محمد بن ناصر الحارثي:تترك الأمم الحقيقية تأثيراتها وبصماتها الواضحة على الأمم الأخرى بصور عديدة، تنعكس بجلاء في الجانبين الثقافي والإنساني. والعمانيون باعتبارهم أمة عظيمة ساهمت في صنع التاريح البشري لم يكونوا استثناءً من هذا التأثير الإيجابي الفاعل على الأمم التي اختلطوا بها وأسهموا في بنائها، لما يملكونه من رصيد حضاري ومزايا وخصال إنسانية ووعي منفتح على الشعوب.وقد كان التأثير العماني في الغالب راجعاً إلى التجار العمانيين الذين كانوا يسافرون إلى البلدان الأخرى بحثاً عن الفرص وفي نفس الوقت قدموا رسالة الإسلام إلى شعوب تلك الدول في أنصع صورها وتجلياتها، وكانت أوغندا تلك الدولة الأفريقية التي تقع في عمق القارة الأفريقية، واحدة من تلك البلدان التى أثرت فيها عُمان.تُعرف أوغندا بأنها مملكة الجمال الطبيعية في أفريقيا وقد اطلق عليها رئيس الوزراء البريطاني السابق تشرشل بأنها " لؤلؤة أفريقيا" لما تمتلكه من طبيعة جميلة، حيث يوجد بها منبع النيل، وبحيرة فيكتوريا التي تعتبر ثاني أكبر بحيرة في العالم، وغابة موبيرا التي تعتبر ثاني أكبر غابة في العالم، واثنين من أكبر الجبال في العالم إليجونور و نزوري كما يوجد بها جامعة ماكيريريوالتي كانت وما زالت تعتبر إحدى أكبر الجامعات في أوغندا والشرق الأفريقي حيث تم تأسيسها عام ١٩٢٢م. وقد تم بناء مسجد فيها في عام ١٩٤٨م الذي اُفتُتِحَ من قبل أمير زنجبار "الأمير عبدالله".تعتبر أغندا دولة غير ساحلية تقع في شرق أفريقيا؛ حيث تجاورها من الشمال السودان ، وتنزانيا من الجنوب، وتجاورها دولة كينيا من الشرق، ومن الغرب جمهورية الكونغوو رواندا وبروندي. يوجد في أوغندا العديد من القبائل والشعوب مما يجعلها دولة متعددة الثقافات وغنية بالتقاليد والعادات واللغات المختلفة، وتعتبر اللغة الإنجليزية اللغة الأكثر شيوعاً فيها. ويُعرف عن الشعب الأوغندي بأنه شعب مضياف يتميز بتنوعه الثقافي.. خلال فترة حكم السيد سعيد بن سلطان في زنجبار، توغل العمانيون إلى العمق الأفريقي من الشاطىء الغربي"مومباسا" في كينيا، سيراً بالأقدام رغم ما واجهوه من المخاطر الطبيعية ومخاطر التعرض لهجوم الحيوانات البرية والثعابين وغيرها، وصولاً إلى المناطق الأفريقية الأخرى. في عام ١٨٤٤م، دخل أحمد بن إبراهيم العامري إلى أوغندا وهو يعتبر من أوائل العمانيين الذين وصلوا إلى أوغندا، حيث قام بعرض الإسلام على ملك "بوغندا"، ثم بعد ذلك تبعه الكثير من العمانيين. لقد ساهم وصول العمانيين إلى أوغندا واستقرارهم فيها في توسع واردهار الحركة التجارية العُمانية، فأصبح الكثير من التجار يقدمون على عرض وتبادل تجارتهم في أوغندا، واستقر بعضهم فيها بعدما شعروا الأمان، وهذا حال بعض أجدادنا الذين قرروا العيش والاستقرار فيها.ترجع كلمة "إيجانجا" إلى موسيقي اسمه "آباي وايجانجلا" الذي كان يجذب الجمهور المحلي والتجار العُمانيين أيضاً. وقد أَطلق المحليون في تلك المنطقة على العُمانيين لقب ال" ايجانجا" لعدم مقدرة بعض العُمانيين على نطق اسم المغني بشكل صحيح.التأثير العُماني في أوغندا:لم يمض وقت طويل حتى ظهرت بوادر التأثير العُماني على ثقافة الشعب الأوغندي، حيث غيرت بعض القبائل الأوغندية الملابس الخاصة بها، وظهرت الملابس العُمانية (البشت والدشداشة) في أوساط الشعب الأوغندي ، وكان الملك الأوغندي (كاباكا)، أول من ارتدى الدشداشة العُمانية (المعروفة باسم كانزو) والبشت (المعروف باسم بيسوتي)، ثم تَبَعهُ كبار المسؤولين في الدولة.وفي الغالب تكون الدشداشة بلون الأبيض أو الحليبي. وقد اتخذ الأوغنديون الدشداشة لباساً لهم في قرية بوغندا أولاً؛ ثم بدأت بالانتشار ببطء إلى القرى المجاورة؛ مثلاً في تورو، بوسوجاكلباس للوظائف الرسمية.ويعتبر نموذج الدشداشة العُمانية القديمة التي قام الأجداد بخياطتها باليد في عُمان؛ هي المستخدمة حتى الآن في أوغندا، وتبيعها المحلات، والأسواق المحلية (في بوغندا، بسوجا، بونيورو، تورو)، وبينما نحن في عُمان قمنا بإجراء تغيّرات على الدشداشة العُمانية، فإن الدشداشة التقليدية القديمة التي صنعها الأجداد لاتزال تُخاط وتُباع وتُلبس في أوغندا حتى الآن.التأثير العُماني على الأوغنديين شمل ايضاً ارتداء الإزار (يعرف محلياً باسم بيكوي ) ففي أوغندا، لا يرتدي الرجال الأوغنديون الإزار أسفل الملابس كما يفعل العمانيون، ولكن بدلاً من ذلك تضعه المرأة الأوغندية تحت ملابسها، ويعتبرونه نوعاً من الأناقة.حالياً يأتي الإزار في تصاميم وألوان متنوعة، ويستورد من دول مختلفة، وتخيط المرأة الأوغندية ملابسها بإستخدام الإزار في تصاميم مختلفة.وأود أن أذكر، أن في عُمان بدأ صنع وخياطة الإزار التقليدي في أشكال ونماذج متنوعة، وصناعته قد تمت في قرى عُمانية محلية، وقد صُدِر للأقطار الخارجية قديماً.انتشرت على نطاق واسع أنواع متعددة من الإزار العُماني في أوغندا منذ عام١٨٨٠م، وتمت تسميته طبقاً للقرية العُمانية التي تم صنعه فيها مثلاً: يطلق على الإزار الذي تم صنعه في قرية قريات "كارياتي"، ومن إبراء "بولا"، و من سمائل " اسمايري" و"الجابري" يُطلق على الوزار الذي يكون تصنيفته واسعة، وهناك ايضاً "صوبَيرة" وهو الذي يوضع حول الكتف والرأس ، وهذه الأسماء المختلفة للوزار لا تزال معروفة حتى الآن في أوغندا.العطور والأدويةعرفت عمان منذ القدم بتجارة اللبان؛ وعندما سافر العمانيون إلى أوغندا وغيرها من المناطق، حملوا معهم هذه المادة الطيبة فأصبح استخدامها مشهورا جداً في أوغندا، وما زال السكان المحليون يستخدمونه إلى الآن في مناسباتهم المختلفة. كما قدم العُمانيون أيضاً الزعفران والعنبر حيث يتم خلطهما مع الحليب، والحبة السوداء، و"الخِيلّة" التي تستخدم لغازات البطن، وعرق الليل، والثوم.وكانت الحلوى العمانية ذائعة الصيت تجلب من مومباسا في كينيا؛ ولاحقاً بدأ العُمانيون صناعتها في أوغندا. ويتم توزيع الحلوى العمانية دائماً في مناسبات الأفراح. تمازج الفنون والعاداتلم يكن من الصعب على شعب حضاري منفتح على الفكر الإنساني أن يؤثر ويتأثر.. فقد ألهم العُمانيون الشعوب التي اختلطوا معها مختلف العادات والفنون.. وفي أوغندا شاركوا بفنونهم ورقصاتهم التقليدية مع المحليين في الاحتفالات العامة كمراسم الأعياد والزواج وغيرها. وأصبح لدى المسلمين في أوغندا رقصة باسم " ماتالي" التي صارت مشهورة في مناسباتهم؛ مثل المولد النبوي ومراسم الزواج ، كما تعلم المحليون أيضاً من العُمانيين كيفية الرهن، للحصول على بعض متطلباتهم الحياتية. وطرق الذبح وفقا للشريعة الإسلامية.العُمانيون في أوغنداعُرِفَ العُمانيون بتمسكهم بعاداتهم وتقاليدهم، وثقافتهم، فاحتفظوا بملابسهم التقليدية للرجال والنساء. وعندما كنا صغاراً، كان من عاداتنا أن يكون الأبناء مع آبائهم، والبنات مع أمهاتهن في معظم الأوقات.كنا نحن الأطفال نساعد آباءنا في أعمالهم اليومية. وكانت الأمهات العمانيات موهوبات في حياكة الملابس العمانية (الدشداشة) بألوان زاهية. وكنا نجتمع في أماكن متعددة لنحتفل بالعيد، فنصلي صلاة العيد جماعةً ثم ينتظر الأطفال هداياهم.في أوغندا،عندما كنا صغاراً تربينا على أن نكون اجتماعيين مع الناس جميعهم، حيث كان الآباء يأخذون أبناءهم الذكور إلى مجالس الرجال حتى يكتسبوا الخبرات ويتعلموا ويتثقفوا من كبار السن، تلك المجالس تُساعد الطفل على أن يكبر مُكتسباً خبرات ومعارف انتقلت إليهم من الكبار الذين كسبوها عبر السنين.مجالس كهذه ساعدت أن يتربى الطفل على الأخلاق الحميدة وأن يكون حكيماً عند اتخاذ أي قرار أو إبداء رأي في حياته. هذا ينطبق أيضاً على الإناث حيث كانت الأم تأخذ ابنتها لمجالس النساء ليكتسبنّ خبرات الحياة.لقد جعل العمانيون من أوغندا نقطة تواصل بينهم وبين غيرهم من الرّحالين الأجانب والمحليين الذين أتوا من المناطق الأفريقية الساحلية (شرق افريقيا) ومناطق أخرى؛ مما جعل اوغندا نقطة تمركز لهم. كان منزل " محمد بن رشيد السناوي". (بُنِي في عام ١٩١٨م)، في إيجانجا مركزا لتجمع العمانيين والضيوف الأجانب وكان الكرم العُماني حاضراً ليستقطب الجميع، وما زال المنزل قائما إلى وقتنا الحالي.وقد شكّل العمانيون لجنة الشراكة العربية (rab Association Committee) التي كان هدفها دعم العمانيين الذين يعيشون في أوغندا. كانت هذه الرابطة مفيدة جداً ومعروفة ليس فقط في أوغندا بل أيضاً في عمان وزنجبار؛ حيث أن الجمعية كانت تعين المغتربين لتوثيق طلباتهم الرسمية للجهات المختلفة. واستمرت الجمعية تواصل عملها إلى وقت قريب.تأثير وتأثراكتسبت الأمهات العُمانيات مهارة طبخ الطعام الأوغندي المحلي مثل الموز الأخضر الذي يطلق عليه (الماتوكي)، وايضاً البوشو أو الوجالي من الذرة، والمهوجو والماهيندي.. وغيرها من الوجبات الآسوية والحلويات الهندية. وقد قامت بعض الأمهات بإعداد بعض تلك الأنواع من الأطباق وبيعها، فأصبحت مصدر دخل إضافي للأسرة العُمانية.وبدورنا قدمنا للسكان المحليين والأجانب أطباقنا التقليدية مثل القابولي، والقروص، وخبز الرخال، وغيرها، فأصبحوا يجيدون إعدادها وتقديمها في المناسبات الرسمية والولائم .ولقد نجح العمانيون في ممارسة نماذج مختلفة من الأعمال من أجل كسب الرزق، كانت معظم أعمالهم تشمل التجارة وخياطة الملابس وإعداد الطعام، والبعض الآخر اشتغل بتجارة المحاصيل والحيوانات، كما اشتغل البعض في قطاع التعليم ونشاطات النقل بالأجرة.وقد نشط أجدادنا قديماً في تصدير عدد من المنتجات العُمانية من عُمان الى اوغندا منذ سنة (١٨٤٤م-١٩٠٠م) وهذا يوضح نجاح العمانيين في إقامة حركة تجارية نشطة ما بين عُمان وأوغندا.العُمانيون الذين تعلموا ودرسوا، توظفوا بعد دراستهم في مجال الصناعة ، وغيرهم اشتغلوا في المحلات، والآخر أصبح معلماً في المدارس المحلية. سُمعة العُمانيين الطيبة ساعدتهم على كسب الاحترام المتبادل من المحليين والأجانب في أوغندا. كنت يوما .. هناكلقد استمتعتُ بالعيش والدراسة في ذلك البلد الجميل، وأصبحت لدينا ذكريات رائعة نتقاسمها مع السكان المحليين وغيرهم من الجنسيات الأجنبية، خاصةً وأنه كانت هناك درجة عالية من الإحترام والتقدير بين الجميع.كان العماني يشعر بالمسؤولية تجاه الآخرين، حيث كان يحرص على تربية أبنائه على الثقافة الإسلامية والتقاليد العمانية.وقد تأثر السكان المحليون بثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم. اكتسب العُماني بالمقابل العادات والتقاليد المحلية الحميدة التي، وساعدهم ذلك على كسب احترام السكان المحليين والأجانب (مثل: الهنود، الانجليز،.. وغيرهم ) والمحليين من أقطار أفريقيا الأخرى. التعايش جنباً إلى جنب مع السكان المحليين والأجانب جعلنا نتعلم اللغات المحلية وجعلتهم يتحدثون العربية، ما أدى إلى سهولة التعامل والتواصل مع مختلف الأطراف المحلية، ولك أن ترى أن معظم العمانيين الذين عادوا من أوغندا لديهم القدرة على التحدث بعدد من اللهجات المحلية الأوغندية بالإضافة إلى الإنجليزية والسواحلية والهندية، دلالة على الثراء والتعدد الإثني والثقافي في ذلك البلد الأفريقي الجميل. في عام ١٩٧٠م، أذاعت قناة بي بي سي العربية الخبر الأغلى والأجمل في حياة العمانيين.. حيث تولى صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم مقاليد الحُكم، فَحَزِمَ العمانيون أحلامهم وأمتعتهم .. ورجعوا إلى الوطن..