[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]” إن العلاقة بين الضرائب التي تقرها وتفرضها الحكومات على الشركات والأفراد ومؤسسات القطاع الخاص، والرقابة التي تنظم عملها وتضع اختصاصاتها الدساتير والقوانين، هي علاقة تكاملية تعزز الثانية من دور الأولى وتعلي من قيمتها في ضبط ورقابة الأموال المحصلة من الضرائب، وتوجيهها في تحقيق تطلعات المجتمع بتطوير الخدمات الصحية والتعليمية وبناء الطرق وتحديث البنى التحتية ... ”ما زلت أذكر تفاصيل الفيلم الهندي الذي شاهدته قبل سنوات والذي يتحدث عن عصابة من عدة أفراد استطاعت أن تسيطر على السوق في عدد من الولايات الهندية، وأن تستثمر مهاراتها المتعددة في الصعود إلى عالم الثراء والمال من الفاقة والفقر خلال فترة وجيزة، عبر نافذة التهرب من دفع الضرائب باستخدام جملة من الحيل والألاعيب التي يتقنها أفرادها، منها على سبيل المثال - وفقا لما عرضه الفيلم - استيراد آلاف الأحذية من احدى دول شرق آسيا للقدم اليسرى فقط لإحدى الولايات الهندية في حين يتم استيراد أحذية القدم اليمنى إلى ولاية أخرى ويتم استلام البضاعة من أحد أفراد العصابة في الولاية الأولى والآخر من الولاية الثانية. وبعد فحصها واكتشاف أنهم تعرضوا لغش تجاري أمام سلطات الجمارك يظهرون التباكي والحزن وبأن حياتهم التجارية انتهت وان مالهم المقترض لا شك سيوصلهم إلى السجن، فيتم بالطبع إعفائهم من الجمارك وتسليمهم بضاعة لا قيمة لها وفقا لتقدير مسئولي وموظفي الجمارك، وبمجرد استلامهم للأحذية المضروبة من كلا الولايتين وبحسب اتفاق مسبق فيما بينهم يجتمعون في ولاية ثالثة لجمع جوز الحذاء الأيسر بالأيمن وبيعها بأثمان باهظة، وتتكرر المواقف بصيغ وأساليب متعددة وتنتقل عبر بلدان ومناطق وولايات عدة بهدف التمويه والسرية، مع العلم بان نسبة الرسوم على الجمارك في تلك الفترة التي يتحدث عنها الفيلم كانت تصل إلى 120% من قيمة السلع المستوردة .. وبعد أن أقرت الحكومة الهندية تخفيض نسبة الضرائب بأكثر من 100 % وجدت العصابة بأن البيئة لم تعد تناسبها والأرباح المحصلة من هذا النوع من الاحتيال والتهرب الضريبي أقل من تطلعاتها وطموحاتها، فانتقلت إلى الولايات المتحدة الأميركية لممارسة أنشطتها على ضوء الخبرات التي اكتسبتها في هذا المجال، وبعد عمليتين أو ثلاث تم القبض على أفرادها وأودعوا السجن ... وسواء أكانت القصة من وحي الخيال أم مستقاة من الواقع إلا أن هذا النوع من الممارسات وأشكال التحايل الذي يأخذ طرقا متعددة ومتطورة مع تطور الزمن والتقنيات والضوابط موجودة في مختلف دول العالم وتكلف الحكومات مليارات الدولارات التي تذهب معظمها إلى جيوب التجار ورجال الأعمال والمستثمرين وحتى موظفي الجمارك على هيئة رشا ومصالح مشتركة ممن ماتت ضمائرهم ولم يعد يهمهم إلا الثراء الفاحش والسريع وتراكم الأموال، إلى جانب ذلك فإن رسالة الفيلم تقدم لنا جملة من الحقائق من أبرزها، أن الثراء الفاحش الذي يأتي سريعا ينتهي بالسرعة ذاتها، لأن تحقيقه دائما ما يحدث لأسباب غير مشروعة، وترافقه دون شك أسئلة إجاباتها لن تكون بعيدة عن شبه الفساد والتحايل على القوانين والأنظمة .. فالثراء القائم على الجهد والتفكير والعمل الجاد والالتزام بالمسئولية في تنفيذ القوانين والمنافسة الشريفة والأمانة والتوسع التدريجي .. يحتاج إلى سنوات من البناء والنمو والتعب إلى أن تتحقق الأهداف. كما أن التخطيط والعمل على تجاوز القوانين والتحايل على الأنظمة واستهداف المال العام من أجل تحقيق ثراء سريع يحرم خزائن الدول وموازناتها مليارات الدولارات التي يفترض أن توظف من أجل التنمية وتعزيز البنى التحتية وازدهار المجتمعات، وفي المقابل، فإن ارتفاع معدلات الضرائب وثقل أعبائها تؤدي إلى التهرب من دفعها. إن العلاقة بين الضرائب التي تقرها وتفرضها الحكومات على الشركات والأفراد ومؤسسات القطاع الخاص، والرقابة التي تنظم عملها وتضع اختصاصاتها الدساتير والقوانين، هي علاقة تكاملية تعزز الثانية من دور الأولى وتعلي من قيمتها في ضبط ورقابة الأموال المحصلة من الضرائب، وتوجيهها في تحقيق تطلعات المجتمع بتطوير الخدمات الصحية والتعليمية وبناء الطرق وتحديث البنى التحتية ... فمما لا شك فيه بأن بناء وتفعيل العمل المؤسسي التشريعي والرقابي والمحاسبي من حيث الممارسة الانتخابية واشراك المواطن في اتخاذ القرار والصلاحيات المرتفعة الواسعة التي ينبغي أن تضطلع بها السلطة التشريعية وأذرعها الرقابية والمحاسبية خطوة أساسية يجب أن تسبق التشريعات والقرارات الخاصة بتنظيم وفرض الضرائب على شركات ومؤسسات القطاع الخاص والأفراد، فهي إلى جانب أنها تهيئ المواطن على تحمل مسئولياته وتقبله المساهمة وتجاوبه برضا مع نسب الضرائب المفروضة، والاقبال على المشاركة في التنمية والاستفادة منها والوعي بأهمية الادخار، فهي كذلك تبصره بأهمية الضرائب في تعزيز الموارد، فما يقلق المواطن الخليجي بشكل عام فيما يتعلق بزيادة الرسوم على الخدمات والتوسع الضريبي على السلع والأرباح والدخل، ليس فقط في آثارها على ارتفاع أسعار البضائع في الأسواق المحلية وتقليص عوائده ودخله واستقطاع جزء منها، ولكن في كيفية ضبط وإدارة أموالها ومدى تحقيقها لأهدافها، خاصة في بلدان ما تزال نسب الفساد فيها مقلقة وأدوات الشفافية ضعيفة وقيم البذخ وهدر المال العام مرتفعة والصلاحيات المناطة بمؤسسات التشريع والرقابة إما أنها غير مكتملة أو ما تزال استشارية ولا يؤخذ بتوصياتها وقراراتها أو تكتنفها تحديات كبيرة وواسعة والمسئولين في الحكومة لا يخضعون للرقابة والمحاسبة وبعضهم تتداخل مصالحهم بين العام والخاص وتثير ثرواتهم التي تتحقق وتنموا في زمن قصير التساؤلات وعدم الاطمئنان من قبل المجتمعات الخليجية، وكلما نمت واتسعت قوة المؤسسات البرلمانية التشريعية والرقابية وأجهزة المحاسبة أدى ذلك إلى تنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة وفق (مبدأي المساواة بين المواطنين ومشاركتهم الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة)، وضمنت في المقابل ممارسة المواطنين لحقهم في مراقبة تنفيذ القوانين بمايصون حقوقهم العامة واحترام حقوق جميع الأطراف، ويوفر بيئة جاذبة ومشجعة للاستثمار الأجنبي. في إحدى زياراتي مع عدد من زملاء العمل لمجلس العموم البريطاني، وعلى ضوء المناقشات مع بعض أعضاء المجلس أوضح أحدهم بأن من أهم مسئوليات العضو، مراقبة الأموال المحصلة من دائرته الانتخابية ومتابعة عمليات صرفها وتوجيه جزء منها لتنمية المنطقة التي يمثلها، ويأتي من بين أهم اختصاصات مجلس العموم البريطاني (تحويل الضرائب إلى راحة ومصلحة الشعب، ومتابعة صرفها)،وأذكر أنني قرأت يوما في أحد الكتب ما معناه( عندما تفرض على الناس ضرائب من دون وجود ممثل برلماني لهم قد يشعرون أحيانا بالظلم وأحيانا قد يثورون حتى). إن الظروف الاقتصادية التي تمر بها دول الخليج، والسياسات المتبعة تجاه تنويع مصادر الدخل وتعزيز الموارد، ومن بينها الاقرارات الضريبية وزيادة الرسوم على الخدمات ورفع الدعم الحكومي عن بعضها...إلخ والتي تستهدف المواطن بشكل مباشر أو غير مباشر تتطلب اجراء اصلاحات تشريعية وإدارية وتطوير وتفعيل العمل المؤسسي البرلماني والمحاسبي وذلك بما يحقق تطلعات المجتمعات الخليجية في المشاركة في اتخاذ القرار وتعزيز قيم الشفافية والمساواة ومحاربة كل أشكال الفساد واجتثاث منابعه والحفاظ على المال العام، هذا جانب ومن جانب آخر فإن إقرار فرض الضرائب وزيادة الرسوم يجب أن يخضع لدراسات متخصصة ودقيقة وحوارات عميقة تشارك فيها جميع المؤسسات ذات العلاقة، تأخذ في الاعتبار وضع السوق ومدى قدرة الشركات على الوفاء بالالتزامات الضريبية خاصة الصغيرة والمتوسطة منها، وتأثيراتها على سياسات تنويع مصادر الدخل وأسعار السلع في السوق ... فما يحدث في هذه المرحلة من فرض لضرائب جديدة وزيادة في قيمة الرسوم أرهق القطاع الخاص وارتفعت الشكاوى في عدد من البلدان الخليجية ومنها السلطنة بالطبع، وأعلنت بعض المشاريع والأعمال والمؤسسات أنها على وشك الإفلاس وأغلقت بعض المحلات التجارية وهو ما يتنافى تماما مع السياسات والخطط والبرامج المعلنة بالعمل على دعم وتشجيع رجال الأعمال وشركات ومؤسسات القطاع الخاص والحرص على تحفيز القطاعات الاقتصادية بشكل عام.