سورة الكهف (50)
اعداد ـ أم يوسف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد .. نعيش مع سورة الكهف من خلال تفسير )الجامع لأحكام القرآن( للقرطبي.
سميت ‏سورة ‏الكهف ‏لما ‏فيها ‏من ‏المعجزة ‏الربانية ‏في ‏تلك ‏القصة ‏العجيبة ‏الغريبة ‏قصة ‏أصحاب ‏الكهف‎، وهي مكية، من المئين نزلت بعد سورة (الغاشية)، تبدأ باسلوب الثناء، بدأت بالحمد لله، تحدثت السورة عن قصة ذي القرنين وسيدنا موسى والرجل الصالح، وهي إحدى سور خمس بُدِئت بـ(الحمد لله) وهذه السور هي:(الفاتحة، الأنعام، الكهف، سبأ، فاطر) وكلها تبتدئ بتمجيد الله ـ جلَّ وعلا ـ وتقديسه والاعتراف له بالعظمة والكبرياء والجلال والكمال.
قوله تعالى:(حَتَّى إِذَا سَاوَى) يعني البناء فحذف لقوة الكلام عليه، (بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) قال أبو عبيدة: هما جانبا الجبل، وسُمّيا بذلك لتصادفهما أي: لتلاقيهما، وقاله الزهري وابن عباس:(كأنه يعرض عن الآخر) من الصدوف، قال الشاعر:
كلا الصدفين ينفذه سناها
توقد مثل مصباح الظلام
ويقال للبناء المرتفع صدف تشبيه بجانب الجبل. وفي الحديث: كان إذا مر بصدف مائل أسرع المشي. قال أبو عبيد: الصدف والهدف كل بناء عظيم مرتفع. ابن عطية: الصدفان الجبلان المتناوحان ولا يقال للواحد صدف، وإنما يقال صدفان للاثنين لأن أحدهما يصادف الآخر. وقرأ نافع وحمزة والكسائي (الصدفين) بفتح الصاد وشدها وفتح الدال، وهي قراءة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعمر بن عبد العزيز، وهي اختيار أبي عبيدة لأنها أشهر اللغات. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو (الصدفين) بضم الصاد والدال وقرأ عاصم في رواية أبي بكر (الصدفين) بضم الصاد وسكون الدال، نحو الجرف والجرف فهو تخفيف. وقرأ ابن الماجشون بفتح الصاد وضم الدال. وقرأ قتادة (بين الصدفين) بفتح الصاد وسكون الدال، وكل ذلك بمعنى واحد وهما الجبلان المتناوحان.
قوله تعالى:(قَالَ انْفُخُوا) إلى آخر الآية أي على زبر الحديد بالأكيار، وذلك أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة، ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تحمى، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار، فذلك قوله تعالى:(حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً) ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو بالرصاص أو بالحديد بحسب الخلاف في القطر، فيفرغه على ذلك الطاقة المنضدة، فإذا التأم واشتد ولصق البعض بالبعض استأنف وضع طاقة أخرى إلى أن استوى العمل فصار جبلاً صلداً، قال قتادة: هو كالبرد المحبر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء، ويروى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم): جاءه رجل فقال: يا رسول الله إني رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال: كيف رأيته؟ قال: رأيته كالبرد المحبر، طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(قد رأيته)، ومعنى (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً) أي: كالنار.
قوله تعالى:(قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أي: أعطوني قطرا أفرغ عليه، على التقديم والتأخير. ومن قرأ (ائتوني) فالمعنى عنده تعالوا أفرغ عليه نحاسا. والقطر عند أكثر المفسرين النحاس المذاب، وأصله من القطر لأنه إذا أذيب قطر كما يقطر الماء وقالت فرقة: القطر الحديد المذاب. وقالت فرقة منهم ابن الأنباري: الرصاص المذاب. وهو مشتق من قطر يقطر قطرا. ومنه (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ).
قوله تعالى:(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي: ما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه ويصعدوا فيه لأنه أملس مستو مع الجبل والجبل عال لا يرام. وارتفاع السد مائتا ذراع وخمسون ذراعاً. وروي: في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسون فرسخ قاله وهب بن منبه.
قوله تعالى:(مَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) لبعد عرضه وقوته. وروي في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وعقد وهب بن منبه بيده تسعين، وفي رواية:(وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها ..) وذكر الحديث، وذكر يحيى بن سلام عن سعد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(إن يأجوج ومأجوج يخرقون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستحفرونه إن شاء الله فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس ..) الحديث وقد تقدم. قوله تعالى:(فَمَا اسْطَاعُوا) بتخفيف الطاء على قراءة الجمهور. وقيل: هي لغة بمعنى استطاعوا، وقيل: بل استطاعوا بعينه كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء فقالوا: اسطاعوا. وحذف بعضهم منه الطاء فقال استاع يستيع بمعنى استطاع يستطيع، وهي لغة مشهورة. وقرأ حمزة وحده (فما اسطّاعوا) بتشديد الطاء كأنه أراد استطاعوا، ثم أدغم التاء في الطاء فشددها، وهي قراءة ضعيفة الوجه، قال أبو علي: هي غير جائزة. وقرأ الأعمش (فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا) بالتاء في الموضعين.
وقوله تعالى:(قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) القائل ذو القرنين، وأشار بهذا إلى الردم، والقوة عليه، والانتفاع به في دفع ضرر يأجوج ومأجوج، وقرأ ابن أبي عبلة (هذه رحمة من ربي).

قوله تعالى:(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي) أي: يوم القيامة. وقيل: وقت خروجهم. (جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) أي: مستويا بالأرض، ومنه قوله تعالى:(إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ) قال ابن عرفة: أي جعلت مستوية لا أكمة فيها، ومنه قوله تعالى:(جَعَلَهُ دَكَّاءَ) قال اليزيدي: أي مستوياً، يقال: ناقة دكاء إذا ذهب سنامها. وقال القتبي: أي مدكوكاً ملصقاً بالأرض. وقال الكلبي: قطعاً متكسراً، قال: هل غير غاد دك غارا فانهدم، وقال الأزهري: يقال دككته أي دققته. ومن قرأ (دكاء) أراد جعل الجبل أرضا دكاء، وهي الرابية التي لا تبلغ أن تكون جبلا وجمعها دكاوات. قرأ حمزة وعاصم والكسائي (دكاء) بالمد على التشبيه بالناقة الدكاء، وهي التي لا سنام لها، وفي الكلام حذف تقديره: جعله مثل دكاء ولا بد من تقدير هذا الحذف. لأن السد مذكر فلا يوصف بدكاء. ومن قرأ (دكّا) فهو مصدر دك يدك إذا هدم ورض ويحتمل أن يكون (جعل) بمعنى خلق. وينصب (دكّا) على الحال، وكذلك النصب أيضاً في قراءة من مد يحتمل الوجهين.