض المواقف، وكأننا إزاء حالة من التناقض العجيب بين الرغبة في التمسك بالأخلاق في السياسات الداخلية للدول، وبين الدوافع المصلحية التي تجبر الغالبية في النهاية على تجنيب الأخلاق حفاظا على مصالح ضيقة تضر أكثر مما تنفع.
إن الغرب يعيش حالة من التناقض الشديد ما بين المبادئ والقيم الداخلية التي يرعاها ويحافظ عليها، وبين سياساته الخارجية التي تعتمد مبدأ المصلحة كمبدأ في التعامل مع العالم الخارجي، خاصة العالم الإسلامي، بالرغم من أضرار ذلك الخطيرة على علاقاته ومصالحه.
وقد يكون ذلك راجعا إلى بعض مفكري الغرب ومنهم المفكر الاسباني "فرنسيسكو دو فيتوريا" الذي قلب الحقائق ورأى أن الحرب واجب إنساني ووسيلة لفرض احترام الأخلاق والقانون، وأن المُستعمر غايته تحقيق المصلحة الكونية في الدفاع عن الحقّ، وهو نفس ما كتبه جروتيوس مؤلف كتاب "قانون الحرب والسلم" والذي يعترف فيه بشرعية اللجوء إلى الحرب العادلة للدفاع عن الحقوق الأساسية: حق المساواة، حق الاستقلال، حق البقاء، وإقامة المبادلات الخارجية.
ووصل الأمر ببعض الفلاسفة كالفيلسوف البريطاني هوبس (1588-1679) لأن يكتب نظريته في العلاقات بين الدول على أساس المصالح، وأن العلاقات بين الدول لا ترتكز على مفاهيم الشرعية أو العدالة، وأن العنف والحيلة يُصبحان من الفضائل في أوقات الحروب.
وقد نتج عن ذلك مقولات مغلوطة انتشرت لدرجة أصبحت معها وكأنها الأساس في العلاقات الدولية وليس العكس، ومن ذلك أن العلاقات الدولية تحكمها المصالح السياسية والتحالفات الاستراتيجية ولا تحكمها الأخلاق، فالأخلاق والقيم هما غطاء لمصالح اقتصادية وثقافية واصطفافات عسكرية، وأن طابع المبادئ والعلاقات التي تعالجها السياسة تختلف نوعيا عن تلك التي تتناولها الأخلاق لتصل إلى حد التعارض عند ميكافيلي الذي يغلّب السياسة على الأخلاق في كتابه "الأمير" ليس هذا فحسب، بل ويصل البعض إلى أن الأخلاق والسياسة ماهيتان مختلفان بطبيعتيهما، ومن المحال احتواء إحداهما للأخرى.
إلا أن ذلك يتناقض مع ما سبق وحرره الفيلسوف اليوناني أرسطو في مقدمة كتابه "الأخلاق" حينما أشار إلى أنه من الخطأ أن نحرر العلاقات من معاييرها الأخلاقية ونقرنها فقط بما تسوغه المصالح والغايات الوطنية أو الطبقية أو الطائفية الضيقة، فالوسائل والغايات حلقتان مترابطتان وكل منهما شرط للأخرى، وإنجاز الهدف العادل يتطلب صحة اختيار الوسائل التي تخدمه وتلائمه، وبغير ذلك ستفضي الأمور إلى تشويه الهدف وهزيمة أصحابه في نهاية المطاف.
وهو نفس المعنى الذي أكده الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت" الذي خالف نظرية هوبس، واعتبر أن الحروب تندلع فقط عندما لا يتوصل الناس إلى تحقيق مجتمع مدني قائم على الأهداف الأخلاقية، الأمر نفسه بالنسبة للإمام الغزالي الذي اعتبر السياسة أشرف العلوم ووظيفتها استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المستقيم المنجي في الدنيا والآخرة.
إن سر نجاح الدول المتقدمة كان في تبني قيم ومبادئ أخلاقية أصبحت راسخة لدى شعوب هذه الدول، إلا أن هذه الدول أو معظمها خرجت عن هذه الضوابط والقواعد الأخلاقية في سياساتها الخارجية، فكانت معاييرها مزدوجة وفق مصالحها التي تدعيها، والتي لا تخدم بالتأكيد مصالح الشعوب، فهل نعود للموازنة ما بين المصالح والأخلاق، باعتبار أن الثانية مكملة للأولى، وأن الأولى لا تتعارض مع الثانية؟ أم سنظل مغمضي العينين ونحن نسير بقوة نحو الهاوية؟

د.أسامة نورالدين
كاتب صحفي وباحث علاقات دولية
[email protected]