الوزن ليس قيمة شعرية مطلقة.. والنثر لا يتحول إلى قيمة إلا بالصورة واللغة والرؤياأجرى اللقاء ـ وحيد تاجا:اللقاء مع الشاعرة المغربية أمينة المريني ممتع بقدر لحظات الإمتاع التي نعيشها ونحن نقرأ اشعارها. ففي الحوار، كما في القصيدة، تحلق الشاعرة وتسمو..ونحلق معها محاولين الاقتراب اكثر فأكثر من عوالمها.. أمينة المريني، مواليد 1955، نشأت في عاصمة المغرب الروحية والفكرية مدينة (فاس).. انبثق شعرها عن تصور إسلامي للكون والحياة والإنسان. وعملت أستاذة للغة العربية.. وقامت بمهمة الإرشاد التربوي للمعلمين. حصلت على العديد من الجوائز، وصدر لها "ورود من زناتة" و"حرة في ظل الإسلام"، و"سآتيك فردا"، و"ومنها تنفجر الأنهار"، و"المكابدات"، و"المكاشفات"، و "خرجت من هذه الارخبيلات"، و"من أوراق الحلاج الآخر"..* غالبا ما تشيرين الى أثر البيئة التي نشأت بها على توجهك الشعري والفكري..هل يمكن الحديث عن هذا، ومن هم الكتّاب الذين شكلوا مرجعيتك..؟** لعل أي كاتب لا يصدر من فراغ، إنما هو وليد بيئة عامة وظروف خاصة تحكمه. ولا يمكننا أن نتصور أدبا نابعا من العدم. ولابد أن المتلقي البصير يستطيع أن يدرك كثيرا من الدوافع والمرجعيات وإن كانت ضاربة في الزمن وفي الروح. أمر مفروغ منه إذن، ذلك أن أي عمل أدبي له أمراس تشده إلى جذور أكثر عمقا وتنوعا، وعاها الكاتب أو لم يعها، ولكنها حتما حاضرة في عمله، فالذي يقرأني لا يقرأ ذاتا منفصلة عن تفاعلاتها ومرجعياتها، ومحيطها، الأسرة والمدرسة، والمجتمع الكبير، مجتمع السبعينيات وقبله الستينيات من القرن الماضي، كل هذه المحاضن منحتني وكتاباتي خصائص نفسية وفكرية، والأمر طبيعي فكل كاتب هو محصلة إرثه الخاص من جينات الوراثة، تضاف إليها مع ظروفه والبيئة التي تربى فيها. وقد أشرت في حوارات سابقة إلى مسألة الانعكاس التي هي أشبه بالمرآة، تلك العملية التي تطبع كل عمل أدبي بالتفرد وتمنحه هويته. والكاتب يستمد إبداعه من لا شعوره وهو المصدر الحقيقي للإبداع، كما يستمده من وعي جماعي، لذلك كان من الطبيعي ألا يكون أي منا معزولا عن مكانه أو زمانه، أنا ابنة (فاس المدينة) العريقة ذات الألف مئذنة، وحول بيتي نبتت مساجد أضفت هالات من نور الله، وأنا ابنة المغرب الأصيل، وابنة أسرة تقليدية محافظة، بين كل هذا درجت، وبين السكان البسطاء نمت أعوادي، كانت لكل شيء قيمة، ولكل معنى جميل وزن، وكان للأب وللأم وللمعلم وللجار أدوار كبيرة في التربية، وبعد كل ذلك قرأت علال الفاسي ومحمد الحلوي وعنترة والمتنبي وأبا تمام والسياب وعبد الصبور وشوقي، واستمتعت بحفظ الكثير من الشعر الجاهلي والإسلامي والعباسي، كما حفظت ما تيسر من القرآن والحديث والحكم والأمثال، وهذه مرجعيات شكلت وعيي الأول بالحياة وبالكتابة.* وماذا عن تأثرك بالمتصوفة العاشقة رابعة العدوية.. التي تزدادين اقترابا منها، مع كل قصيدة جديدة، أكثر فأكثر..؟** سأختصر المسافة على كل أصحاب تلك المداخلات، الذين رأوني أشبه العدوية أو امتدادا لها، أنا لم أقرأ هذه الشاعرة يوما، ولم يتأت لي أن أمسكت بديوانها، وإن سمعت نتفا من أشعارها في بعض الأعمال الدرامية، أنا لحد كتابة هذه السطور لم أقرأ لرابعة، نعم قرأت الحلاج والنفري وجلال الدين الرومي وجوته، وربما اقترابي منها يعود إلى المشترك في الفكر الصوفي، أقصد النزعة الروحية التي تدفع إلى الرغبة في الانعتاق من القبح والبحث عن الجمال الأعلى والعودة إلى المحل الأرفع بالتخلص من الأسر المادي) ولعل مدينة المعرفة واحدة عند المتصوفة بابها التوحيد وأسوارها المحبة وخيلها القرب وجنودها الاتصال، وكأني بالمتصوفة يطرقون هذه المدينة أو يتجهون نحوها كل حسب مشاربه، غير أن الذي يقرأني بتروٍّ سيجد المختلف حتما بيني وبين الآخرين، فالانشداد إلى الطين لدي أقوى، وحضور تيمة الموت قوي في أعمالي وهو ما يفسر الحزن الذي يجتاح الديوان، ثم إن الخيال الذي هو جوهر الشعر كما يرى باشلار قد يدفع كل شاعر أن يحلم في الواقع كل بطريقته، وبعد كل هذا لابد من مراجعة النقد لقضية التناص، وعدم تناسي وحدة الفكر الإنساني والنوازع البشرية المشتركة.* يرى أحد النقاد أن "المرأة تعرف مسبقاً، عندما تختار الكتابة، " أنها تدخل معركة كبيرة واسعة ومثيرة قد تربح فيها ذاتها الكاتبة وتخسر فيها ذاتها الجماعية التي تقف عائقاً مستمراً أمام تطلعات الكتابة، ورغباتها المتوحشة".. ما رأيك بهذه الرؤية..؟** العكس تماما لا خسران فيما سميتموه معركة، إن كانت معركة في الأصل، بل هناك حياة جديدة بل حيوات ثرية ومتعددة تعدد النص الذي يكتب، فمع كل نص حيوات وآفاق وأبواب تفتح على المستقبل، وأخرى تغلق أمام واقع مقيت لا يمسح قبحه إلا فعل الكتابة، أما الذات الجماعية التي هي الآخرون الذين هم في حياة الكاتبة، والذين من المفروض ألا يكونوا مرضى أنانيين، فهم الذين يجب أن يكونوا مشجعا ومحفزا للكاتب لا عائقا أمامه، بالنسبة إلي لقد ساعدتني هذه الذات الجماعية على أن أكون أنا، وفتحت أمامي من الإمكانات والفرص ما لم يفتح لغيري، وفرحت لتألقي ودعمتني في أوقات عصيبة، وأنا جد ممتنة لكل من كان في حياتي على أنني حققت تطلعاتي في الكتابة ورغباتي الكبرى، الحقيقة حينما نتحدث عن المعركة والخسارة والعائق، نتحدث عن ماض ولى حينما كانت المرأة مجرد أداة تضرب بينها وبين المستقبل أسوار، ولعل مثل هذا الواقع ولى في وقت فهم الناس حقيقة المساواة القائمة بين الرجل والمرأة في كثير من الحقوق في ديننا، فمن الأفضل أن نميز بين الإسلام كدين متسامح كرّم المرأة حق تكريم، وبين من ينتسبون إلى الإسلام وقد كلّست عقولهم تقاليد بالية يبدو الإسلام منها براء،* أول ما يلفت النظر في أعمالك هو العنوان الذي يمثل في مجموعاتك الشعرية، بؤرة توليد دلالية. كيف تختارين عناوين مجموعاتك الشعرية وقصائدك.. وهل تأتي بعد كتابة القصيدة او تسبقها..؟** كيف أختار العناوين؟، سؤال أطرحه على نفسي الآن بعد أن طرحته علي، أخي الكريم، أما أنه بؤرة توليد فذلك قصد يبحث عنه المتلقي الواعي، أما أنا فلا أختار العناوين، بل هي التي تأتي إلي، قل اتفاقا أو إلهاما أو ما شئت، لكنها تأتي قبل القصيدة، لأن العنوان الذي يتجلى لي ذات حدس، هو الذي يفرض موضوع القصيدة ويسوق إليها، وأن أكتب القصيدة ثم أبحث لها عن عنوان، فهو في اعتقادي تعمل وتكلف، يبدد قدرات المبدع، وهو في هذه الحالة يستطيع أن ينتقي أي كلمة من القصيدة ليجعلها عنوانا قد يتفق وقد لا يتفق مع النص، العنوان يا سيدي أكبر مفتاح للنص وقائده، ومذلل مساراته ومنير مساربه، وهو الخيط الرابط لمكونات النص، أشبه في العمل الإبداعي باللحمة والسداة في النسيج، بالنسبة للعنوان في المجموعة يتولد من مجموعة عناوين النصوص، لأنها هي التي تفرضه فرضا.* يشعر القارئ انك تُحيلينه، من قصيدة الى أخرى ومن مجموعة إلى أخرى.. وكأنك تعملين على الارتقاء معه او به إلى المستوى الأعلى.. فالأعلى.. بحسب الطرق الصوفية، فهو لن يستوعب " مكاشفات دون قراءة " مكابدات، الذي يحيل بدوره الى " خرجت من هذه الارخبيلات".. “من أوراق الحلاج الآخر”، وهكذا...؟** لكن لا أقصد إلى ذلك قصدا، إنما هو نابع من اعتقادي أن النصوص يجب أن تكون حلقات مترابطة ومتسلسلة يكمل بعضها البعض، وأن كل مجموعة يجب أن تكون لبنة تشكل مرقاة أعلى مما قبلها. ومسألة ثالثة أركز على الإضافة لا على التكرار، فإذا شرعت في الكتابة ولاحظت أنه (معاد من القول مكرور) مزقت ما كتبته وأحجمت، حتى تتكون لدي طبقة مائية جديدة أمتح منها،بعض الشعراء يكتبون نصا واحدا ويراكمون مجموعات متشابهة حتى ليصعب أن تضع يدك على التنوع والتجديد والارتقاء، وأعتقد أن الراحة التي هي أشبه بالراحة ( البيولوجية) ضرورة لكتابة النص، البراعة ليست في السيولة الشعرية إنما في نوعية ما نكتبه، وهذه النوعية لا ترتبط بالكم ولكن بالرؤيا الشعرية التي تشبه نهرا سيالا بين النصوص، لكل نص رافد جديد، وهذه الرؤيا هي مشروع الشاعر الذي يتنامى ويكون كلا منسجما داخل نصوصه، ويقدم من خلالها الشاعر موقفه من العالم وتحولاته، إنها البصيرة الشعرية التي تستمد خصائصها من تجربة الشاعر الإنسانية ومن علاقاته بعالمه الذي يحيط به، ومن خبرته الجمالية في الصياغة والتذوق والإبداع، هذه الرؤيا يجب أن تتنامى داخل كل قصيدة من الديوان ويجب أن تتنامى وتتطور بين المجموعات، في الصورة والصياغة والفكرة، ومدى التفاعل مع العالم، إنها في الأخير فكرة جوهرية يحملها الشاعر ويمتلئ بها وتشغله فكريا ونفسيا وجماليا، ويجب أن تنعكس على كل نص وعلى كل مجموعة، وهذا الانعكاس لا يجب أن يكون واحدا في كل نص أو في كل مجموعة، وإلا فالمبدع يكون أثناءها لم يحفر بعمق مجرى نهره (رؤياه)، وعليه أن ينتظر لتختمر، وتتعمق حتى يكتب نصا مغايرا ومجموعة جديدة، إن ما اصطلح عليه بعض النقاد بـ (نوافذ الرؤيا) مهم جدا لتحقيق هذا الارتقاء إلى مستوى أعلى فأعلى. ومهمة الشاعر تتجلى في أن يعرف كيف يفتح هذه النوافذ وعلام يفتحها، وعلى أي كون جديد يجب أن تنفتح.* بدأت بكتابة الشعر العمودي، ثمَّ شرعت في المزاوجة بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة. اين تجدين نفسك.. وما الذي يحدد شكل القصيدة عندك...؟** أنا بدأت ناثرة، وحين أحسست أن هناك خللا في ما أكتبه، توقفت، أحسست أنني لا أتساوق والإيقاعات الجسدية والكونية المنضبطة بالنظام، خصوصا وأن توقفي جاء بعد إدراكي لما يختزنه الشعر العربي من إيقاعات وموسيقى ثرية، وقد أدركت الموسيقى قبل دراستي للعروض، وكتبت النص العمودي ومرجعيتي الأذن لا الدراسة، والنص التفعيلي في تقديري لا يخرج إلا من عباءة النص العمودي، فهو وليده وابنه الشرعي، وحين أتنقل بينهما أحس كأني أتنقل في قصر بين أبهاء وردهات وحجرات إلى بساتين ورياض لا تحد الانطلاق، أو قل كأنني أتنقل بين بحر ونهر، والعكس، وبين هذا وذاك أجد المتعة لا فرق، على أن الاحتكام إلى الوزن والقافية في النظر إلى الشعر نظر قاصر نوعا ما، وقديما رأى الجاحظ الشعر صياغة وضربا من التصوير، ولعل نظرية النظم عند الجرجاني كانت سابقة في الزمان، فالشعر لا يستمد شعريته وتأثيره من وزنه وقافيته ومعناه، بل من تعليق الكلمات بعضها ببعض، فبعض الشعر نثر وإن كان نظما، وبعض النثر شعر وإن كان متحررا من الوزن، إن العمدة في الشعر هو الخيال واللغة الشعرية، على أن الإيقاع إذا انضاف يزيد النص جمالية عالية.* بالتالي. اين أنت الآن من قصيدة النثر. لاسيما أن بعض النقاد يرون أن المعركة حسمت جماليا لصالح قصيدة النثر في المغرب...؟** أنا من قصيدة النثر حيث توقفت، لم أعد إليها، لأنها غلّت أجنحتي عن الانطلاق، وحدَّت سمائي، أخالف الرأي الذين يرون بأن القصيدة الموزونة بنوعيها تفرض عوائق ومتاريس في وجه التجربة، بالعكس، في الموسيقية انطلاق وتحليق وأي تحليق، لم أجدهما في قصيدة النثر التي كتبتها في الزمن القديم، في قصيدة النثر لابد للشاعر أن يعوض عن الوزن بطاقات بديلة ليرتفع إلى جماليات الأداء الشعري الذي تسميه سوزان برنار ( التأثير الكلي والكثافة )، وقد كانت محاولات البعض للتعويض في أنماط العبارة وفي اجتراح الخيال وفي اللغة وبرؤيا جديدة. إن كتابة قصيدة النثر موهبة شعرية خلاقة، ومعرفة بالشعر العربي وثقافة فنية جمالية وازنة. وأعتقد أن هذه القصيدة جاءت عندنا على وجهين؛ إما أن تكون شعرا عاليا ممتازا أو شعرا رديئا مسفا، وليس هناك وسط. والذين أجادوا فيها هم قلة قليلة. وقد اعتقدها الكثيرون مركبا سهلا فأقبلوا عليها، فتم الإسفاف بها عند بعض ذوي المواهب الضعيفة، خصوصا وأنها قصيدة لم يُقَعَّد لها ولم يُنَظَّر، ومن هنا تأتي صعوبتها، وحين يفهم بعض الشعراء مواطن شعرية النثر سيكتبون قصيدة نثر حقيقية. وهذه المواطن للأسف تغيب علي كما تغيب على الكثيرين، لهذا قولك بأن المعركة قد حسمت جماليا لصالح قصيدة النثر في المغرب فيه نظر، بعض قصيدة النثر وقع تحت هيمنة جمالية لتجارب غريبة والمطلوب مقاييس عربية تستلهم الجذور، وهذا أمر سعى إليه أدونيس نفسه، إذ دعا في مرحلة لاحقة إلى كتابة نثرية تغترف من الينابيع الأولى وتزدهر تحت أمطارنا وثقافتنا، والجدير بالذكر أن قصيدة النثر عند أدونيس نفسه كانت جزءا من تجربته الشعرية. ومجده الشعري لا يتمثل إلا في قصائده الموزونة، على أنني أخيرا ألخص موقفي في التالي: الشعرية لا تتحقق بالنثر أو الوزن، بل بالرؤيا واللغة، فالمعركة إذن مفتعلة والتاريخ سيقول يوما كلمته الفصل في ذلك.* عن الحداثة تقولين:" الحداثة يجب أن تستهدف الشاعر وعيا وذوقا ورؤية إلى العالم قبل أن تستهدف منجزه وإلا كانت حداثة لم تتعد السطح ". هل يمكن إيضاح هذا.. وكيف تنظرين الى مفهوم الحداثة من وجهة نظر إسلامية.. ؟** الصراع بين القديم والجديد قضية أزلية، وقد اتخذت طابعا مختلفا في كل زمان ومكان، المأخذ عندي في الحداثة عند البعض أنها حداثة تقليد،، حداثة النص الأدبي لا غير، والملاحظ أن الكثيرين يعلنون القطيعة مع ماضينا وما يزخر به من جماليات فكرية وتعبيرية ويستهلك بضاعة أخرى، وهم كما قال عنهم أحد النقاد (يستعيرون نبرة الشاعر الغربي في تبعية قاتلة ويتعالون على تراثنا)،أعني أن مشكلة الإنسان العربي ككل، أديبا كان أو غير أديب، تتلخص في أنه ينبهر بما لدى الآخر في أمور، ويعيش بمنطق أمته وتفكيرها وعلى نمط تقاليدها، بمعنى يعاني من ازدواجية مزمنة، ولا أعتقد أن هناك حداثة من وجهة نظر إسلامية أو مسيحية أو يهودية، الحداثة يفرزها كل زمن وكل شعب بمنطقه، الحداثة في نظري لا تمنعني من أن أنفتح على الآخر وآخذ أفضل ما عنده، وأن أحافظ على أفضل ما في تراثي الإسلامي والعربي، مشكل البعض أنه يعادي التراث بمنطق أنه قديم، والخطأ عند أصحاب الحداثة أن بعضهم لا يعرف الجذور، يثور على الوزن مثلا وهو لا يعرف الوزن، ويثور على اللغة وهو لا يضبط اللغة، يخفي العداء للقديم بسبب الجهل به، أنا مثلا أحترم حداثة الشاعر محمد السرغيني وتستهويني، فقد كتب القصيدة العمودية وهو متضلع في منجز الشعر العربي القديم، ولذلك فحداثته تنطلق من أرضية صلبة، لها ضوابطها ومسوغاتها الجمالية، وقد وجدنا (إليوت) يشترط في الشاعر الذي ينوي كتابة الشعر توفر الحاسة التاريخية، أي أن يكتب وليس في عظامه جيله فحسب، بل أدب أوروبا منذ هوميروس، لأن هذا الأدب يمتلك وجودا معاصرا واحدا، يقول أدونيس؛(قراءة بودلير هي التي غيرت معرفتي بأبي نواس، وقراءة مالارميه هي التي أوضحت لي اللغة الشعرية عند أبي تمام، ).* في ذات السياق ما هو مفهومك للأدب الإسلامي، وكيف نتعامل مع الأدب العالمي من منظور إسلامي...؟** مصطلح الأدب الإسلامي الآن بات عندي فيه نظر، لأن الأدب لا يجب أن يوصف بدين، وإذا قبلنا بالوصف، ماذا نسمي ما يكتبه الأديب في بلد مسلم، ما لم ينضوِ تحت يافطة الأدب الإسلامي؟، جميعنا مسلمون، أنا أفضل أن أسميه أدبا كونيا أو إنسانيا، فالإسلام كرم الإنسان ورفع من شأنه وفضله الله على كثير من الخلق، لذلك أرى أن الأدب الذي يقبله الذوق والفطرة هو الأدب الذي يطبع بالسمو والرفعة ولا ينحط إلى مهاوي الطين، ونستطيع أن نجد في بعض الأدب العالمي ملامح هذا الأدب الذي تسميه إسلاميا وأسميه أنا كونيا أو فطريا أو إنسانيا ( طاغور نموذجا )، وخلافا لذلك فكل أدب انحط ونبع من الغريزة وحرض على الشهوات وألهب المخيلات المريضة وساعد على الانحراف ولم يخدم سوى الهذيان، فهو أدب زائل غير كوني وغير إنساني، لأنه لا يمت إلى جوهر الإنسان ونقاء فطرته، بل أقرب إلى أدب حيواني حتى ولو كان كاتبه يعيش في بلد مسلم.* انتقدتِ أكثرَ مِن مرّةٍ مُصطلح "الأدب النسائيّ". ولكن القائلين به يرون انه سيكولوجيًّا: للكتابةِ خصوصيّةٌ تنبُعُ مِن الجنسويّة، وثقافيًّا للمَرأةِ أساليبُ وطُرُقُ تعبيرٍ تُميّزُها، ولُغويًّا: للمرأةِ لغةٌ أنثويّةٌ وخطابٌ، وضميرٌ، وسردٌ أنثويٌ رومانسيّ خاصٌّ مُختلفٌ عن الرّجل!..ماقولك..؟** لا أخالفك الرأي في أن هناك أساليب وطرق تعبير تعبر بها المرأة ويمكن أن تميزها عن الرجل، وهذا أمر طبيعي يعود إلى اختلاف التكوين بينهما، لكن لا أريد أن ننفخ في المصطلح نفخا مفتعلا حتى نخلق ذلك العداء الكبير بين الجنسين، ويصبح تحزبا وخندقة وانقساما، الفوارق عادية، لكن ما ليس عاديا أن يتحول الشريكان والمتكاملان إلى خصمين، إن المصطلح يا أخي مفتعل بمنطق الغرب الذي يريد أن يوهمنا بأن هناك أدبا رجوليا وأدبا نسائيا، كما أوهمنا بأن هناك عيدا للمرأة، وبعد، ماذا يبقى من الأيام الثلاثمائة والستين؟، هل هي أعياد للرجل وحده ونحس على المرأة؟، كلا، أعتقد أن أيام الله جميعها أعياد للمرأة وللرجل بما يرضي الله وما ينفع الناس، كذلك الأدب، هو أدب الإنسان في تكامله وتوادّه، وعليه فهو مصطلح متقادم لا يقبله لا روح الانفتاح ولا روح المحافظة.* تفرض كتاباتك ومعجمك الصوفي على القارئ التوغل بعيدا في منافي اللغة الصوفية، ومعرفة واسعة باصطلاحات الصوفية وإشاراتهم. فما هو معيار القارئ الذي يرتقي إلى مستوى النص عندك...؟** الأمر لا يتعلق لا بارتقاء ولا بنزول، وإلا استعدنا منطق أبي تمام، النص الصوفي يتفاعل معه الجميع، من أدرك اللغة والمصطلح والإشارة ومن لم يدركها، لأنه أساسا يترجم ذلك القلق الوجودي الذي يعيشه الإنسان ويحتوي على ذلك الفيض الروحي والوجداني الغائر في وجدان كل إنسان، وهو نص يغوص في القصي والعصي من النفس البشرية ومن علاقتها بالآخر والمكان والزمان اللانهائيين، ومنم ثم تجد في أي متلق تعلقا بهذه الآفاق التي يختزنها النص الصوفي، وعلى فارق المثال بكى ( ماسرجويه ) يوما حين تُلِيَ القرآن، وهو لا يعرف العربية، فسئل ما الذي يبكيك؟،قال أبكاني الشجا.* "الحزن الشفيف" هو الشعور الأكبر الذي ينتاب قراء قصائدك، وكأنك مسكونة بالحزن ومنه تستمدين روح القصيدة..؟** نعم ملاحظة دقيقة، فأنا كائن يلابسني حزن أزلي لا أعرف مصدره، عشت أفراحا كثيرة وحققت نجاحات كبيرة على مستوى المنجز وعلى مستوى علاقاتي الإنسانية، وكوني مؤمنة يكفيني لأن أترع فرحا، لكن ما العمل، وراء ابتسامتي الدائمة محيطات من الحزن لا أدري من أين تنبع، لكنها لا تغرقني، لقد استطعت أن أحول هذا التكوين الطبيعي إلى نعمة أغرف منها نصوصي بل أجمل نصوصي، ولا شك أن الحزن الغامض ليس نعمة، ولكنه تحول عندي إلى أن يكون نعمة وأن يمدني بحساسية مفرطة جعلت بيني وبين القبح في هذا العالم مسافات معقولة.