حين نلتقي أو نتهاتف ـ يحدث هذا بشكل شبه يومي ـ يتشعب الحوار من الأدب، إلى السياسة، إلى أحوالنا الأسرية، إلى عُمان، ليس فقط تلبية لنداء أنستولوجي، يرتد بنا إلى أيامنا معا في هذا البلد الجميل.فحديث أستاذي وصديقي الكاتب الكبير يوسف الشاروني عن سلطنة عُمان، يتجاوز أحيانا حاضرها المزدهر إلى ماضيها الثري في العديد من مجالات المعرفة والأدب والسياسة والدين، ولا أظنه كتب عن تراث بلد عربي أو غير عربي مثلما كتب عن التراث العماني، بل وحاضرها.ومن بين مؤلفاته الستين، ثمانية مراجع عن السلطنة، الأدب والتراث والتاريخ، والعديد من كتبه الأخرى لم يضن عليها بفصل أو أكثر عن ظاهرة تتعلق بالسلطنة، كما هو الحال في أحد إصداراته الأخيرة، كتابه "رفقتي مع التراث"، الذي يحتوي على أربعة فصول حول التراث العماني، بالإضافة إلى تطرق العديد من الفصول الأخرى إلى شئون عمانية.في فصل "عمان في كتاب عجائب الهند" يتناول الشاروني العديد من القصص العجائبية التي ترتبط بالتراث العماني والتي وردت بكتاب "عجائب الهند" لمؤلفه يزرك بن شهريار الناخاه الرامهرمزي ويمكن أن تبند في خانة الفانتازيا الروائية، ولقد توقفت أمام قصتين الأولى حكاية "الدرة اليتيمة" لأبعادها الدينية العميقة،وسيرة مالك بن فهم الأزدي لارتباطها العضوي بالقصص الديني وأيضا الأساطير الإغريقية.أما قصة "الدرة اليتيمة"، فيحكيها مؤلف كتاب "عجائب الهند" كالتالي: وحدثني غير واحد من البحريين بأمر الدرة المعروفة باليتيمة، وإنما سميت باليتيمة لأنه لم يوجد لها أخت في الدنيا، وأجودهم شرحا للقصة حدث أنه كان بعمان رجل يقال له مسلم بن بشر، وكان رجلا مستورا جميل الطريقة، وكان ممن يجهز الغواصة في طلب اللؤلؤ وكانت بيده بضاعة فلم يزل يجهز الرجال للغوص ولا يرجع إليه فائدة حتى ذهب جميع ما كان يملكه ولم يبق له حيلة ولا ذخيرة ولا ثوب ولا شيء يجوز بيعه إلا خلخال بمائة دينار لزوجته، فقال لها اقرضيني هذا الخلخال لأجهز به فلعل الله تعالى يسهل شيئا فقالت له: يا هذا الرجل لم تبق لنا ذخيرة ولا شيء نعول عليه وقد هلكنا وافتقرنا فلئن نأكل بهذا الخلخال أصلح من أن نتلفه في البحر فتلطف بها وأخذ الخلخال وصرفه وجهز بجميعه الرجال إلى الغوص وخرج معهم.ومن شرط الغواص أن يقيم الغواصة فيه شهرين لاغير، وعلى هذا يتشارطون فأقاموا يغوصون تسعة وخمسين يوما ويخرجون الصدف ويفتحونه فلا يحصل لهم شيء، فلما كان في اليوم الستين غاصوا على اسم إبليس لعنه الله فوجدوا فيما أخرجوه صدفة استخرجوا منها حبة لها مقدار كبير لعل ثمنها يوفي بجميع ما كان يملكه مسلم منذ كان إلى وقته، فقالوا هذا وجدناه على اسم إبليس لعنه الله فأخذها وسحقها ورمى بها في البحر، فقالوا له: ياهذا الرجل لم فعلت أنت هذا؟ قد افتقرت وهلكت ولم يبق لك شيء يقع بيدك مثل هذه الحبة التي لعلها تساوي آلاف الدنانير فتسحقها ؟فقال: "سبحان الله كيف أستحل أن أنتفع بمال استخرج على اسم إبليس، وإني أعلم أن الله تبارك وتعالى لا يبارك، وإنما وقعت هذه الحبة بأيدينا ليختبرنا الله تعالى بها، ولئن انتفعت بها ليقتدين كل أحد بي فلا يغوص إلا على اسم إبليس لعنه الله، فإثم ذلك يعظم على كل فائدة وإن عظمت، ووالله لو كان مكانها كل لؤلؤ في البحر ما تلبست به، امضوا فغوصوا وقولوا باسم الله وببركة الله. فغاصوا على ما رسم لهم فما صلى صلاة المغرب من ذلك اليوم وهو آخر يوم من الستين حتى حصل بيده درتان، إحداهما يتيمة والأخرى دونها بكثير فحملهما إلى الرشيد، وباع اليتيمة بسبعين ألف درهم والصغرى بثلاثين ألف درهم وانصرف إلى عمان بمائة ألف فبنى دارا عظيمة واشترى ضياعا واعتقر عقارا وداره معروفة بعمان، فهذا كان من خير الدرة اليتيمة.ويذيل الشاروني تلك القصة التي وردت عن تاجر اللؤلؤ العماني التقي بتعليق للدكتور حسين فوزي ورد في كتابه "حديث السندباد القديم" حيث يرى الدكتور فوزي أن القصة توضح عنصر الحظ في عمليات صيد اللؤلؤ، فتاجر اللؤلؤ وهو الممول لعمليات الغوص يضارب بثروته أكثر مما يتاجر.لكن ما جذبني أكثر في كتاب "رفقتي مع التراث"، هذا الذي ورد في فصل "فجر العرب في عمان بين التاريخ والقصة الشعبية"، حيث ينجح الشاروني في أن يضع أصابعه على تلك الروابط الجينية التي تربط بين قصة مالك بن فهم الأزدي وأصغر أبنائه سليمة، وبين القصص الديني والسير الشعبية، بل والأساطير الإغريقية، وتفاصيل القصة بداية يستقيها الشاروني من كتاب المؤرخ العماني العلامة نور الدين السالمي "تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان"، حين خرج "مالك "من اليمن بعد تعرضها لسيل العرم، حيث نزل بالسراة ومنها إلى عمان، وخاض حروبا ضارية مع الفرس حتى أخرجهم منها، وأول ملاحظات الشاروني أن السالمي ينزع إلى حد كبير في وصفه للحروب نهج السير الشعبية من حيث طريقة العرض والأسلوب الذي أحيانا يشوبه السجع فضلا عما يتخلله من أبيات من الشعر، من ذلك قول السالمي "فجالت الأزد جولة ونادى مالك: يا معشر الأزد، اقصدوا إلى لوائهم فاكتشفوه من كل وجه، وحمل بهم على العجم حملة رجل، حتى كشفوا اللواء واختلط الضرب والتحم القتال وارتفع الغبار وثار العجاج حتى حجب الشمس فلم تسمع إلا صليل الحديد ووقع السيوف وتراموا بالسهام فتفصدت وتجالدوا بالسيوف فتكسرت وتطاعنوا بالرماح فتحطمت.وكان سليمة أصغر أبناء مالك وأحبهم إلى قلبه، وأصبح موضع حسد من قبل إخوته الذين ما انفكوا يدسون له عند أبيهم، ومن المفارقات التي تنطوي على قدر كبير من الإثارة والتشويق أن الأب يلقى حتفه على يدي سليمة أحب أبنائه إليه، "وهذا ما يحكيه العلامة نور الدين السالمي عن تلك الواقعة: وقد خرج سليمة في نفر من فرسان قومه يحرسون كالعادة، ثم اعتزل عنهم سليمة في المكان الذي يكمن فيه بقرب دار أبيه، فبينما هو كذلك إذ أقبل مالك من قصره في جوف الليل متخفيا من حيث لا يعلم أحد به، قاصدا إلى الموضع، وكان سليمة في ذلك الوقت قد لحقته سنة فأغفى على ظهر فرسه وهو متنكب كنانته وفي يده قوسه فأحس الفرس شخص مالك من بعيد فصهلت، وانتبه سليمة من سنته تلك مذعورا، ونظر إلى الفرس وهي ناصبة أذنيها إلى شخص مالك ففوق سهمه في كبد قوسه ويممه نحو شخص مالك وهو لا يعلم أنه أبوه، فسمع مالك صوت السهم فهتف به: يابني لا ترم أنا أبوك، فقال سليمة: يا أبت ملك السهم قصده، فأرسلها مثلا، وأصاب السهم مالكا في قلبه فقتله.وكما يحكي السالمي تخوف سليمة من أخوته واعتزلهم وأجمع على الخروج من بينهم، خاصة وأن محاولات للصلح لم تنجح في تصفية الأجواء بينه وبين أخيه "معن" ففر هاربا إلى فارس.ويرى الشاروني أن ثمة أوجها للتشابه بين سيرة مالك وبنيه، وبين القصص الديني أحيانا والأساطير والقصص الشعبي أحيانا أخرى، كقصة يوسف وأخيه اللذين كانا أصغر وأحب ابنين من أبناء سيدنا يعقوب عليهما السلام. " لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين" سورة يوسف 7-9 ."قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون" سورة يوسف 16-17وكان إخوة "سليمة" ينقسمون إلى فريقين، فريق يتزعمه الأخ "هناة" وكان هذا الفريق يناشد "سليمة" الذي اعتزل إخوته وأجمع على الخروج بأن يبقى، وفريق يتزعمه "معن" ويتربص بـ"سليمة" لأنه قتل أباه، وقد نجح "هناة" بإقناع إخوته بأن يقبلوا الدية التي دفعها من ماله، إلا "معن" الذي قبل الدية ولم يعف، لكنه هدأ بعض الوقت إلى أن أكل الدية فجعل يطلب غفلة "سليمة" ويغري به سفهاء قومه، فبلغ ذلك "سليمة" فأقسم ألا يقيم بأرض عمان، وفر إلى أرض فارس، وكما يلحظ الشاروني فالحكاية تنطوي على قدر من التشابه بما جاء في التوراة في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، فقد كانت مجموعة من إخوته تريد قتله، ومجموعة تريد إنقاذه يتزعمها رأوبين أكبر الأخوة، وأنه ما غيبه في الجب إلا لينقذه من أيديهم ليرده إلى أبيه " تكوين 37-22"ولما رجع "رأوبين "إلى الجب ووجد أن إخوته باعوا أخاهم يوسف مزق ثيابه "وقال الولد ليس موجودا. وأنا إلى أين أذهب " – تكوين 37،30.أما قتل الابن أباه فهو كما يشير الشاروني شبيه بأحداث أسطورة أوديب، فالملك لايوس ملك طيبة وزوجته جوكاستا يعلمان من إحدى النبوءات أن ابنهما سيقتل أباه ويتزوج أمه، فحاولا قتل الصبي قبل أن يكبر وتتحقق النبوءة وكلفا أحد الرعاة بقتله، غير أن الراعي أشفق على الطفل فأحضره إلى قصر الملك يوليب وزوجته الملكة ميروب اللذين يعانيان من العقم وكانا يشتهيان طفلا يتبنيانه، ففرحا بالطفل، وحين كبر أوديب عرف بأمر النبوءة فهرب حتى لا يرتكب تلك الجريمة الشنعاء حيث كان يظن أن يوليب وميروب أبواه، وفي الطريق اعترضه "لايوس" فطلب منه أن يفسح الطريق فأبى فقتله وهو لا يعرف أنه أبوه !!إذن أوجه الشبه تبدو جلية، في الحكايتين، فسليمة قتل أباه دون أن يعرف، والأمر ذاته فعله أوديب، فهل هي مصادفة ؟ أم أن هذا شائع، تشابه حكايات وأساطير الشعوب، وكأن ثمة جذورا واحدة ؟ كثير من الباحثين يدركون هذا التشابه بين حكايات الشعوب إلا أنه على ما يبدو لم تبذل جهود علمية بما يكفي للتعرف على أسباب هذا التشابه والتلاقي.وتاريخيا نرى أن قصة أوديب تضرب بجذورها في تربة القرن الخامس قبل الميلادي أنها تسبق قصة مالك بن فهم بثمانية قرون، فهل أطعم الرواة العرب سيرة "مالك بن فهم" بشيء من أحداث حكاية أوديب ؟ خاصة وأن الميثولوجيا الإغريقية انتشرت في شرقنا مع غزوات الإسكندر المقدوني لفارس والعراق !على أي حال ثمة إجابة للشاروني نفسه، لكن في كتاب آخر هو "مع التراث" صفحة 25، حيث يقول : أما أن التراث القصصي العربي منذ عصر الجاهلية منقول عن شعوب أخرى فهذه حجة يمكن لأي عالم من علماء الفنون الشعبية أن يفندها، فكما اختلطت الأجناس البشرية ببعضها في منطقة حوض البحر الأبيض، كذلك اختلطت آدابها فأخذ كل من الآخر وأعطاه، كما اختلطت آداب الشعوب السامية، فالأدب اليوناني الذي تفخر به أوروبا فيه عناصر من مختلف آداب الشعوب التي سبقته حضاريا مثل مصر الفرعونية، حيث سنجد فيه أسماء مدن وآلهة فرعونية على نحو ما نرى في أسطورة أوديب التي نقرأ فيها عن مدينة طيبة وأبي الهول" .وأيا كانت وجهة نظرنا ـ اتفاقا أو اختلافا مع إجابة الشاروني ـ فلا ينبغي أن نتجاهل حقيقة أن "مالك بن فهم" شخصية حقيقية حكم عمان خلال الفترة من سنة 169 ميلادية وحتى سنة 231م، فإن كانت سيرته التي وردت في كتاب تحفة الأعيان تنطوي على شيء من المبالغة، على سبيل تشويق المتلقي، فإن "أوديب" ما هو إلا شخصية خرافية تنتمي للميثولوجيا الأغريقية.لكن ثمة ملاحظة تنتمي إلى هذا الشيء من المبالغة، وهي ملاحظة لا أظنها تغيب عن ذهن قارئ حكاية مالك بن فهم وابنه سليمة في كتاب "تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان" لنور الدين السالمي، تلك القصيدة الطويلة التي أنشدها عقب إصابته بالسهم الذي أطلقه ابنه "سليمة" وهي القصيدة التي نعى فيها نفسه ولخص سيره الذي ساره من أرض السراة وخروجه من برهوت إلى عمان وما كان من شأنه، ومطلعها:ألا من مبلغ أبناء فهم بمالكه من الرجل العمانيإلى أن يقول:جزاء الله من ولد جزاء سليمة أنه ساما جزائيأعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رمانيتوخاني بقدح شك لبي دقيق قدرته الراحتانفأهو ىسهمه كالبرق حتى أصاب الفؤاد وماعدانيألا شلت يمينك حين ترمي وطارت منك حاملة البنانهل يتسق هذا مع منطق الأشياء ، الواقع ، المنطق ، أن يلقي أحدهم قصيدة طويلة وهو يحتضر ؟ حين أبديت ملاحظتي تلك لأستاذي يوسف الشاروني خلال أحد حواراتنا فعلق قائلا :إن كان هذا غير مصدق في عالم الوقع إلا أنه مبرر في عالم الفن !وهي ذاتها العبارة التي أوردها في كتابه "رفقتي مع التراث" تعليقا على القصيدة ، حيث يذكرنا أيضا بأن تطعيم النثر القصصي بالشعر القصصي أسلوب مألوف في سيرنا الشعبية لاسيما السيرة الهلالية وسيرة الزير سالم، فنجد من حين لآخر تلخيصا شعريا لما مر من أحداث ثم سردها شعريا، أو كلما احتدم الموقف عاطفيا أو حربيا، في هذه الحالة يصبح الشعر الأكثر قدرة على تجسيد المشاعر والانفعالات والتعبير عن الأحداث المتسارعة . محمد القصبي