على وقع مشاهد القتل والتدمير والتهجير الممنهج وحرب المفخخات التي تلغم أجواء العراق وأرضه ونهري دجلة والفرات، والتنافس المحموم على التدخلات في شأنه الداخلي، لا يزال ذلك البلد يحافظ على قوة المشهد المفزع من واجهة الحدث العربي الكئيب، ويؤكد أنه بجوار عدد من الدول العربية المصابة بصقيع "الربيع العربي" الأكثر دموية والأفجع تعقيدًا والأشرس تآمرًا والأقوى رسائل ومضامين، ففيه اختزال دون اجتزاء مخل لحجم جرائم عقد المصائب الكبرى في عالمنا العربي، وما قدمته يد الأميركي ومن خلفه وأمامه الصهيوني على مدار أكثر من عشرة أعوام من القتل والتدمير والتهجير والإرهاب وفوقية النعرة الطائفية خلف أستار الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من شعارات باهتة تضمر سوء النية وفاسد الطوية لأوطاننا وشعوبنا العربية.
وأمام مشهد القتل المجاني اليومي في العراق والذي استعر وازداد شراسة منذ قدوم موجة صقيع "الربيع العربي" فإن نظرية المؤامرة تعود بكل قوة من واجهة الأحداث الساخنة والمشاهد الدموية، نافضة غبار ما حاولت قطاعات واسعة من دوائر السياسة والإعلام العربية مراكمته عليها. فمسار تطورات الأحداث اليوم يؤكد أنها غدت ككرة الثلج يتمدد أثرها بشكل لافت، فباتت أقطار عربية أخرى في طوق المواجهة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي مؤهلة لتكون عراقًا آخر بمفردات تآمرية مختلفة.
وإذا كان العراق هو الدالة على حقيقة المؤامرة، والشاهد الأبرز على ما كان يحاك ضد المنطقة من خطط ومشاريع تآمرية تعيد رسم خريطتها السياسية والجغرافية والثرواتية، فإن عودة اليد الصهيو ـ غربية إليه بهذه القوة وشراسة التدخل على وقع جرائم صنيعتها المسماة "داعش"، تؤكد ما كان مبطنًا ومخططًا لحظة ولوج الغزو الأنجلو ـ أميركي للعراق وتنصيبه المندوب السامي أو الحاكم بول بريمر ـ كما يحلو للكثير تسميته بذلك ـ ومباشرة عملية تحقيق المخططات والأهداف التدميرية والتحطيمية، برماح الطائفية البغيضة والعصبية المذهبية والعرقية، ونظام حكم طائفي مذهبي، ودستور يرسي تلك الصورة ويثبتها على الأرض ويرسخها كفكر طائفي ومذهبي لدى أحزاب وكتل سياسية ودينية عراقية.
والمؤسف أن تلك الأطياف التي جاءت مع دبابات الغزو وحاملات طائراته أسهمت بشكل واضح وسريع في تحقيق ما في جعبة الغزاة والمحتلين من أجندة، وما زاد التحقيق سرعة هو الخلفيات والأفكار الآيديولوجية التي قامت عليها تلك الأطياف، وبالتالي تحت ضراوة التنافس بين تلك الخلفيات والأفكار ضاعت الهوية الوطنية الجامعة والمشروع الوطني الجامع والحافظ لوحدة العراق، والرافض لمشاريع التدمير المجلوبة، فكانت التفجيرات الانتحارية والمفخخات وتبادل الاتهامات، والتناحر الطائفي والسياسي والفراغ الأمني وسائل معينة على إنجاح نواة مشروع ما يسمى "الشرق الأوسط الكبير"، وعنوانًا كبيرًا له.
وها هم الغزاة المدمرون للعراق يعودون إليه من بوابات كثيرة، فكما كان دخولهم الأول من بوابة "الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير"، يعودون اليوم إليه من بوابة "محاربة الإرهاب" و"مساعدة المهجرين"، محاولين غسل أيديهم من دماء العراقيين الأبرياء وتسببهم المباشر في ذلك بخلط الأوراق بين الأفرقاء ومختلف المكونات السياسية والدينية العراقية، وإلقاء اللوم على هؤلاء الأفرقاء وإظهارهم أنهم هم من جروا هذا الوباء ضد العراق وشعبه، رافضين (الغزاة والمحتلون) أنهم هم والأفرقاء ومختلف المكونات والأحزاب العراقية شركاء فيما جرى ويجري في العراق اليوم.