عرض ـ حسام محمود:يشهد العالم فى العصر الحديث العديد من الأزمات أكثر مما شاهد خلال كل تاريخه الطويل سواء من حيث تنوع هذه الأزمات أو شدتها أو النتائج المترتبة عليها , بحيث صار يعرف عند الخبراء بعصر الأزمات , ومع كل عصر مشكلاته وقضاياه ومع أن هناك تشابها كبيرا بين هذه القضايا , وبين ما درج خلال الحقب الماضية , لكن ما يمر به الإنسان في عالم اليوم يفوق كل تلك العصور المنقضية في عمق تأثيرها , وتغيير نظرة الإنسان لنفسه وللعالم الذي يعيشه , بحيث يجد نفسه مضطرا للتمرد على ذاته ومجتمعه وعلى إنسانيته , كما أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش معزولا عن مجتمعه كى ينجح فى عمله وحياته , فيتفاعل مع الظروف , ويكون له رد فعل وموقف أيا كان حيال قضايا المجتمع والوطن تولد خلاله شخصيته خاصة إذا كان مغتربا بعيدا عن وطنه وأهله بعدما دعته الظروف لاختيار الغربة .سجن الاغترابفي كتاب "شبابنا بين غربة واغتراب" لمؤلفته الدكتورة عطيات أبو العينين والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة يأتي بدراسة نفسية للمشكلات الاجتماعية المعاصرة، فمنذ النصف الثاني من القرن العشرين لم يعد للإنسان المغترب ما يسمى بالمشكلة الأوروبية أو الغربية أو الرأسمالية او الاشتراكية بل هي مشكلة إنسانية عالمية بشكل كلى , ومن ثم يجب تحليلها تحليلا كاملا بقدر المستطاع دون ابتسارات ايدولوجية , ويمكن القول بان الشعور بالاغتراب يمثل واحدة من المشكلات المهمة في حياة الإنسان المعاصر , وهكذا ربما كان الاغتراب من أنسب المفاهيم لدراسة العصر الراهن لأنه مؤشرا على الاهتمام بوجود الإنسان كإنسان , وما يعنيه ذلك من ضرورة الاهتمام بدراسة البنى الاجتماعية الاقتصادية , ومشكلة الاغتراب باعتبارها حالة مميزة فى المجتمع الحديث أفلحت فى أن تفرض نفسها على كثير من مجالات النشاط فى الوقت الحالي, وان تظهر كموضوع أساسي فى كثير من الكتابات الأدبية والبحوث الاجتماعية والأنثروبولوجية والفلسفية , ولقد أصبح المنطوي على نفسه يظهر فى هذه الأعمال مغتربا عن الناس بل وعن نفسه ومشاعره وعواطفه يعانى الوحدة والعجز عن الاتصال بالآخرين , حيث تتبلور الاتجاهات الفكرية فى كل عصر حول فكرة أساسية تكون الطابع المميز لهذا العصر , ففى مصر الفرعونية برزت فكرة الخلود , وفى اليونان القديم برزت فكرة الوجود , وأفرزت الثورة البرجوازية فكرة المساواة والحرية , وفى عصرنا هذا أصبحت فكرة الاغتراب التى تعبر عن أزمة الإنسان المعاصر فى تعاملاته , ومن خلال ترحاله وسفره , وبحثه عن عمل ومورد رزق فى عالم تقطعت فيه السبل لكسب العيش فى كثير من البقاع للملايين من العاطلين الذين يواجهون شبح الجوع والتشرد , فليس أمامهم من خيار سوى السفر والترحال سواء بطرق مشروعة أو غير مشروعة بحثا عن فرصة عمل تسد رمقهم , وتوفر لهم دخلا بدلا من وجودهم بقاع مجتمعاتهم التى لفظتهم للخارج , فبعضهم يلقى بنفسه فى قوارب الهجرة غير المشروعة في البحار والمحيطات , والآخر يلهث وراء عقود العمل , وهناك من يقضون الأيام فى الصحراء عبر حدود الدول للوصول لغاية وهدف ينقذهم من شقاء العيش غير الكريم الذي يعانون من ويلاته , فالغربة صعبة وجحيم العوز أصعب .صور الغربةيؤكد الفلاسفة والمثقفون أن واقع الغربة لم يعد يقتصر على حياة الترحال والسفر والجاليات المقيمة فى الخارج بل اتسع نطاق الغربة ليشمل معيشة الانسان فى مجتمع مادي يلهث وراء المال والخطط الاقتصادية لتضيع معها مفاهيم الانسانية , ومعانى العاطفة والتعاطف بل والرحمة أحيانا , إنها قسوة القلوب التى مرضت بحب المال واللهث وراء الثراء حتى لو كان بالقفز على الآخرين والاضرار بهم , حتى صار الأفراد فى كثير من المجتمعات يتربصون ببعضهم البعض ويتفننون فى الايقاع ببعض , فاختفت العلاقات الطيبة وصارت لغة المال هى التى ترددها الألسنة , مما يجعل أصحاب الضمائر والعواطف الصادقة والمشاعر النبيلة فى غربة واغتراب عن مجتمعات لا علاقة لها بتلك المفاهيم , فينئون بأنفسهم عن حياة تنقصها الرحمة والتكافل والإخاء والحب , ويصبحون كأنهم ضيوفا رحالة فى أوطانهم بل وربما يفكرون فى السفر الفعلى ليتركوا مجتمعاتهم الأصلية بحثا عن هوية حقيقية يستجيبون خلالها لوازع ضمائرهم اليقظة التى ترفض الفساد والجشع . حتى أن الفيلسوف الروسى نيقولا برادييف يقول أن الانسان الذى يعيش فى نيويورك أكبر مدن العالم أشد عزلة من قيس بن الملوح وجميل بثينة , وأكثر الناس عزلة الرامى ببصيرته إلى أفق لا ينتهى , فيهرب من العزلة إلى الفرقة , وليس أشد من العزلة التى يلقاها المرء فى مجتمع زائف , إذ يكون هناك بالجسد فقط , ويسعى بلطف إلى عزلته , وقد يواججها بالصداقة أو بالحب أو بالانصراف الى الفن أو إلى عمل الخير , أى أن الشعور بالعزلة هو شعور واحد يدفع بالاشخاص الى اتجاهات مختلفة قد تكون ايجابية أو سلبية فى مشاحنات ومعارك مع الناس حسب كل منهم على حدة . ولقد شاع فى مجال علم النفس استخدام العديد من المصطلحات تصور حقيقة ما يعيشه الانسان ويعانى فيه من مشكلات وتحديات الفساد والجشع وانعدام الضمائر واللهث وراء الماديات الزائفة حتى أن هناك ما يطلق عليه الاكتئاب والاغتراب النفسى والانعزال والاحساس بالوحدة النفسية واللامبالاه , كظواهر أسبابها تختلف لكنها أصابت الكثيرين فى المجتمعات المعاصرة نتيجة تغليب المصالح على العواطف . وصارت الصداقة الحقيقية والحب الأخوى والحب الفعلى الصادق بين العشاق دون مأرب أو مقصد عملة نادرة فى زمن صعب طغت عليه الماديات , وصار كل شىء يباع ويشترى ويتاجر به وفيه لمن يدفع الثمن , حتى أن الأسر تتفكك والعائلات تتشرذم فيضحى حتى السؤال عن الحال والإطمئنان والاتصال بين الأقارب لسبب أو مصلحة فإن لم يوجد تندثر الصلات , بل وتمر الأعياد والمناسبات على العائلات دون ان تتصل بعضها ببعض فى جفاء وقطع لصلة الرحم فى عالم لا يعترف سوى بالمصالح والأغراض , مما خنق أصحاب العواطف والمشاعر الذين يريدون العيش فى مجتمعات ترقى فيها الاخلاقيات والقيم والمبادىء فوق الأهواء الرخيصة التى يتشدق بها البعض , بل ويتذرعون بأنهم يبحثون عن مصالحهم وطموحاتهم وتأمين مستقبلهم فلا يريدون لشىء أن يشغلهم عن أهدافهم , فهم يفعلون ما يحلو لهم لكنهم فى الوقت نفسه يقتلون معانى نبيلة وقيم أصيلة سواء داخل نفوسهم أو فى مجتمعاتهم التى تصير كتروس تتحرك بلا روح أو عاطفة , وهم يندمون على ذلك فى النهاية ولكن فى وقت لا ينفع فيه الندم .