محمد عبد الظاهر عبيدوأيها القرّاء .. لم يترك المشرّع أمراً من أمور حياتنا إلا وقد سَنَّ لنا ما هو خير حتى قضاء الحاجة والاستنجاء، وذلك من منطلقات منها: الطهارة والنظافة والناحية الصحية والنفسية وهذه الأمور كلها وربما سواها مما نعلمه وما لم نعلمه كانت مرعية في الإرشادات الربانية والتوجيهات النبوية في الدعاء وكيفية الجلوس والاستنجاء والاستجمار والتوضؤ، وما يتصل بذلك كله مما اشتملت عليه الآيات والأحاديث النبوية والطهارة تعني طهارة البدن والملبس ومكان العبادة وما يهيأ لها كالماء المتوضئ به والأحجار المستجمر بها أو المحارم الورقية، كما تعنى بالطهارة الاستبراء من آثار كل حدث كبر أو صغر.وقد رفع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من شأن الطهارة حتى جعلها شطر الإيمان، وقد اشترط الإسلام لعبادة الصلاة أن تُسبق بالطهارة الكاملة للبدن والثياب، والطهارة في الإسلام تنقسم إلى قسمين: ظاهرة وباطنة، فالطهارة الظاهرة تكون بالغسل أو الوضوء أو التيمم وبإزالة الخبث وجميع النجاسات، وقد كان من الأوامر المبكرة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في صدر الإسلام، فقال سبحانه وتعالى:(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (المدثر ـ 4).وفي آية واحدة من سورة المائدة تكلم القرآن عن الوضوء والغسل والتيمم وأسبابه وكيفيته وعدم الحرج في التشريع الإسلامي، ففي الوضوء قال الله سبحانه:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)، وعن الغسل قال سبحانه: (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا)، وعن التيمم وأسبابه وكيفيته قال ـ جلّ علاه:(وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ)، وعن عدم الحرج في التشريع قال عز وجل:(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة ـ 6).والطهارة تكون بالماء الطهور وهو الذي لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه كمياه البحار والأنهار والآبار والأمطار لقوله تعالى:(وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) (الفرقان ـ 48)، وتكون الطهارة كذلك بالصعيد الطاهر وهو التراب والرمل وما شابههما عند فقد الماء أو عدم القدرة على استعماله ودل على التطهر بالصعيد قوله (صلى الله عليه وسلم):(جعلت لي الأرض مسجدا وطهوراً)، وقد وضح النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الطهارة من أسباب المغفرة وتكثير الحسنات فقال ـ عليه الصلاة وأزكى السلام:(أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ).وقد جعل الله الطهارة سبباً لمحبته والوصول إليها فقال سبحانه:(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة ـ 222)، والطهارة كما ذكرت حسية ومعنوية، والطهارة المعنوية أو الطهارة الباطنة هي تطهير النفس من آثار الذنوب والمعاصي وذلك بالتوبة الصادقة من كل الذنوب والمعاصي، وتطهير القلب من أقذار الشرك والشك والحسد والحقد والغل والغش والكبر والعجب والرياء والسمعة وغير ذلك ويكون هذا التطهر بالإخلاص واليقين وحب الخير والحلم والصدق والتواضع وإرادة وجه الله بكل النيات والأعمال الصالحات (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف ـ 110)، وقد رمز النبي (صلى الله عليه وسلم) في أكثر من حديث للطهارة الباطنة أو المعنوية ومنها قوله:(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) ويشير بهذا إلى طهارة اللسان وطهارة اليد وإلى طهارة القلب أشار بقوله (عليه الصلاة والسلام):(أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)، وكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم):(إنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ قَالُوا فَمَا جِلَاؤُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : ذِكْرُ الله)، وفي رواية:(تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ)، وطهارة الكسب أشار إليها (صلى الله عليه وسلم) بقوله:(مَنْ غش فليس منا) وكذلك قوله (لا يحتكر إلا خاطئ).ألا فلنحرص على الطهارة الباطنية كما نحرص على الطهارة الظاهرة (احرص على ما ينفعك)، فما أحوجنا إلى الطهارة المعنوية اليوم، وهي أساساً تعني طهارة الضمير ونقاءه، فالضمير الحي خلق وكمال، وعفة وزكاة، ورقي وتقدم .. وما أحوجنا إلى هذا الضمير الحي لنحيا به حياة الأتقياء الأوفياء الذين يعرفون ما عليهم قبل أن يطلبوا ما لهم .. وفقنا الله لما يحب ويرضى.* إمام وخطيب جامع محمد الامين