قراءة ـ علي بن صالح السليمي:المؤتمر العالمي (التجديد في الفتوى بين النظرية والتطبيق) الذي عُقد بالعاصمة المصرية (القاهرة) خلال الفترة من 16 الى 18 أكتوبر 2018م اشتمل على عدد من المحاور وأوراق العمل الهامة.ومن ضمن ما قُدِّم خلال المؤتمر كانت لنا هذه القراءة في بحث بعنوان:(مــقاصــد الإفـــتــاء في الأمور العــــامـــة وشــــؤون الدولــة) لسعادة الشيخ أحمد بـن سعــود السيـابــي ـ الأمين العام بمكتب الافتاء.يقول سعادته في مقدمة البحث: من المألوف أن المقاصد كانت تضاف إلى الشريعة، فيقال: مقاصد الشريعة، ولم يكن مألوفاً إضافته إلى الإفتاء، وبما أن المقصود بالإفتاء هو الإفتاء الشرعي، فإن الشريعة والإفتاء كلتاهما تخرجان من مشكاة واحدة ألا وهي الفقه، لهذا جاء العنوان المذكور لهذا البحث الذي ينقسم إلى قسمين، الأول: مقاصد الإفتاء في الأمور العامة، والثاني: مقاصد الإفتاء في شؤون الدولة.وحول عنوان البحث وهو:(مقاصد الإفتاء في الأمور العامة وشؤون الدولة) قال سعادته: المقاصد جمع مقصد، مصدر ميمي مأخوذ من الفعل الثلاثي قصد، والقصد هو استقامة الطريق، والقصد في المعيشة ألاّ تسرف، ولا تقتّر، والحديث (ما عال مقتصد ولا يعيل)، وأضيفت إلى الشريعة فقيل "مقاصد الشريعة" حيث أصبحت فناً علمياً حاز على اهتمام علماء أصول الفقه المعاصرين، وقد كان هذا العلم مرتبطاً بأصول الفقه، وهو يبحث في مآلات الأفعال، وقد اشتهر بذلك قديماً أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي في كتابه (الموافقات)، وفي العصر الحديث كان المبرّز فيه محمد الطاهر بن عاشور فقد ألّف فيه كتاباً مستقلاً سمّاه (مقاصد الشريعة)، على أنه لم يكن لـ (مقاصد الشريعة) تعريف اصطلاحي محدّد لدى الأقدمين، بيد أن المعاصرين ذهبوا في التعريف بها تعريفات متعددة تلتقي كلها على باب واحد وتجتمع عند مدخل واحد، فبعد أن ساق تلك التعريفات كل من: السيد ناصر درويش، والدكتور سليـّم أولاد ثاني، قال السيد ناصر درويش: وعليه فأقول: إن مقاصد الشريعة هي أسرار التشريع المنضبطة، أو هي المعاني المختلفة، والعلل المتعددة الملحوظة في استنباط الأحكام والعمل بها، وقال الدكتور سليم أولاد ثاني: ويستفاد من خلال هذه التعريفات وغيرها أن المراد بمقاصد الشريعة هو ما أراده الشارع الحكيم من مصالح ومنافع تعود على عباده من خلال تشريعه للأحكام فتحقق صلاحهم في الحال، وفلاحهم في المآل، ومن الملاحظ أن هناك ترابطاً بين العلة والمقصد والمصلحة ، فالعلة تؤدي إلى المقصد، والمقصد يؤدّي إلى المصلحة.موضحاً بقوله: وقد رأيت في هذا البحث إضافة المقاصد إلى الإفتاء، لأن الإفتاء المقصود في البحث هو الإفتاء الشرعي الفقهي، ليكون عنوان البحث (مقاصد الإفتاء في الأمور العامة وشؤون الدولة) ولعله يكون عنواناً جديداً للمقاصد والإفتاء، على أن الأمانة العامة للمؤتمر كانت قد اقترحت عليّ الكتابة تحت عنوان (قواعد الإفتاء في الأمور العامة وشؤون الدولة) فرأيت أن هذا العنوان يجرني إلى القواعد الفقهية، وهي من الكثرة بمكان، وربما يجعلني لا أستطيع تمييز ما بين تلك التي تتعلق بالأمور العامة وشؤون الدولة من غيرها، لذا كان عنوان المقاصد هو اختياري، وأسأل الله العون والتوفيق، على أن بعض المقاصد تأتي في صورة قواعد أو ضوابط فقهية، بيد أنها بعد التحليل والتعليل يتبين المقصد منها، ثم المصلحة، أمّا الإفتاء فهو مصدر للفعل أفتى، أي بيّن الحكم، وقال الفيّومي: يقال أصله من الفتى، وهو الشاب القوي أي أن الفتوى تعني القوة، وإذا كانت الفتوى تعني القوة فذلك يعني أن المفتي أيضاً من القوة بمكان.أما تعريفها الإصطلاحي فقال الباحث: فقد عرّفتها في بحث سابق لي بما يلي: هي بيان الحكم الشرعي وفق ما تقتضيه الأحكام الشرعية الدائرة على الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة المأخوذة من الأدلة الإجمالية والتفصيلية، وأما المفتي فقد وصفه أبو سعيد الكدمي قائلاً: هو العالم المشهور بالعلم والمعرفة في مصره وعصره من أهل نحلة الحق الصادقين الذين أمر باتباعهم، وهم يهدون بالحق وبه يعدلون، فإذا كان بهذه الصفة وكان عالماً بالحلال والحرام من أهل العدالة والولاية كان حجة، وكان واجباً قبول فتياه فيما يخص به إن كان عالماً بفن من فنون العلم، والعلماء يختلفون في الدرجات والعلم والتفاضل، فمنهم البصير والمبصر، ومنهم دون ذلك، وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا ترى أنه نسبه إلى علم الحلال والحرام، ولم ينسبه إلى جميع العلم، وقال: أفرضكم زيد بن ثابت، ولم ينسبه إلى غير ذلك.واوضح سعادته: إن موضوع البحث ينقسم إلى قسمين، الأول: مقاصد الإفتاء في الأمور العامة، والثاني: مقاصد الإفتاء في شؤون الدولة، فبالنسبة الى القسم الأول وهو:(في الأمور العامة) يتفرع هذا القسم الى خمسة أبواب وهي: أولاً ـ طلب الرخصة: فقد عرّف الشريف الجرجاني الرخصة بالقول: الرخصة في اللغة اليسر والسهولة، وفي الشريعة اسم لما شرع متعلقاً بالعوارض، أي بما استبيح بعذر مع قيام الدليل المحرّم، وقيل هي ما بني على أعذار العباد، ولذلك فإن الرخصة لا تمنح لطالب الراحة من التكليف، وعلى المفتي أن يلاحظ سؤال المستفتي ورغبته، فإذا ما وقع السائل في أمر مشكل فحينئذ تبذل له الرخصة المخفّفة عنه عناء المشقة فإن المشقة تجلب التيسير، حسب القاعدة الفقهية الكبرى وهناك تبذل لطالبها بعد الوقوع فيها، أمّا من منع الرخصة لطالبها قبل الوقوع فيها، فذلك لخشية التساهل في أمور الدين، وطلباً لنجاة المسلمين، فإن العالم أمين الله في أرضه، فالواجب عليه أن لا يضع أمانته في غير موضعها، ومن غير مستحقها وهو أيضاً كالطبيب لا يضع الدواء إلاّ على العلة، ولذلك كان بعض الفقهاء يغضب إذا طلب منه الرخصة، فقد روي عن بعض الفقهاء أنه سأله سائل وقال له اطلب لي في ذلك رخصة، فأقبل ذلكم الفقيه إليه مغضباً وقال: إنما نفتي برأي المسلمين، ليس علينا في ذلك طلب رخصة، على أن الرخصة جائزة لمن اضطر إليها للحديث "إن الله يحب أن تؤخذ رخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، قال عثمان بن أبي عبدالله الأصم: وإذا ثبت معنى الضرورة وجواز الرخصة من شيء من كتاب في دين الله، فقد يخرج معنى قولهم من الإختلاف، أن من قبل الرخصة على معنى الشكر لها، كان كمن اجتهد بالأخذ في التشديد في دين الله، ما لم يحمل على نفسه في ذلك ضرراً، فإن الضرر مصروف وقبول الرخصة على هذا أفضل، ولا شك أن المقصود من ذلك كله، هو تسهيل العمل بالدين وقبوله والترغيب فيه، فإن الصعوبة منفّرة، والمشقّة طاردة، لا سيما في هذا العصر، والرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ما خيّر بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما مالم يكن إثماً.وثانياً ـ الفقيه من وسّع للناس فيما سئل عنه: هذه القاعدة جاءت في عبارات متعددة، ولكنها متفقة المعاني، فأول عباراتها جاء عن أبي أيوب وائل بن أيوب الحضرمي في القرن الثاني الهجري، فقد قالها كنصيحة منه لزميله وصديقه أبي عبيدة عبدالله بن القاسم البسيوي العماني عندما رآه متحرجاً من شهادة بوصية الفضل بن جندب فقال له وائل: إنما الفقيه الذي يعلّم للناس ما يتسع الناس فيه مما سئل عنه، وأمّا من يضيّق عليهم، فكل من شاء أخذ بالإحتياط، وقد جاء عن أبي المؤثر الصلت بن خميس الخروصي قوله: وينبغي للمسئول ألاّ يتحرج ولا يضيّق على الناس ما هو واسع لهم، ولا يوسّع ما هو ضيّق عليهم، وكانت صياغة أبي سعيد الكدمي للقاعدة كما يلي: ليس العالم من حمل الناس على ورعه، ولكن العالم من أفتاهم بما يسعهم من الحق، وهذه العبارات المتعددة بالمعاني المتفقة التي شكّلت قاعدة فقهية، تهدف إلى تبيين مقصد الشريعة التي هي كلها سعة ورحمة لتحقيق المصلحة العليا للإسلام في دنيا الناس، ولذلك جاء عن سفيان الثوري قوله: الفتوى رخصة من خبير أمّا التشدد فالكل يتقنه... وللموضوع بقية.