لقد اعتُبِر إبسن "صرعة" جديدة في وقت متأخر من القرن العشرين.. وإبسن للعارفين، ولمن يحبون أن يتذكروا، كاتب من كتاب نهاية القرن التاسع عشر، كتب في المسرح: الرومانسي، والواقعي، والطبيعي، والرمزي. ولا يمكن أن يقرأ أحدٌ مسرحيته "بيير جنت"، من دون أن ترتسم في ذهنه إرهاصات ببعض شخوص مسرح العبث الحديث، بتصرفاتها ومواقفها، أو بالاقتراب أو الابتعاد قليلا عن هذا المسرح المُجدد، أو عن التجديد في المسرح.
[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]

أذكر أنه في منتصف الستينيات من القرن العشرين، كان الحوار في صحافتنا يدور حول هنريك ابسن، الكاتب المسرحي النرويجي، وكان أطراف الحوار يلمِّحون، من آن لآخر، إلى أن هذا النرويجي عتيق، ولا ضرورة لإخراجه من المستودع الأدبي. ويتساءل بعض الذين كانوا يدسُّون أنوفهم في الحركة المسرحية، وليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل، وإن اشتغلوا فيها تطفُّلا عليها، يتساءلون قائلين: ما فائدة إبسن، ومن هو الآن؟!
وفي يوم من أيام تلك الفترة، دار بيني وبين زميل أحبَّ المسرح، كما أحبَّ كثيرا من المهن الفنية والأدبية، وتاقَ لأن يكون شيئا فعالا فيها.. وكان الحديث حول إبسن، وقلت يومها: إن هذا الكاتب هو أحوج ما نحتاج إليه في مراحل بناء الروح الجماعية والقيم الفردية، وفي بناء الحركة الأدبية المسرحية، من حيث إتقان البنية الواقعية للنص على الخصوص. وذهب زمن وجاء زمن، وإذا بالعَمّ إبسن يطل على عالم ذاك الزمن إطلالة غريبة، وإذا بأوروبا تصدره كصرعة جديدة معاصرة، وإذا بهذا المُحارب القديم من أجل المثل والقيم وصدق الفن والخلق، والبنية الجيدة للدراما وللفرد، إذا به يملأ خشبة المسرح مرة أخرى، وباتساع مثير للاستغراب من بعض المهتمين.
فهل إبسن يعود إلى المسرح يا تُرى؟! أقول لا.. لأنه ما خرج عن خشبته أبدا.. ولكن هناك من يكتشف إبسن لأول مرة، وهناك من يرى في إبسن زوايا لم يرها من قبل، ولهذا يعود إبسن من آن لآخر، كصَرْعة جديدة، لمن لم ير فيه كلَّ ما هو فيه، وما هو بصرعة أصلا.. إنه المسرحي العريق الذي يحتاج إليه المسرح كلما خلَت ساحته من الفرسان. وكم ذكرتني هذه العودة بتلك المحاولة الطريفة التي قام بها "باخوس = ديونيزوس" أحد الآلهة في اليونان القديمة، بعد أن أصاب المسرح اليوناني فيها ما أصابه من هبوط، وذلك حين قرر باخوس "ديونيزوس"، وهو في الميثيولوجيا اليونانية، إله الخمر، ومَنْ نشأت المسرحية من الأغاني التي كانت تقدمها الجوقة في أعياده، أي "الأغاني العَنْزيِّة أو الديثرامب".. قرّر أن ينزل إلى العالم السّفلي ليعود بإسخيلوس أو سوفوكليس أو يوربيدس، بعد أن ظهر فرسان غير لائقين بالمسرح على ساحته كما رأى، وقام من أجل ذلك بمغامرات طريفة جدا وتحمَّل المكابرة ونتائجها، بعد أن تعلَّم من هرقل، كيفية الوصول إلى هادس "العالم الآخر"، وقد ضُرب كثيرا وبشدَّة، عندما أخطأ الحرس هناك في التعرف عليه، ولم يقدروه حق قدره، إلا أن الضرب لا يؤثر فيه، فهو "إله"، وكان يمكن أن يغضب ويعود.. لكنه، في سبيل المسرح، تحمَّل كل شيء.. وحاكم كلا من إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس، ووازن بينهم، وقرر أن يعود بالأوَّليْن، لأن الساحة الأدبية خلَت من نص جيد، وشاعر مسرحي مُجيد.. وكان ذاك موضوع ملهاة الضفادع، للشاعر المسرحي اليوناني أريستوفانيس.
وما عودة أوروبا إلى هذا الحصان النرويجي، إلا عودة إلى بُنية متماسكة، فكريا وأخلاقيا وفنيا، في العمل المسرحي. وليس اكتشافه أو إعادة الكشف عنه، إلا تعبيرا عن انعدام الثقة بالصرعات الجديدة التي عمرت في دور العرض المسرحي مدة طويلة، ولم تغن عن سواها، ولم تبهج الناس، ولم تفدهم بالقدر الكافي للنهوض بالإنسان.
لقد اعتُبِر إبسن "صرعة" جديدة في وقت متأخر من القرن العشرين.. وإبسن للعارفين، ولمن يحبون أن يتذكروا، كاتب من كتاب نهاية القرن التاسع عشر، كتب في المسرح: الرومانسي، والواقعي، والطبيعي، والرمزي. ولا يمكن أن يقرأ أحدٌ مسرحيته "بيير جنت"، من دون أن ترتسم في ذهنه إرهاصات ببعض شخوص مسرح العبث الحديث، بتصرفاتها ومواقفها، أو بالاقتراب أو الابتعاد قليلا عن هذا المسرح المُجدد، أو عن التجديد في المسرح. ويستطيع إبسن أن يحملك في هذه المسرحية، على أجنحة الخيال، ويطوف بك الدنيا، في رحلة تكشف الحياةَ نفسها.. ويكفي أن يقول لك بيرجنت، في مرحلة من المسرحية، حين يعطيه الحَدَّاد الذي يمثل له عزرائيل، "فرصة" أخرى، ليحضر فيها شاهدا يستفيد منه بعد الموت.. "الوقت من ذهب، هكذا يقول الكتاب الطبيب.. لو قد عرفت فقط أين يقع مفترق الطريق، قد يكون قريبا وقد يكون بعيدا، الأرض تحترق كالحديد الأحمر. شاهد.. شاهد. أين أجد شاهدا؟ ألن أجد شاهدا هنا في أعماق العامة. إن عالما يضطر المرء فيه إلى إثبات حقوقه، وهي واضحة كالشمس، لهو عالم خَرِب.. سيئ الإدارة".. يكفي أن يقول لك "بيير جنت" ذلك، حتى يشعرك بخلاصة تجربته في الحياة التي بدأت بالخيال، وببناء قصور فوق جبال الأحلام، وأراد الإنسان بيير أن يحقق فيها كل ما يريد، من خلال اندفاع انفعالي عاطفي، معتمدا أساليب الجان، والكذب، والادعاء، والمغامرة، والغدر، والتضليل.. إلى أن يعود، وقد تقدمت به السن، يعود إلى أرض الواقع بعد جولات في مدن التاريخ القديم، وفي الماضي الحضاري للإنسانية.. يعود منهكا، ليلقى الموت من دون أن يقدم لنفسه الزاد الكافي للآخرة. إنه يريد أن يهرب.. ولكن إلى أين، ولات حين مناص؟!.. فقد واجهه الحَدَّادُ الذي يريد أن يصهره، لأن طبيعته تَلِفَت، ولا بد من إعادة صوغه مع آخرين، لإيجاد بشر أكثر جدة وقدرة وحيوية، ليخوضوا لعبة الحياة من جديد. "إن بيير جنت" إبسن يلخص الحياة ويكثفها.. ولكي يحقق ذلك، يستغل قدرات الخيال والتخييل كلها.
ونحن نواجه، في تلك المسرحية، نفَسا ملحميا غريبا، ونشعر ونحن في خضم أحداثها، بأننا نعيش رومانسية الإنسان وأحلامه ووعيه، ثم نقترب شيئا فشيئا معه من الواقع ومن الأصول، بتدرّج في خضم الممارسة.. وقد يكون ذلك بعد فوات الأوان، لكنه نوع من المقاربات التي تحدث كثيرا في الحياة مع ذلك.
ولا يخلو مشهد، في تلك المسرحية، من جدة في الحدَث أو المعالجة أو التصور، مما يجعلها، في مجملها، من نتاج أحدث المدارس المعاصرة.. وفي الوقت نفسه نستشعر ضَعفها الغريب، الذي يجعل من إبسن في بعض مقاطعها، قَطَّاف ثمار في بستان شكسبير.. وقد أحببت أن أشير هنا إلى مسرحية "بيير جنت" بالذات، لأنني رأيت فيها بذور الحداثة والغرابة والتجديد، وهي، في تاريخ كتابتها، سابقة على مسرحية "أوبو المَلك" لألفريد غاري، التي تعتبر من أوائل المسرحيات التي أرهصت بمسرح العبث واللامعقول، وهي سابقة أيضا على إنتاج فرانز كافكا الذي كان له تأثير في تلك المذاهب أيضا.
وإذا كنا نجد عند إبسن هذا الشطحات المبدعة في عالم الخيال الذي يحلل المسرح ويضمر الناس، فإننا نجد عنده أيضا، وإلى جانب ذلك: الرمزَ الأخاذ المعتمد على أسس فلسفية ونفسية، وذلك في مسرحيات مثل: براند ـ آل روزمر شولم ـ هيدا جابلر.. ونجد عنده المسرحيات الاجتماعية الفنيّة، باعتمادها على الواقع، تلك التي ترتكز على الأرض وتغرس الأقدام فيها، لترفع فوقها خيمة المُثل أو صرحها بالأحرى، ولتشدّ الإنسان إلى أعلى، حيث تصعِّد غرائزه وتسمو بأفعاله وسلوكه. ومن أمثلة ذلك نجد مسرحيات: عدو الشعب ـ بيت الدمية ـ أعمدة المجتمع. ونجد عنده مسرحية الدراسة النفسية التي تكاد تعطي أنموذج المسرحية الطبيعية في هذا المضمار، مثل مسرحية "الأشباح".
ونظرا لهذا التنوع كله نستطيع أن نقول: إن إبسن الغني الذي كان رجل المسرح العالمي في نهاية القرن التاسع عشر، وأستاذ الكثيرين فيما بعد.. نستطيع أن نقول: إن هذا الرجل يغرس جذوره عميقا في عالم المسرح، وأنَّ مَن يلتمس ثماره يجد فيها لذّة، ويجدها ناضجة وشهية حين يمد إليها يده ويتذوقها بذوق. إن عودة ابسن، أو إعادة اكتشافه ـ بالنسبة للبعض ـ لا تحتاج إلى تفسير، وإنما إلى تذكير بأن أولئك الذين يهللون له ويعتبرونه رائعا، لم يكونوا قد عرفوه من قبل، أو أنهم أدركوا أن الألعاب والاستعراضات والبهلوانيات التي مارسها "لاعبون" على المسرح، لم تجدِ شيئا، وأنه لا بد من بعث الرجال الذين يحفظ لهم فنهم حياة في قلوب الناس، لزمن يطول.. وإنها لعودة محمودة، فإبسن لديه ما يقوله، والإنسانية لم تتجاوز بعد إبداعه، لا في أوروبا ولا في سواها، وهو رجل يستطيع أن يعيش بإنتاجه على مدى قرون.. لأن جذوره أصيلة في أرض الواقع، وفي روح الإنسان وتكوينه، كما أسلفت. ويحتاج إبسن، أكثر من سواه، إلى دراسة متأنية، نظرا لحاجة مجتمعنا ومسرحنا إلى تفهمه، وإلى أدبه ومواضيعه وفن معالجته للنصوص وبنائه للشخصيات، وتجليه في مراحل بناء الصراع ونموه. وسوف أتوقف بعد قليل عند بعض النصوص التي أشرت إليها، بما في ذلك بيير جنت التي أشرت إليها.
عاش هنريك إبسن حياته الممتدة بين عامي 1828-1906 في حرب مع التقاليد والعادات والمعتقدات والظروف السيّئة في بلاده، وأمسك معول الهدم من أجل البناء، فهدم وبنى.. وترك في الدنيا دويا كأنما، تداول سمع المرء أنمله العشر، كما قال المتنبي عن نفسه.. ترك دويا بلغ صداه كل البلدان، وما زال الصدى يتردد مع السنين في آذان بعض بني الإنسان، بعد أن أصبح جثمان إبسن رمادا. تزوج، وأنجب أطفالا، وارتكب أخطاء، وأتى أعمالا حسنة.. وذاق البؤس والسعادة، وتألم وفرح.. وذهب كل ذلك أدراج الرياح.. لكن بقي لنا من إبسن ما لا يذهب به الموت، بقي لنا الإحساس الإنساني المنبثق من ضمير حي، ومن روح مثالي يسعى إلى الكمال.. بقي لنا إبسن الشاعر الأديب.. إبسن الكاتب المسرحي المِفن.. إبسن المصلح الاجتماعي.. إبسن ذو الرمز العميق، والروح الفياضة بألف شعور نبيل.. وبقي لنا ذلك في روائع مسرحية له خالدات وقد لا تزول.
يقول ألاردايس نيكول، أشهر نقاد الأدب المسرحي في العالم: "إن كتاب أصول الابسينة لبرناردشو لدليل واضح، للأثر الذي أحدثه هذا الكهل النرويجي الصارم، في نفوس الشباب، في بلاد أخرى". واهتمامنا الشديد اليوم، بإعادة تكوين مجتمعنا على أسس سليمة، تجعل من الإنسان إنسانا بحق، يتمتع بالحرية الجرأة، ويعيش أبعاد حياته بطلاقة وانطلاق نحو الأفضل.. إن ذلك يفرض علينا أن نهتم بإبسن وأدبه، وبكل أدب عميق أصيل بنّاء. فقد كان هذا الكاتب أول من نادى بحرية المرأة في أوروبا، وبحرية الفكر، وأول من نبّه إلى أن صلاح المجتمع يبدأ بصلاح الأسرة، وإلى أن صلاح الأسرة يُبنى على التفاهم الحر التام، والاحترام المتبادل، والثقافة الحقيقية، والوعي الصحيح والمسؤولية، عند كل من الرجل والمرأة.
لقد أعلن إبسن ثورة المرأة من أجل حقوقها وكرامتها كإنسانة، لها نفس ما للرجل من المكانة والشخصية والرأي، أعلن ذلك في مسرحية "بيت دمية"، حين قالت بطلتها نورا لزوجها هيلمر تورفالد: "إنني مخلوق آدمي عاقل.. مثلك تماما.. أو على الأقل، هذا ما يجب أن أسعى إليه. صحيح ياتورفالد أن معظم الناس قد يتفقون معك، فهذه الآراء تحتشد بها صفحات الكتب، ولكنني ما عدت أقنع بما يراه الناس، ولا بما يرد في الكتب. أريد أن أزن الأشياء بوحي من فكري أنا لا من فكر الغير.. أن أرقى إلى مرتبة الفهم والإدراك".
وخرجت نورا من بيت زوجها لتعلن أن لها شخصية وكرامة... وحصلت المرأة بعد ذلك على حقوقها كإنسانة، مساوية للرجل في كل شيء، بعد أن كانت كما مهملا. وأعلن إبسن أيضا ثورته على المكر والخداع والرياء في المجتمع.. وصبَّ جام غضبه على الإمّعات الذين يتلوّنون بألف لون، ولا يتصرفون إلا بوحي من مصالحهم الشخصية وأنانيتهم المفرطة.. طرح قضايا أولئك الناس في مسرحياته، وصوّرهم فأجاد في مسرحيتيه "أعمدة المجتمع" و"عدو الشعب".
ففي أعمدة المجتمع، هاجم المصلحية والأنانية، وكشف القناع عن وجوه السادة الذين يدّعون أنهم يبنون المجتمع ويعملون لصالحه، وما هم في الواقع إلا كذبة، لا تهمهم إلا ذواتهم، وينتفعون على حساب الآخرين.
وفي "عدو الشعب" كانت معركة إبسن مع التذبذب والتلون والزيف والنتهازية، معركته مع الجهل، ومع الارستقراطية المضلِّلة التي تريد استغلال الرأي العام لصالحها.. وكانت معركته مع الرأي العام الأهوج، ومع الأغلبيات التي تسحق الحق بجهلها وانقيادها للمضللين، أو بغوغائية تحكمها وتسيرها.. كتب إبسن كثيرا من المسرحيات، وفي كل مسرحية كان يعرض نوعا من أمراض النفس البشرية، ومشكلة من مشكلات الإنسان والمجتمع في عصره. وقد تدرج في حياته الأدبية من الرومانسية أو الرومانتيكية إلى الواقعية والطبيعية فالرمزية، ولكنه كان في كل ما كتب شاعر المثالية والضمير الحي.
تأثر إبسن، من الناحية الفنية، في كتابة المسرحية، بالكاتب "سكريب"، بل الأجدر بنا أن نقول: تتلمذ إبسن في فنية الكتابة للمسرح على سكريب، فأخذ عنه الحبكة المتقنة المشوّقة للحوادث، وأخذ عن "ساردو" ضرورة اشتمال المسرحية المتقنة الصنع، على مضمون يعطي للحبكة الجيدة قيمة وخلودا.. ولكن المضمون الروحي والفكري والاجتماعي لأعمال إبسن الأدبية، فكان مستوحى من منابع أخرى، كلها اسكندنافية.. من بلاده ومشكلات مجتمعه، ومن حياته وتجاربه وأخلاقه وضميره، في أثناء تفاعل ذلك كله مع الواقع.. من قراءاته وتأملاته، ومن روح العملاق المتمرد في ذاته.. وقد تأثر بالفيلسوف الوجودي المؤمن "سورين كيركجارد Kierkegaard ونهل من فلسفته كثيرا، وناقشه وردَّ على جوانب من فلسفته في مسرحية "براند"، وأنا أرى أنَّ هذه المسرحية "براند"، هي ردُّه القاسي على التزمت الروحي في تطبيق مبادئ الدين المسيحي الحرفية التي كان ينادي بها "كيركجارد" فيلسوف الدنمارك، وعلى التصوف الرهباني الخالص الذي أخذ به بعض الأتباع.
يتبع..