ماذا تفعل إذا اختطفك مجتمع مجنون وعنصري ، وحولك في لحظة من رجل حر إلى عبد يباع ويشترى لمجرد أن بشرتك سمراء؟ ترى ماذا تشعر إذا اضطرتك الظروف لأن تعيش عبدًا لمدة ١٢عامًا؟! هل ستستسلم لقهر نفسك أم تقاوم من أجلها، لتعود حرًّا من جديد؟
يشير التاريخ المعروف للبشرية إلى أن الرق ظاهرة عريقة في القدم ، تاريخها هو ذاته تاريخ الاستغلال وظلم الإنسان لأخيه الإنسان . وقد نشأت ظاهرة الاستعباد منذ عشرات الألوف من السنين ، وتحديدًا في فترة التحول من الصيد إلى الاعتماد على الزراعة المُنَظّمة كوسيلة لاكتساب الرزق ، يقول المؤرخ الكبير "ول ديورانت" في موسوعته "قصة الحضارة" : بينما كانت الزراعة تُنْشئ المدنيِّة إنشاءً فإنها إلى جانب انتهائها إلى نظام الملكية ، انتهت كذلك إلى نظام الرق الذي لم يكن معروفًا في الجماعات التي كانت تقيم حياتها على الصيد الخالص، فأن نشأة الزراعة وحدوث التفاوت بين الناس انتهيا إلى استخدام الضعفاء بواسطة الأقوياء اجتماعيًا ؛ ولم يتنبَّه الظافر في القتال قبل ذلك إلى أن الأسير الذي ينفعه هو الأسير الحي ، وبذلك قلَّت المجازر وقلَّ أكل الناس بعضهم لحوم بعض كلما زاد نظام الرق اتساعًا. وإذن فقد تقدم الإنسان من حيث الأخلاق تقدمًا عظيمًا حين أقلع عن قتل أخيه الإنسان أو أكله ، واكتفى من أعدائه باسترقاقهم. وتطور تاريخ الرق والاستعباد وانتشر في دول العالم اجمع وخاصة اميركا التى كانت تقمع اصحاب البشرى السوداء وتحاربهم وبها اندلعت الحرب الاهلية الاميركية .
وتلك القضية كثيرا ما يوجه صناع السينما الاميركية انظارهم نحوها , فتعود اليوم من جديد فى فيلم يرصد معاناة "سولمون نورثوب " ، في رحلته المستوحاة من قصة حقيقية ، فهو شخص أسود حر يتم اختطافه في واشنطن العاصمة سنة 1841 ويباع كعبد في السوق ليعمل لـ12 سنة في إحدى المزارع في ولاية لويزيانا قبل أن يطلق سراحه.

عبدا لـ 12 عاما (12 Years a Slave) : فيلم دراما تاريخي بريطاني- أميركي مبني على السيرة الذاتية " اثني عشر عاما عبد " سولمون نورثوب ، للكاتب السينمائي جون ريدلي والتي نشرت في العام 1853, الفيلم من سيناريو جون ريدلي وشيواتال إيجيوفور , من اخراج البريطاني ستيف ماكوين مخرج الافلام القصيرة الذي بات اليوم من الأسماء السينمائية المهمة التي يعتبر أي فيلم جديد لها حدثاً سينمائياً يحتفي به الجمهور والنقاد حول العالم , حيث تمكن بحسه الفني الكبير مع سيناريو شديد الإخلاص في اقتباس سيرة ذاتية تقاسم أدوارها باقتدار بين عبيد وأسياد , والذي تلقى بها اشادات ايجابية كبيرة من قبل نقاد السينما , وفي ظل كل هذا المديح، ظهرت بعض الأبواق التي انتقدت المَشاهِد العنيفة التى رصدتها كاميراته والتى اجاب عنها بأنه لا يشعر بالخجل من إظهار العبيد وهم يتعرَّضون لأبشع صور الإعدام والقتل، لأنها الحقيقة ببساطة و أنه أراد أن يقتبس قصة سولمون نورثوب بعد أن شعر أن الحقائق القاسية لزمن العبودية نادرًا ما تم تصويرها وإخراجها على الشاشة الكبيرة , فقد اخذنا ماكوين معه عبر كاميراته الى رحلة قاسية بكل ماتحمل الكلمة من معنى , حيث مشاهد التعذيب التي ينتزع فيها لحم العبيد على وقع السياط، الاغتصاب، والانتهاك السافر للإنسانية، مشاهد فاقت في واقعيتها ما تم تصويره سابقاً في أفلام ناقشت تلك الفترة. ويصل ماكوين بفضلها إلى أعماق الجحيم، مجسداً المعنى المؤلم للعبودية، وذلك من خلال عينيّ سولومان الذي يرى مشاهد التعذيب أمامه دون حول ولا قوة، فيرى الأم التي يؤخذ منها طفلها، ويرى الشابة التي تستغل من قبل مالكها الأبيض، وذلك الذي يشنق لمجرد أنه أبدا رأياً في شأن يخصه.

الفيلم من بطولة الموهوب الاسمرالبريطاني ذي الاصول النيجيرية (شيويتيل إيجيوفور) الذي يجسد شخصية بطل القصة ( سولمون نورثوب ) والذي يعد اليوم أحد أهم نجوم المسرح والسينما البريطانية، حيث تفوق على نفسه وقدم أداء لشخصية سلومون نورثوب، سيكون من الظلم البين لو لم يحصل بفضله على جائزة أوسكار أحسن ممثل، خصوصا في المشاهد التي عبر فيها عن ذهول رجل حر صحا من النوم ليجد نفسه مقيدا بالسلاسل ويتم بيعه من سيد لآخر، دون أن تقابل اعتراضاته إلا بالتعذيب المبرح، ليفقد رغبته في الهروب والمقاومة ويصبح كل ما يحلم به أن يبقى على قيد الحياة , والذي حصد به على إشادة واسعة من النقاد والجماهير
يشاركه البطولة الممثل الألماني (مايكل فاسبندر) و يجسد دور السيد الشرير الذي يسوم عبده سوء العذاب (ايدوين ايبس) , الممثلة (لوبيتا نيونجو) في دور العبدة (باتسي) التي يستغلها جسديا مالك العبيد , ويقوم النجم السينمائي الشهير (براد بيت ) في الفيلم بدور قصير يجسد فيه شخصية الرجل المتدين الملتحي(باس) وهو من دعاة إلغاء الرق , والعديد من الممثلين المشهورين والمغمورين الذين ابهرونا بادائهم الواقعى الذي اعتصر قلوبنا وادمع عيوننا وسط إشادات عالمية من النقّاد والمحترفين في مجال السينما .
تمكن فيلم (عبدا لـ 12 عاما) من تحقيق 37 مليون دولار في شباك التذاكر الاميركي بتكلفة انتاجية بلغت نحو 20 مليون دولار اميركي , وحظي حتى الآن بسبعة ترشيحات مؤكدة في الغولدن غلوب ك أفضل فيلم درامي، أفضل ممثل شيواتال إيجيوفور، أفضل ممثل مساعد مايكل فاسبندر، وأفضل ممثلة مساعدة لوبيتا نيونغو، كما حاز ترشيحات لجائزتي أفضل سيناريو وأفضل موسيقى تصويرية، وهو مرشح للجوائز نفسها في الأوسكار.
قصة الفيلم
يروي الفيلم قصة نضال سولمون نورثوب من أجل استعادة حريته التى فقدها خلال ١٢ سنة قضاها في الجنوب الأميركي (عبدا) في الفترة التي سبقت اشتعال الحرب الأهلية الأمريكية.

نيويورك (1841)
يعيش عازف الكمان الاميركي الاسمر (سولمون نورثوب) بأمان مع عائلته الصغيرة المكونة من زوجته وطفلين بمدينة نيويورك , بمستوى اسري يماثل الطبقة المتوسطة في هذا الوقت .
يلتقي نورثوب في احدى حفلاته برجلين بيض يطلبان منه العمل معهم كعازف في احدى الفرق الموسيقية بواشنطن ويقدمان له كافة الاغراءات من بدلات للتنقل اضافة الى مبلغ مالي كبير , فيوافق سولمان ويسافر معهما الى واشنطن , وبطريقة ما يحفزانه على تعاطي الكثير من الكحول الى ان يفقد وعيه في تلك الليلة .
يستيقظ نورثوب ليجد نفسه مكبل بالاصفاد الحديدية في احدى الغرف المظلمة , في مكان غير معروف , ويقوم احدى الرجال البيض بالاعتداء عليه ضربا ويخبره بأنه ليس سوى عبدا زنجيا من جورجيا وانه ليس حرا من منطقة سارتوجا بنيويورك كما يدعي .

جنون
يكاد نورثوب يصاب بالجنون لما حدث معه في اقل من 48 ساعة , من الاعتداء عليه وقمعه من البيض المتطرفين وترحيله داخل سفينه هو ومجموعة معه من الرجال والنساء الزنوج الذين يتعرضوا للاعتداءات الجنسية واذا ماحاول احدى رجالهم الاعتراض فان مصيره الموت ثم القاء جثته بعرض البحر, فيبكي نورثوب متذكرا تلك الايام التى كان ينعت فيها بـالسيد:نورثوب , ثم يجد نفسه واحدا من العبيد يباع في سوقا للعبيد بولاية لويزانا وسط العديد من الزنوج العرايا الذين يعرضون على اسيادهم الجدد .
ينتقل نورثوب الى بيت سيده الجديد (وليام فورد) , بعد ان يجبر على نسيان ماضيه , حتى اسمه يتم تغيره الى العبد "بلات " ويعمل بمزرعته , حيث يلقى منه معاملة مقبولة نسبيا , ولكونه متعلما ومتفتحا , يقترح نورثوب تصميم ممر مائي لتسريع نقل منتجات الزراعة لسيده الذي يرد له الجميل ويهديه كمانا موسيقيا بعد ان يكتشف موهبته الموسيقية , وهذا مايثير غضب مشرف مزرعته الابيض جون تيبيتس الذي يشتبك مع نورثوب (بلات) في مشاجرات متواصلة وينعته دائما بـ الكلب .
يضطر فورد الى بيع نورثوب الى مالك مزرعة اخر يدعى(ايدوين ايبس) , خوفا على حياته من مشرفه بعد ان كاد ان يقتله في احدى مرات الشجار بينهما بمساعدة رجلين من البيض .

استعباد
يجد نورثوب حياته تنتقل الى الاسوء بعد ان ينتقل الى العمل بمزرعة سيده الجديد ذلك الرجل الظالم المستعبد والسكير دائما , الذي لايرحم عبيده ويجعلهم يعملون بقسوة في مزرعة القطن خاصته , ويعتدي عليهم بالضرب المبرح باستخدام " السوط " اذا لم يجمعوا كمية كبيرة من القطن اليومي , ومن بين تلك العبيد الذين يعملون معه (باتسي) تلك العبدة الذي ينعتها ايدوين بـ "ملكة الحقل" والذي يتستغلها جسديا رغم استياء زوجته مما يجري .
تتشاجر زوجة ايدوين معه بشأن باتسي وتضربها بقسوة امامه وتخبره بأن يبيعها والا سوف ترحل عن المنزل , فيخبرها انه لن يبيعها وانه سوف يطلب منها الرحيل قبل ان ينوي بيع عبدته باتسي .
يتجدد موعد حصاد القطن السنوي بمزرعة ايدوين , وتتجدد معه مأساة القمع والتعذيب لنورثوب والعبيد الاخرين معه , والذي يلتقي في احدى الايام بمشرف مزرعة ايدوين الجديد و يدعى (ارمسبي) والذي يساعده في احدى المرات بتطيب جراحه بعد ان يتعرض للضرب , فيثق به ويخبره برغبته في توصيل رسالة مكتوبة بخط يده بحبر مستخدم من صبغة ثمار التوت , آملا ان يحملها الى موطنه لكي يستنجد بأحد اصدقاءه الذين يعرفونه لكي يخلصه من تلك العبودية , ولكن يخونه ارمسبي ويخبر سيده الذي بدوره يذهب الى نورثوب ويهدده بأن يطلعه على الحقيقة ولكن نورثوب ينكر ماقاله عنه ارمسبي.

باس
يلتقي نورثوب , وبمحض الصدفة بالنجار الكندي المتدين (باس) , وهو من دعاة الغاء الرق وينبذ العبودية , واثناء حديثه معه يخبره نورثوب بحقيقة امره وانه من العدل ان لا يكون مع اولئك العبيد , ويرجوه بمساعدته وكتابة رسالته الى اصدقاءه في الشمال , فيعده باس بذلك ويخبره انه سيكون سعيدا بمساعدته في استرجاع حريته .

عودة الى الحرية
يترك "بلات" حياة العبودية البائسة, ويسترد حياته الاولى كسيد حر (سولمون نورثوب) , وذلك بعد ان يفاجأ في احد الايام بزيارة غير متوقعة من شرطي جاء ليستجوبه عن حياته الماضية واسمه الحقيقي وعائلته , ويتأكد من صدقه وهويته الحقيقية ويقرر اخراجه من المزرعة , مايثير غضب واستياء ايدوين الذي يخبر الشرطي بأنه ملكه وانه لا يستطيع ان ياخذ واحدا من عبيده.
يعود نورثوب الى اسرته , بعد 12 عاما من الفراق , ليجد ابنته قد تزوجت وانجبت له حفيدا واطلقت عليه اسم (سولمون نورثوب ) تيمنا باسم والدها الغائب.
يشرع نورثوب بعد عودته للحياة , فى مقاضاة من قاموا باستعباده ، لكن كل القضايا التى يقوم برفعها تفشل، فهو يقاضى رجال بيض و تحت " عدالة بيضاء " لا تجرؤ على أدانة البيض لصالح السود فى ذلك الزمن حيث كانت لا تقبل شهادة رجل أسود فى مواجهة رجل أبيض.
بعدها يكرس حياته ناشطا و مدافعا عن حقوق الأنسان ويسجل تجربته في ظل العبودية عن طريق كتاب ينشر في عام 1853 يحمل اسم " 12 عاما عبودية " .
فيلم رائع ومثير، يقدم رحلة طويلة ومؤثرة تسلط الضوء على معاناة "العبيد" في تلك الحقبة، والضريبة الغالية التي دفعوها فقط لأنّ لون بشرتهم داكنًا , حيث تنقل المشاهد إلى أعماق تجربة إنسانية واقعية ومؤلمة وطويلة الأمد تنتهي بتحرير بطل القصة من أغلال العبودية والعودة إلى أسرته بعد فراق دام 12 عاما .

رؤية : طارق علي سرحان
[email protected]