عبدالله القنوبي:
في النفس البشرية طاقات عظيمة ونِعم جليلة تكون دافعاً للإنسان للعمل الصالح وشكر المُنعم وتعظيمه


على الإنسان أن يعود بالنظر إلى نفسه فيتأمل ماأودع الله فيها من مواهب فيبرزها

اعداد ـ علي بن صالح السليمي:
مجموعة خطب قيمة متنوعة للشيخ عبدالله بن سعيد القنوبي .. أُلقيت في مناسبات متعددة، وتنشر هنا للفائدة بعد تهذيبها وتعديلها من قبل المشرف العام للموقع ..

استهل الشيخ خطبته قائلاً : الحمد لله الذي خلق الإنسان وجعل فيه أسراراً عجيبة، وأمر بالنظر في آيات الأنفس وأسرارها والكشف عن نفائسها ومواهبها، نحمده سبحانه وتعالى خلق فسوى وقدر فهدى، (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ )، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل:(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ)، والقائل سبحانه:(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً).
ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أزكى الناس خُلقا، وأعلاهم منزلاً، وحسنهم سيرة، وأخلصهم سريرة، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه وأتباعه وحزبه إلى يوم الدين أما بعد: فيا عباد الله: إن الله أمرنا بأن نتفكر في آيات الله في أنفسنا، (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)، فكم في هذه النفس البشرية من طاقات عظيمة، في سمعه وبصره، في عقله وفكره، في لسانه وجنانه، في قوته وبِنيته، في حركاته وسكناته؛ بل في كل خلية من خلاياه، وبقدر ما تكون هذه النعم والآيات دافعاً للإنسان لشكر المنعم والعمل الصالح وتعظيم الخالق جل جلاله، يستشعر الإنسان أمام خالقه ومولاه ضعفه وحاجته وفقره إليه، مع هذا كله أراد الله منه أن يكتشف ما في نفسه من طاقات ليفجرها ويستخرج نفائسها وكنوزها، ويثمر مكنوناتها لما فيه سعادته وسعادة البشرية وبناء صروح التقدم والمجد والحضارة.
موضحاً بأن الله ما خلق خلقاً أعز وأكرم من الإنسان، هذا الإنسان الذي أكرمه الله تعالى بأن أسجد له ملائكته، وجعل زمام الأمور في هذه الأرض بيده لأنه خليفته، وسخر له ما في السموات والأرض جميعا منه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، ورفع قدره على كل المخلوقات، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وكفى بالعلم الذي وهبه الله هذا الإنسان منة ورفعة، فبه أخرجه من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة والحضارة، وجعله يطير بجناحي الابتكار والاختراع، فيفجر الطاقات والمواهب الكامنة، ويصنع له من الآلات والوسائل ما يمهد له سبل العيش الكريم والحياة الرغيدة، وحلَّق بالعلم إلى آفاق الاكتشاف، وسبر أغوار هذا الكون البديع ليسخر معطياته فيما يجعله متميزاً على غيره من المخلوقات جميعاً.
وقال: رغم أن ما أوتي الإنسان من العلم إزاء علم الله عزوجل لا يساوي قطرة في بحرٍ لُجيّ، يقول جل ذكره:(قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)، ويقول تعالى:(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم) .
مؤكداً بقوله: ولذلك كان لزاماً على الإنسان أن يعود بالنظر إلى نفسه، فيتأمل ما أودع الله فيها من مواهب فيبرزها، ويقتنص ما فيها من درر ونفائس فيجليها وينميها فيرتفع بها وينتفع بخيراتها، وكم في القرآن الكريم من حض على السير في الأرض واستجلاء آيات الله في الآفاق، وكم فيه من الدعوة إلى البحث والنظر والتدبر والتفكر، ليكون مكتشفاً لها مجنداً طاقاتها فيما يرضي الله بعمارة الكون والعمل الصالح، يقول سبحانه: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)، ويقول جل جلاله:(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، ويقول جل ثناؤه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)، ويقول تعالى:(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).
وكذلك بالنظر في بديع خلق الله سبحانه للتفكر في عظيم صنعه وتسخيره لمنافعه، يقول الله تعالى:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، وفي السنة المطهرة جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قولاً وفعلاً وأمراً ونهياً، ما فيه شحذ الهمم واستنهاض العزائم، واكتشاف الطاقات الكامنة، فهو(صلى الله عليه وسلم) جند جميع ما وهبه الله من طاقات النبوة وما بسط الله له من مواهب في ذاته الكريمة عليه الصلاة والسلام لنشر الدعوة وإصلاح الناس ونشر راية الحق والرحمة والعدل في جميع هذا الوجود، ونفخ من روحه الطاهرة العلية الزكية في نفوس أصحابه رضوان الله عليهم ما جعلهم أبطالاً وأفذاذاً ورواداً وعظماء فاتحين ومعلمين البشرية عظمة الإسلام، فقد عني بهم عناية فائقة من أجل تربيتهم وتوجيه سلوكهم وأخلاقهم، ووضع كل شخص منهم في موضعه، ووجه مواهبهم المباركة نحو أفق لا يعرف حدوداً، منطلقين وموجهين لطاقات الإنسانية في إعمار هذا الوجود بكل ما يرضي الله تعالى ويحقق منهجه في الأرض.
وقال: كان من هديه (صلى الله عليه وسلم) أنه يختار الرجل المناسب فيضعه في المكان المناسب، لما يعرف من مواهبه وبراعته في القيام بتلك المهمة، فكان يضع أحدهم قائداً لجيشه كما صنع مع أسامة بن زيد الذي لم يتجاوز العشرين من عمره، واتخذ له (صلى الله عليه وسلم) كتبة للوحي كأُبيِّ والخلفاء الأربعة لما يعلم من تمكنهم من ذلك، وقال في عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه): (من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً فليقرأهُ على قراءة ابن أم عبد)، ودعا لعبدالله بن عباس ـ رضي الله عنهما: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) وكان ابن عباس بعد ذلك مرجع الناس في كتاب الله، وقال (صلى الله عليه وسلم) في الإمام علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجه:(لأعطين اللواء غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)، وفعلاً فتح الإمام علي حصن خيبر بعد أن استعصى على القواد قبله، وقد بعث (صلى الله عليه وسلم) معاذاً (رضي الله عنه) معلماً لأهل اليمن لما يعلم فيه من القدرة العلمية والمنهج السليم في تعليم الناس، وبعث مصعب بن عمير(رضي الله عنه) معلماً لأهل المدينة، حتى سمي المقرئ ومعلم الناس الخير، وكان من بركة إخلاصه وجهوده أن دخل الإسلام كل بيت في المدينة، ولم يغفل (صلى الله عليه وسلم) أهل الإعاقات بل جعلهم في المكان المناسب لهم، فعندما خرج من المدينة جعل عبدالله ابن أم مكتوم (رضي الله عنه) إماماً يصلي بالناس رغم أنه كان أعمى، وكان حسان بن ثابت (رضي الله عنه) شاعر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فوجه موهبته للذب عن حياض الدين، يقول له نبينا الكريم:(اهجهم وروح القدس معك).