(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) (4)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد .. نعيش مع آيات حج بيت الله الحرام في سورة الحج من خلال تفسير الجامع لحكام القرآن للقرطبي.
قال تعالى:(لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
الرابعة عشرة: ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ويطعم الثلث ويأكل هو وأهله الثلث، وقال ابن القاسم عن مالك: ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موصوف، قال مالك في حديثه: وبلغني عن ابن مسعود، وليس عليه العمل. روى الصحيح وأبو داود قال: ضحى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشاة ثم قال: (يا ثوبان، أصلح لحم هذه الشاة، قال: فما زلت أطعمه منها حتى قدم المدينة) وهذا نص في الفرض. واختلف قول الشافعي فمرة قال: يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى:(فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) فذكر شخصين، وقال مرة: يأكل ثلثاً ويهدي ثلثاً ويطعم ثلثاً، لقوله تعالى:(فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) (الحج ، 36) فذكر ثلاثة.
الخامسة عشرة: المسافر يخاطب بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر، إذ الأصل عموم الخطاب بها، وهو قول كافة العلماء. وخالف في ذلك أبو حنيفة والنخعي، وروي عن علي والحديث حجة عليهم، واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية وبه قال النخعي، وروي ذلك عن الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة من السلف ـ رضي الله عنهم ـ لأن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي، فإذا أراد أن يضحي جعله هدياً، والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظ من أجرهم.
السادسة عشرة: اختلف العلماء في الادخار على أربعة أقوال: روي عن علي وابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ من وجه صحيح أنه لا يدخر من الضحايا بعد ثلاث، وروياه عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وسيأتي. وقالت جماعة: ما روي من النهي عن الادخار منسوخ فيدخر إلى أي وقت أحب. وبه قال أبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي، وقالت فرقة: يجوز الأكل منها مطلعا. وقالت طائفة: إن كانت بالناس حاجة إليها فلا يدخر، لأن النهي إنما كان لعلة وهي قوله ـ عليه الصلاة والسلام:(إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت) ولما ارتفعت ارتفع المنع المتقدم لارتفاع موجبه، لا لأنه منسوخ. وتنشأ هنا مسألة أصولية: وهي السابعة عشرة: وهي الفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع علته. أعلم أن المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبداً، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة فلو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي (صلى الله عليه وسلم).
الثامنة عشرة: بيالأحاديث الواردة في هذا الباب بالمنع والإباحة صحاح ثابتة. وقد جاء المنع والإباحة معاً، كما هو منصوص في حديث عائشة وسلمة بن الأكوع وأبي سعيد الخدري رواها الصحيح. وروى الصحيح عن أبي عبيد مولى ابن أزهر أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب قال: ثم صليت العيد مع علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال: فصلى لنا قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوها. وروي عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. قال سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. وروى أبو داود عن نبيشة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(إنا كنا نهيناكم عن لحومها فوق ثلاث لكي تسعكم جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا واتجروا إلا أن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)، قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول أحسن ما قيل في هذا حتى تتفق الأحاديث ولا تضاد، ويكون قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعثمان محصور، لأن الناس كانوا في شدة محتاجين، ففعل كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين قدمت الدافة. والدليل على هذا ما حدثنا إبراهيم بن شريك قال : حدثنا أحمد قال حدثنا ليث قال حدثني الحارث بن يعقوب عن يزيد بن أبي يزيد عن امرأته أنها سألت عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن لحوم الأضاحي فقالت: قدم علينا علي بن أبي طالب من سفر فقدمنا إليه منه، فأبى أن يأكل حتى يسأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فسأله فقال:(كل من ذي الحجة إلى ذي الحجة)، وقال الشافعي: من قال بالنهي عن الادخار بعد ثلاث لم يسمع الرخصة. ومن قال بالرخصة مطلقا لم يسمع النهي عن الادخار. ومن قال بالنهي الرخصة سمعهما جميعا فعمل بمقتضاهما. والله أعلم. وسيأتي في سورة (الكوثر) الاختلاف في وجوب الأضحية وندبيتها وأنها ناسخة لكل ذبح تقدم، إن شاء الله تعالى.
التاسعة عشرة: قوله تعالى:(وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) و(الْفَقِيرَ) من صفة البائس، وهو الذي ناله البؤس وشدة الفقر، يقال: بئس يبأس بأساً إذا افتقر فهو بائس. وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم يكن فقيراً، ومنه قوله ـ عليه الصلاة والسلام:(لكن البائس سعد بن خولة)، ويقال: رجل بئيس أي شديد. وقد بؤس يبؤس بأسا إذ اشتد، ومنه قوله تعالى:(وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ) (الأعراف ـ 165)، أي: شديد، وكلما كان التصدق بلحم الأضحية أكثر كان الأجر أوفر. وفي القدر الذي يجوز أكله خلاف قد ذكرناه فقيل النصف لقوله:(فكلوا)، (وأطعموا) وقيل الثلثان، لقوله:(ألا فكلوا وادخروا واتجروا) أي اطلبوا الأجر بالإطعام، واختلف في الأكل والإطعام، فقيل واجبان. وقيل مستحبان. وقيل بالفرق بين الأكل والإطعام، فالأكل مستحب والإطعام واجب، وهو قول الشافعي.

اعداد ـ أم يوسف