حثت هذه السورة الكريمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنذار قومه، وتعظيمه لله تعالى، وترك ما لا يصح أن يصدر منه، وتحدثت عن نفخ الصور وشدة العذاب على الكافرين، وأمرته صلى الله عليه وسلم أن يترك من جحد فضله عليه ثم يطمع فى الزيادة بدون اعتراف ولا شكر، وبينت كيف كان تفكير ذلك الجاحد وإنكاره للقرآن، وفصلت كيف يكون عذابه فى سقر التى وصفت بما يزعج ويخيف، وذكَّرت الأنفس بما تكسب من خير أو شر، وأخبرت عن حال أصحاب اليمين وتبكيتهم للمجرمين بسؤالهم عما سلكهم فى سقر، وختمت بالحديث عن القرآن بأنه لِمَنْ شاء أن يتذكر وأن مَن يتذكر به هم أهل التقوى وأهل المغفرة ، وهي مكية في قول الجميع . وهي ست وخمسون آية فالى التفسير مع الامام القرطبي.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ . وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ .وثيابك فطهر }
فيه ست مسائل :
الأولى- قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أي يا ذا الذي قد تدثر بثيابه ، أي تغشى بها ونام ، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما. وقرأ أبي (الْمُدَّثِّرُ) على الأصل.
وقال مقاتل : معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي - قال في حديثه : "فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض" .قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فجئثت منه فرقا ، فرجعت فقلت زملوني زملوني ، فدثروني ، فأنزل الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) " في رواية - قبل أن تفرض الصلاة - وهي الأوثان قال : "ثم تتابع الوحي" . خرجه الترمذي أيضا وقال : حديث حسن صحيح. .. وقد قال بعض المفسرين إنه جرى على النبي صلى الله عليه وسلم من عقبة (بن ربيعة) أمر ، فرجع إلى منزله مغموما ، فقلق واضطجع ، فنزلت : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وهذا باطل. وقال القشيري أبو نصر : وقيل بلغه قول كفار مكة أنت ساحر ، فوجد من ذلك غما وحم ، فتدثر بثيابه ، فقال الله تعالى : (قُمْ فَأَنْذِرْ) أي لا تفكر في قولهم ، وبلغهم الرسالة.
وقيل : اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومطعم بن عدي وقالوا : قد اجتمعت وفود العرب في أيام الحج ، وهم يتساءلون عن أمر محمد ، وقد اختلفتم في الإخبار عنه ؛ فمن قائل يقول مجنون ، وآخر يقول كاهن ، وآخر يقول شاعر ، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد ، فسموا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه ، وتسميه العرب به ، فقام منهم رجل فقال : شاعر ؛ فقال الوليد : سمعت كلام ابن الأبرص ، وأمية بن أبي الصلت ، وما يشبه كلام محمد كلام واحد منهما ؛ فقالوا : كاهن. فقال : الكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط ؛ فقام آخر فقال : مجنون ؛ فقال الوليد : المجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط. وانصرف الوليد إلى بيته ، فقالوا : صبأ الوليد بن المغيرة ؛ فدخل عليه أبو جهل وقال : مالك يا أبا عبد شمس! هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونكه ، زعموا أنك قد احتجت وصبأت. فقال الوليد : ما لي إلى ذلك حاجة ، ولكني فكرت في محمد ، فقلت : ما يكون من الساحر ؟ فقيل : يفرق بين الأب وابنه ، وبين الأخ وأخيه ، وبين المرأة وزوجها ، فقلت : إنه ساحر. شاع هذا في الناس وصاحوا يقولون : إن محمدا ساحر. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته محزونا فتدثر بقطيفة ، ونزلت : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) . وقال عكرمة : معنى (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أي المدثر بالنبوة وأثقالها. ابن العربي : وهذا مجاز بعيد ؛ لأنه لم يكن تنبأ بعد. وعلى أنها أول القرآن لم يكن تمكن منها بعد أن كانت ثاني ما نزل.
الثانية- قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) : ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله ، وعبر عنه بصفته ، ولم يقل يا محمد ويا فلان ، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في سورة "المزمل". ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي إذ نام في المسجد : "قم أبا تراب" وكان خرج مغاضبا لفاطمة رضي الله عنها فسقط رداؤه وأصابه ترابه ؛ خرجه مسلم. ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة ليلة الخندق : "قم يا نومان".
الثالثة- (قُمْ فَأَنْذِرْ) أي خوف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا. وقيل : الإنذار هنا إعلامهم بنبوته ؛ لأنه مقدمة الرسالة. وقيل : هو دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود بها. وقال الفراء : قم فصل وأمر بالصلاة.
الرابعة- (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظم ، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد. وفي حديث أنهم قالوا: بم تفتتح الصلاة ؟ فنزلت : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي وصفه بأنه أكبر. قال ابن العربي : وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة ، فإنه مراد به التكبير والتقديس والتنزيه ، لخلع الأنداد والأصنام دونه ، ولا تتخذ وليا غيره ، ولا تعبد سواه ، ولا ترى لغيره فعلا إلا له ، ولا نعمة إلا منه. وقد روي أن أبا سفيان قال يوم أحد : اعل هبل ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "قولوا الله أعلى وأجل" وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذانا وصلاة وذكرا بقوله : "الله أكبر" وحمل عليه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق في موارد ؛ منها قوله : "تحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم" والشرع يقتضي بعرفه ما يقتضي بعمومه ، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح لله تخليصا له من الشرك ، وإعلانا باسمه في النسك ، وإفرادا لما شرع منه لأمره بالسفك.
وفي التفسير : أنه لما نزل قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "الله أكبر"فكبرت خديجة ، وعلمت أنه الوحي من الله تعالى ؛ ذكره القشيري.
الخامسة- الفاء في قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) دخلت على معنى جواب الجزاء كما دخلت في (فَأَنْذِرْ) أي قم فأنذر وقم فكبر ربك.
.. يتبع بمشيئة الله.
* (المصدر ـ القرطبي)

اعداد ـ ام يوسف