حينما نرى الإسلام يجنح للسلم لا نستغرب، لأنه هو من أرسى قواعد السلم في المجتمع وجعل المسلم يعيش حياته آمناً مطمئناً من يومه وغده، ومن عاش آمناً في سربه له قوت يومه فقد حيزت له الدنيا .. فماذا يبغي المؤمن غير الآمن وقوت اليوم؟، وهل الازدهار والتطور التقني والتكنولوجي والرفاهية بكل معانيها تأتي في ظل الفوضى واللامسؤولية؟.
وإذا تأملنا آيات الله العظمى في كتابه المنزّل، وقرأنا حروفه بتمعّن، وفحصنا كلماته وتحرينا معانيها لرأينا أن الإسلام دين عظيم، فانظروا مثلاً إلى تشكيل كلمة السّلم وكيف وردت متنوعة في القرآن الكريم، بين السِّلْم (بكسر السين وسكون اللام)، وبين السَّلْم (بفتح السين وسكون اللام أيضاً)، وبين السَّلَم (بفتح السين وفتح اللام)، دلائل عظمى على أن هذا الدين يجنح فعلاً للمصالحة والمسالمة والاستسلام والانضواء تحت لواء المحبة في الله والرجوع والإنابة إلى الله عزوجل، فقد قال المولى عز وجل في كتابه العزيز في سورة البقرة تأييداً للكلمة الأولى:(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌّ مبين)، وقال في سورة الأنفال حول الكلمة الثانية مخاطباً سيد المرسلين وخاتم النبيين:(وإن جنحوا للسَّلْم فاجنح لها)، وأما عن (السَّلَم) فقال سبحانه وتعالى في سورة النساء:(فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلَمَ).
كلمات ثلاث بتشكيلات مختلفة وفي مواضع مختلفة، ففي الأولى الخطاب موجه للمؤمنين كافة، وفي الثانية كان الخطاب موجهاً لرسول الإنسانية وتعداه لكل قائد وجد نفسه أمام عدو يريد الحرب، وفي الثالثة خطاب موجه للمؤمنين المتحمسين للقتال، أمرهم المولى عزوجل بالسّلم مادام العدو لم يبادر بالقتال والاعتداء، ووردت الكلمة بأشكالها الثلاثة في القرآن الكريم للتعبير والتأكيد أن الإسلام دين التسامح والاعتدال والمصالحة والمسالمة وهو إذ يرسّخ في العقول هذه الفلسفة إنما يريد أن يوجّه المسلمين نحو برّ الأمان ويكفيهم شرّ الاعتداء وعدم اللجوء إلى الخيار العسكري لأنه خيار مُرٌّ علقمٌ حتى في أحلك الظروف، وأمرهم باتباع طرق السلم والمسالمة والابتعاد عن كل ما يحرك كوامن الفتنة.
وقد علّم الرسول (صلى الله عليه وسلم) أصحابه معنى التصبّر والجنوح إلى السّلم من خلال صلح الحديبية المشهور الذي رسم في التاريخ ملحمة جديدة من التعامل مع الأعداء، وحينما لم يرض أغلب الصحابة عن هذا الصلح حتى قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه:(ألسنا على الحق وعدونا على الباطل فلم نعطي الدنيّة في ديننا) فرغم أنهم على حق والمشركين على باطل كان الجواب من أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه:(إنه رسول الله ولن يضيعه أبداً) تنبيهاً لهم أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو من وساوس الشيطان.
قال ابن عاشور: إذا فسّر السلم بالإسلام فإن الخطاب بياأيها الذين آمنوا وأمر المؤمنين بالدخول في الإسلام يؤَوّل بأنه أمر بزيادة التمكن منه والتغلغل فيه، (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم) ... ويجوز أن يكون المراد من السلم هنا المعنى الحقيقي ويراد السلم بين المسلمين، يأمرهم الله تعالى بعد أن اتصفوا بالإيمان بألا يكون بعضهم حربا لبعض كما كانوا في الجاهلية ويتناسى ما كان بين قبائلهم من العداوات.
وعلى هذا نفهم الإسلام على حقيقته عندما يعيش المرء بين جوانحه في سلم وأمان فلا يعبث بفكره ولا بعقله ولا بوطنه الذي وفّر له كل ما يحتاجه من أمن وأمان وسلام واطمئنان، وفّر له قوت يومه، والعيش آمنا في سربه، ويسهر على راحته جنود الليل، وتحرسه العناية الإلهية من كل مكروه ومن سوء.

فوزي بن يونس بن حديد