عزيزي الصائم: نستعرض اليوم معك حول ماذا قال بعض العلماء في الإخلاص؟ قال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله عبداً أحب الشهرة، وقال بعضهم: ينبغي للعالم أن يتحدث بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت وإن أعجبه الصمت فلينطق. فإن خشي المدح فليصمت ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثناء.
وقد سُئِل سهل بن عبد الله التستوري: أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب. فمع الإخلاص تنسى حظوظ النفس، وقال سفيان: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي إنها تنقلب علي. إذا أراد أن يجاهد نفسه يجد تقلبات، ولا يدري أهو في إخلاص أم رياء، وهذا طبيعي أن يشعر أنه في صراع لا تسلم له نفسه دائماً فهو يتعرض لهجمات من الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، وهذا فيه خير، أما من اطمأنت نفسه بحاله فهذه هي المشكلة، وقال ابن يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل، وقال الزبيد اليامي: إني أحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب، وعن داود الطائي: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية وكفاك به خيراً وإن لم تنضب، أي: حتى وإن لم تتعب فإن ما حصلته من اجتماع نفسك لله وإخراج حظوظ النفس من قلبك، هذا أمر عظيم، وقال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه: ما سبق الناس بأنه كان أكثرهم صلاة وصيام بل بشئ وقر في قلبه، وقال داود: البر همة التقي، ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردته يوماً نيته إلى أصلها، وقال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد، وقيل لنافع بن جبير: ألا تشهد الجنازة فقال: كما أنت حتى أنوي أي: انتظر حتى أجاهد نفسي، وقال الفضيل: إنما يريد الله عزوجل منك نيتك وإرادتك.
ومن أصلح الله سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح ما بينه وما بين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، وما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله في صفحات وجهه وفلتات لسانه.
والمخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ومن شاهد في إخلاصه الإخلاص فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص.
ومما قيل في الإخلاص: نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق، وإفراد الحق سبحانه بالقصد والطاعة، واستواء عمل الظاهر والباطن، ومن تزين للناس فيما ليس منه سقط من عين الله، وإنه سر بين الله والعبد، لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده والله قد يعلم الملائكة ما يشاء من أحوال العبد، والإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهداً إلا الله، وإذا داوم عليه الإنسان رزقه الله الحكمة، وقال مكحول: ما أخلص عبد قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، وقال أبو سليمان الداراني: إذا أخلص العبد انقطع عنه كثرة الوساوس والرياء.
وكان السلف يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا يعلم عنها زوجة ولا غيرها، وأعز شئ في الدنيا الإخلاص، ويقول يوسف بن الحسين: كم أجتهد في إسقاط الرياء من قلبي فينبت لي على لون آخر، ووكان من دعاء مطرف بن عبدالله: اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي ثم لم أفِ لك به، وأستغفرك مما زعمت أنني أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمته.
تنبيهات في مسألة الإخلاص:
1 ـ متى يكون إظهار العمل مشروعاً؟: قال ابن قدامة: فصل في بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات، قال: وفي الإظهار فائدة الإقتداء، ومن الأعمال ما لا يمكن الإسرار به كالحج والجهاد، والمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي بل ينوي الإقتداء به (إذاً ينبغي أن نحسن نياتنا في الأعمال المظهرة لندفع الرياء وننوي الإقتداء لنأخذ الأجر)، قال ولا ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك، ومثل الذي يظهره وهو ضعيف كمثل إنسان سباحته ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل إليهم فتشبثوا به وغرقوا جميعاً.
والمسألة فيها تفصيل: الأعمال التي من السنة أن يكون عملها سرّاً يسرّ، والأعمال التي من السنة أن يظهرها يظهرها، والأعمال التي من الممكن أن يسرها أو يظهرها، فإن كان قوياً يتحمل مدح الناس وذمهم فإنه يظهرها وإن كان لا يقوى فيخفي، فإذا قويت نفسه فلا بأس في الإظهار لأن الترغيب في الإظهار خير.
وقد ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يظهرون بعض أعمالهم الشريفة ليقتدى بهم كما قال بعضهم لأهله حين الاحتضار (لا تبكوا علي فإني ما لفظت سيئة منذ أسلمت)، وقال أبو بكر بن عياش لولده (يا بني إياك أن تعصي الله في هذه الغرفة فإني ختمت القرآن فيها اثنتا عشرة ألف ختمة) من أجل موعظة الولد، فمن الممكن أن يظهر المرء أشياء لأناس معينين مع بقاء الإخلاص في عمله لقصد صالح.
2 ـ ترك العمل خوف الرياء، وهذا منزلق كشفه الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما. قال النووي: من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مرائي (لأنه ترك لأجل الناس) لكن لو ترك العمل ليفعله في الخفاء، فمن ترك العمل بالكلية وقع في الرياء، وكذلك من كان يستحب في حقه إظهار العمل فليظهره كأن يكون عاملاً يقتدى به أو أن العمل الذي يعمله المشروع فيه الإظهار.
3 ـ إن من دعا إلى كتم جميع الأعمال الصالحة من جميع الناس هذا إنسان خبيث وقصده إماتة الإسلام، لذلك المنافقون إذا رأوا أمر خير وسموه بالرياء، فهدفهم تخريب نوايا المسلمين وأن لا يظهر في المجتمع عمل صالح، فهؤلاء ينكرون على أهل الدين والخير إذا رأوا أمراً مشروعاً مظهراً خصوصاً إذا أظهر عمل خير معرض للأذى فيظهره احتساباً لإظهار الخير فيستهدفه هؤلاء المنافقون فليصبر على إظهاره ما دام لله، قال تعالى:(الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم).

أحمد محمد خشبة
إمام وخطيب جامع ذوالنورين ـ الغبرة الشمالية