إذا كان التراث يوصف بأنه ضمير الأمة الحي الذي يعيش لآلاف السنين بعد رحيل الجيل الذي ترك هذا التراث، فإن مسؤولية الحفاظ على هذا الإسهام الحضاري والتاريخي والتراثي بمختلف جوانبه وتخصصاته ومجالاته العلمية والأدبية والثقافية والفنية ونسبة الفضل إلى قادته ورجالاته وصانعيه تتحول مع الزمن إلى مسؤولية وأمانة وطنية وإنسانية كبرى تقع على عاتق الأجيال الحاضرة والقادمة.
وتزداد اليوم المسؤولية الوطنية أكبر عن ذي قبل جراء الصراعات واحتدامها بين مختلف الحضارات، في ظل محاولات حثيثة للسطو على التاريخ لأسباب عدة منها محاولات إلباس الباطل والظلم بأثواب تاريخية لا تمت لا من قريب أو بعيد بصلة، وكذلك لمحاولة الهروب من حقائق التاريخ وليِّ أعناقه، وتوظيف الإمكانات لوضع مغالطاته مكان حقائقه نتيجة شعور داخلي مليء بالنقص والعري الثقافي والحضاري والتاريخي، التي لا تزال للأسف تدفع بالبعض في عالمنا المعاصر إلى إنهاك التاريخ وإمراضه بالمغالطات والنهب والسطو، والبروباجندا الخارجة عن قدرات العقل، وعن نواميس الكون، وقوانين الطبيعة.
وما يبعث الفخر فينا نحن العمانيين أن تكون الحضارة العمانية إحدى الحضارات الموغلة في القدم والصانعة لحركة التاريخ بمختلف حقبه، من خلال قادة عظام ورجالات أناروا الكون بشعاع فكرهم وعلمهم، وفتوحاتهم، ومآثرهم العلمية وتراثهم الإنساني، وقدموا للبشرية خدمات جليلة، فلا يكاد حجر في هذا العالم إلا وقد وقعت عليه قدم قائد عماني، ولا يكاد شبر من هذا العالم إلا وعليه أثر وشاهد عماني، وما يزيد الفخر لدينا أن هذا التاريخ بقوة حقه ومقاومة باطله ومغالطاته ومحاولات تشويهه والسطو عليه، يصر على نصاعة الدور الحضاري العماني، ويصر على تسجيل عُمان والعمانيين في سجلاته بأحرف من نور، وينافح أعداءه بأن لعُمان ورجالها وقادتها وعظمائها دورًا لن ينسى ولن يمحى، ويعترف بالفضل لهم بأنهم لم يسفكوا قطرة دم عربي أومسلم، ولا غيرهما، ولم يطمسوا حضارة أو يبيدوا أمة، وإنما كانوا حريصين كل الحرص على تنوير البشرية وحب الخير للناس ومساعدتهم على البقاء والحياة، ورفدهم بفيوض رحمة الإسلام.
واليوم حين نقف على شخصية إسلامية عمانية عظيمة أنارت التاريخ الإسلامي والعربي، وقبلهما العماني، ببصماتها وبمآثرها وأدوارها، وإسهاماتها في الفتوحات الإسلامية ألا وهي شخصية القامة العمانية العظيمة "المهلب بن أبي صفرة" من خلال الندوة الدولية "المهلب بن أبي صفرة الأزدي العماني"والتي ستنطلق غدًا تحت رعاية معالي عبدالعزيز بن محمد الرواس مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية وتستمر يومين، إنما نقف بكل إباء وشموخ واعتزاز وفخر على جهد عظيم قدمه هذا القائد العماني الفذ، فالاحتفاء به بقدر ما يمثل اعترافًا وتقديرًا وإعجابًا بجهده ودوره، بقدر ما يرتب مسؤولية وطنية على الجميع للذود عن التاريخ العماني والحضارة العمانية، والموروث التاريخي والحضاري، وربط الأجيال الحاضرة والقادمة به، من خلال وسائل سهلة ومتاحة، كوسائل الإعلام من خلال المسلسلات التاريخية والبرامج الثقافية والأدبية، ومن خلال المناهج التعليمية، والفعاليات المختلفة.
وتأخذ الندوة طابعها وزخمها ومصداقيتها وصيرورتها التاريخية في ظل هذا العهد الزاهر لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ راعي مسيرة الحفاظ على التراث والتاريخ الحضاري والإنساني العماني، وتجديدهما، وتسليط الضوء عليهما، من خلال الأوراق العلمية والتاريخية الرصينة التي سيتوالى على إلقائها أساتذة ومؤرخون وراصدون أجلاء من داخل السلطنة وخارجها.