على طول كورنيش الدوحة، الممتد لعدة كيلو مترات، تسير المعاصرة جنبًا إلى جنب مع الإصالة والتاريخ. هناك، على ذلك الساحل الخليجي تتداخل المعالم التراثية ببساطتها المعهودة وتفاصيلها الدقيقة مع الأبراج الزجاجية الشاهقة بتصاميمها العصرية الأنيقة والمتنوعة، لتحوّل كورنيش الدوحة إلى لوحة معمارية فنية مدهشة، وبين هذا الألق المعماريّ تنمو وتزدهر مراكز ثقافية متنوعة تشكل مجتمعًا متكاملًا للإبداع والفنون.
وضعت قطر ضمن رؤيتها الوطنية هدفًا يتمثل في التحوّل إلى مركز عالمي للفنون والإبداع، كقوة أخرى تُضاف إلى قواها الناعمة، فتأسَّست هيئة متاحف قطر، برئاسة الشيخة المياسة بنت حمد آل ثاني، قبل عشرة أعوام تقريبًا لتشرف على تحقيق هذا الهدف، واستطاعت خلال هذه المدة الزمنية القصيرة أن تغيّر المجتمع الثقافي في الدولة وتحجز لنفسها مكانًا على ساحة الفنون الدولية.
تحوَّل البلد الهادئ رويدًا رويدًا إلى واحة تنبض فنًا وإبداعًا وثقافة، جاء من بعيد ليفرض حضوره بهدوء على الساحة الإبداعية والفنية العالمية، والفضل في ذلك يعزو بشكل كبير للطفرة الهائلة في المؤسسات الثقافية والمتاحف المتخصصة التي تأسست في الأعوام القليلة الماضية وفي القلب منها متحف الفن الإسلاميّ؛ جوهرة قطر الثقافية شكلًا ومضمونًا.
على الجهة المقابلة من المعالم البارزة المصطفة على كورنيش الدوحة، يقبع متحف الفن الإسلامي بمفرده وسط مياه الخليج، محاطًا بظلال الواجهات المنعكسة على صفحة الماء. يرتبط المتحف بالشاطئ عبر جسرين للمشاة وجسر للسيارات، وخلفه تمتد شبه جزيرة على شكل حرف "c" تتحول إلى فضاء رائع للتنزه مع إطلاله ساحرة على الماء.
عبقرية المكان وإبداع التصميم لا يقلان جمالًا عن المضمون، إذ يحتضن المتحف بين أروقته مقتنيات تمثل شتى العصور الإسلامية على امتداد 1400 عام، وتتكون من مخطوطات وخزف ومشغولات معدنية وزجاجية وعاج ومنسوجات وخشب وأحجار كريمة جُمعَت من ثلاث قارات تشمل دولًا من الشرق الأوسط وصولًا إلى إسبانيا والصين.
واستكمالًا لرسالتها الرامية إلى الجمع بين الأصالة والمعاصرة، أنشأت قطر المتحف العربي للفن الحديث، وهو متحف فريد من نوعه في المنطقة مخصص لأعمال فناني العالم العربي المعاصرين. يحتضن المتحف أكبر مجموعة متخصصة في الفن العربي الحديث على مستوى العالم، تتجاوز محتوياتها أكثر من 9 آلاف قطعة فنية أبدعها فنانون عرب مرموقون في القرنين التاسع عشر والعشرين.
وفي المستقبل القريب تفتتح قطر متحفها الأكبر والأبرز الذي تعمل عليه منذ سنوات، وهو متحف قطر الوطني ذو التصميم البديع الذي استلهمه المعماري الفرنسي الشهير جان نوفيل من وردة الصحراء. سيروي المتحف فصول قصة الشعب القطري عبر التاريخ، مبحرًا في أعماق الماضي ليسلّط الضوء على تراث دولة قطر وحكايات أهلها مع البحر والصحراء، مانحًا صوتًا لدولة قطر تعبر من خلاله عن تراثها واستشرافها للمستقبل في آن واحد. وبالإضافة لذلك يوجد متحف المستشرقين ومتحف الطفل والمتحف الرياضي المزمع افتتاحه قريبًا.
لم تكتف الدوحة بإنشاء المتاحف الجديدة، بل أعادت تأهيل مبان تراثية وحولتها إلى مراكز للفنون، ومنها مبنى "مطافئ" الدوحة القديم الذي أصبح الآن مركزًا للإقامة الفنية يستضيف الفنانين المحليين في برنامج لمدة 9 أشهر كل عام لصقل مواهبهم وتعريف المجتمع المحلي والدولي بإبداعاتهم، فضلًا عن كونه وجهة لاحتضان المعارض الدولية وكبار الفنانين من جميع أنحاء العالم. كما تعمل متاحف قطر حاليًّا على تنفيذ مشروع فني طموح أيضًا، وهو تحويل مبنى "مطاحن الدقيق" القديم إلى مركز فني بديع على غرار مطافئ، لينضم إلى المجتمع الفني المزدهر على كورنيش الدوحة.
وإلى جانب ذلك، أشاعت متاحف قطر مفهوم الفن العام في أنحاء البلاد انطلاقًا من قناعتها بضرورة الخروج بالفن من داخل جدران المتاحف إلى الشوارع والميادين والساحات، ليكون جزءًا من تفاصيل حياة الناس اليومية. فبداية من مطار الدوحة ومرورًا بالأنفاق والساحات العامة وحتى قلب الصحراء القطرية، تجد أعمالًا فنية لكبار المبدعين تجذب أنظار الجمهور وتدفعهم للتفاعل معها.
تغير المشهد الثقافي والفني في الدوحة في أقل من 10 أعوام بفضل هذه المؤسسات التي تسعى إلى رعاية المواهب وبناء ثقافة أصيلة للفن والإبداع في قطر من خلال برامج مبتكرة تناسب الجميع، بداية من طلاب المدارس والعائلات وحتى الفنانين الصاعدين والبارزين. كما تحولت تلك المراكز إلى وجهات عالمية، فعلى مدار العام، لا تتوقف زيارات كبار الفنانين والمبدعين الدوليين للدوحة لافتتاح معارض كبرى أو المشاركة في إلقاء محاضرات أو ندوات ومؤتمرات ثقافية أو إنجاز أعمال فنية بديعة أو تصاميم معمارية خالدة.
ومن أقصى الغرب في البرازيل إلى أقصى الشرق في الصين ومرورًا بإنجلترا وتركيا وألمانيا وروسيا، أقامت قطر شراكات ثقافية ولا تزال مع هذه الدول وغيرها لتعريف شعوبها على الثقافة القطرية عبر تنظيم المعارض التراثية والبرامج الأخرى وفي المقابل تعريف الشعب القطري على ثقافات هذه الدول.
قد يكون تنظيم قطر لكأس العالم عام 2022 هي الحدث الأكبر الذي يقف أمامه المراقبُ بإعجاب وتقدير، ولكن ما يحدث في قطر من تحول هادئ في قطاع الثقافة والفنون لا يقل إثارة للاهتمام والإعجاب.

سامر بسيسو
مستشار في متاحف قطر