[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/fawzy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]فوزي رمضان
صحفي مصري[/author]
” لم أسمع من هديلهم سوى النواح والعويل، ولم تسترق مسامعي عنهم سوى الأنين، فلاهو تغريد الطيور الصداحة، ولا هو شقشقة العصافير، ولا هو صفير البلبل، ولاهو هدهدة الهدهد، ولا لقلقة اللقلق، لم أسمع سوى الشكوى والألم، مجرد صفير متقطع، مرة سجع ومرة شجن ومرة نواح، لم أعرف هل هو ينوح أم يترنم ؟ يشدو طربا أم يتوجع حزنا، سألت نفسي جائز من شدة الحرارة، لكن لم يتغير سلوكه في فصل الشتاء ، ”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تجمعني علاقة غير سوية بالحمام، حيث لامحبة ولاسلام ولا وئام، ولا عحب في حكايتي، لسنوات طويلة وحتى الآن يشاركني في غرفة نومي سرب من الحمام، يعشش في الصندوق الخشبي الذي يحتوي جهاز التكييف من نوع الشباك في فتحة الحائط، ولكون علاقتي مع الحمام مزعجة أصبحت مهتما بالتعرف على سلوكيات هذا الطائر الغريب الذي يزعجني دائما، يبدأ بتوقيت محدد مع تنفس الفجر، إنه يمتلك ساعة بيولوجية حيوية مذهلة مرتبطة بتعاقب الليل والنهار والضوء والشمس، في التوقيت المحدد الذي لايتغير مطلقا، يسجع سرب الحمام ويهدهد، حتى يختفي ضوء النهار وتغيب الشمش، سرب يغدو خماصا، وآخر يعود بطانا، في تناوب غريب على مشارف سمعي كأنهم مصرون على إزعاجي.
لم أسمع من هديلهم سوى النواح والعويل، ولم تسترق مسامعي عنهم سوى الانين، فلاهو تغريد الطيور الصداحة، ولا هو شقشقة العصافير، ولا هو صفير البلبل، ولاهو هدهدة الهدهد، ولا لقلقة اللقلق، لم أسمع سوى الشكوى والألم، مجرد صفير متقطع، مرة سجع ومرة شجن ومرة نواح، لم أعرف هل هو ينوح أم يترنم ؟ يشدو طربا أم يتوجع حزنا، سألت نفسي جائز من شدة الحرارة، لكن لم يتغير سلوكه في فصل الشتاء ، قلت جائز من الجوع والعطش، فوضعت في طرفي النافذة وعاء للماء وآخر من حبات القمح، لكن لافائدة من صنعي، ولم أتلق إلا المزيد من الأنين والآهات والبكاء، لم أعرف سر هذا الحزن في هذا الطائر الجميل، الرائع الطلعة البهي المنظر لماذا أنت حزين ياحمام؟.
سألت الشعراء ،أينوح الحمام أم أهلوس أنا، أجاب أبو فراس الحمداني:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارتي هل بات حالك حالي
لقد كنت أولى منك بالدمع فعله
ولكن دمعي في الحوادث غالي
ويتجاذب ابن الرومي أطراف الحديث ويقول:
رأيت الشعر حين يقال فيكم
يعود أرق من سجع الحمام
ويجيب شاعر آخر، أن الحمامة عندما تغرد فإنها تشكو صروف الزمان، وفي الوقت ذاته يرى الشاعر، أن حزنه يفوق حزنها بأضعاف مضاعفة، لذلك يطلب منها أن تكون حزينة مثله فها هو يقول:
وقد هتفت في جنح ليل حمامة
مغردة تشكو صروف زمان
فقلت لها: لو كنت مثلي حزينة
بكيت بدمع زائد الهملان
وعرفت أن الحمام يبدأ بالبكاء، كما أكد معظم الشعراء، وهنا تهيج مشاعر الأسى لديهم وتقدح قريحة الشعر، وقد لقى نواح الحمام اهتماما كبيرا في كتب الأدب العربي، وقد أفرد له بعض الكتاب بابا خاصا، كما فعل ابن داوود الأصفهاني في كتابه الزهرة تحت باب (في نوح الحمام أنس للمنفرد والمستهام )، لايشغلني أن أكون منفردا أو مستهاما، ولكن تعبت من التساؤل لماذ يبكي هذا الطائر اللطيف جميل الطباع .
يقول الأصفهانى: وإنني أرى أن الحزن والنواح هو الأساس عند الحمام، فالحمام بهديله وسجعه سمير الحزانى، ونجي الثكالى والأيامى، وهديله بلسم لجراحات المتألمين، وسجعه مؤنس للغرباء المبعدين... وعندما يختلف اللفظ أحياناً عند الشعراء بين الغناء والنواح فإن الشعراء طبعاً لا يقصدون الفرح والسرور إذا ذكروا كلمة الغناء مقرونة مع الحمام, بل يقصدون بها الحزن والبكاء, والعويل وطول النحيب. وبعض الشعراء يحاول أن يعلل وجود اللبس بين البكاء والغناء تعليلاً منطقياً نوعاً ما، فهو يرى أن الحمام حتى وإن بكى فإنه لا دموع له تسكب، ولا أجفان تبتل، بينما الإنسان تسح منه الدموع عند البكاء.
كيف يا حمامة السلام، يامن تحملين غصن الزيتون في منقارك، منذ عهد نوح عليه السلام، حيث كان يدعو قومه ليل نهار لعبادة الله وحده دون الشرك به ولكن لم يؤمن معه إلا القليل من قومه فأمره الله ببناء سفينة من ثلاثة طوابق، الطابق الأول للوحوش والحيوانات، والثاني للبشر من آمن بنوح، والثالث للطير. وعندما جاء الطوفان أفنى الله كل ما على الأرض من بشر، وغطى الماء أعلى قمم الجبال، لذلك أرسل نوح الغراب ليرى إذا كانت الأرض شربت الماء أم لا، فلم يعد الغراب فأرسل بعد ذلك الحمامة، فعادت ولم يكن برجلها شيء، فأرسلها مرة أخرى بعد سبعة أيام عادت، ورجلها مغطاة بالطين وفي منقارها غصن زيتون، فعرف نوح أن الأرض قد شربت الماء وفتح السفينة، ليخرج من بها ويعمر الأرض مرة أخرى، ولهذا يرمز للحمامة وغصن الزيتون برمز السلام.
وكيف تبكين يا رقيقة الطيور يا حسيسة المشاعر، وقد اختارك مؤتمر السلام العالمي بباريس 1949شعارا للسلام ، واعتمد لوحة بيكاسو (لكولومب) التي تحتوي على حمامة تحمل غصن الزيتون في منقارها لتكون الرمز للسلام والأمان والمحبة، وكما تساءل أبو العلاء المعري ( أبكت تلكم الحمامة أم غنت.... على فرع غصنها المياد ) أتساءل أيضا لماذا يبكي الحمام وينوح على شباك المكيف؟!، لكنها (عشرة سنين والعشرة لاتهون) مع الإزعاج الدائم تكيفت معهم، ومع ارتباط مؤشر اليقظة بهم تأقلمت مع أصواتهم ، ومازلت أتساءل لماذا ينوح هذا الطائر الجميل، لكن كلما رأيت أسرابا من الحمائم تحوي المكان، أحمد الله على نعمة السلام ، ودونما كل الطيور عندما يحط هذا الطائر على أرض، تعلم أنها المحط للأمن والأمان.