سميحة الحوسنية:
بدأت أناملها المتعبة تهز المنز الخشبي على أوتار صوتها الحنون لينعم طفلها بنومة هادئة، وقد وضعت المحلب على جبينه وخطّاً رفيعاً متصلاً بالكحل العماني على طول حاجبيه وعيناه الصغيرتين (والسركا صالح) نقطة بين حاجبيه ذات المذاق الحامض وما أجمل رائحة البراءة الممزوجة بعطر (مجموع) التي تنبعث من مهاده.
في تلك الغرفة الزاهية تفاصيل جميلة .. فعلى رفوف الروزنة قطع جميلة من الأواني الخزفية والمرشّات العطرية وبعض الأكواب الزجاجية والتي غالباً ما كانت تجلب من دولة الكويت والبحرين.
وعلى الجدار مرآة (جامة) توضح الملامح الشخصية وبها بعض النقوش كالطاؤوس وصورة السلطان سعيد بن تيمور والسلطان قابوس وبعض الكلمات الوطنية.
وفي ذاك المندوس أو في تلك السحارة كل ما يعنى بجمالها ويتعلق بأناقتها الشخصية كأدوات الزينة مثل: الصندل والمحلب والكحل العماني وحل المعذب (زيت للشعر والجسم) والحنا والسدر وبعض العطور الخنينة مثل عطر التيروز وعطر رامس وعطر أبوجون وبيبي متوه والكلونيا كأسماء متعارف بها، والبخور العماني الذي تتفنن بصنعه النساء في البيت وتلك المجموعة العطرية مازال البعض يحرص على اقتنائها وتذكر في أحاديث النساء لجودتها وعبقها المتميز، بالإضافه إلى بعض الملابس والأقمشة والحلي والأساور والقلائد الذهبية والفضية واكسسوارات الماو وبعض الكماليات.
فما أجمل ثوبها التقليدي البسيط الذي تتخله بعض الرسومات والمزدان بالزري والتلي والشيلة السوداء والملونه ذات الاطراف الصوفية وقد تمازجت الألون مع بعضها بدقة لتشكل قطعة فنية تزيد من يرتديها جمالا.
فما اروع الحكايا والقصص الواقعية التي حدثت في ذاك الزمن البعيد والذي اثبتت فيه النساء قدراتهن ع صنع المستحيل والتحلي بالصبر لمواجهة مصاعب الحياة.
فمنذ الصباح الباكر تذهب النساء إلى الروي أي جلب الماء لتوفير مايحتاجه افراد البيت خلال اليوم او اليومين سواء كان لشرب او لطبخ او لغسيل الملابس او للأستحمام لم تكن المسافه قريبه التي كن يقطعنها مشيا على الأقدام في ايام القيظ الحارة والشتاء الباردة ولكن كان لتجمعهن عند البدي ( الطوي ) مذاق أخر وهن يحملن جرة الماء (الهاندوه )على رؤسهن وأيديهن وهكذا هو الحال في جمع الحطب تلك الانامل الناعمة كم كافحت منذ طفولتها حتى اصبحت خشونتها دليل اخلاص واعتزاز.
وفي فصل الصيف تشمر عن ساعديها تساعد زوجها في النخل او العابيه فتراها في مواسم الحصاد كجني التمور والمحاصيل الأخرى تطحن حبوبها بالرحى و تعمل بجد مع أفراد عائلتها صبحا ومساء.
في زمن الستينات والسبعينات كانت الأيام قاسية مفعمة بلحظات الرحيل فكثير من النساء كنا يواجهن الحياة بمفردهن صابرات على صروف الدهر واوجاعه فمعظم البيوت حينذاك كان عميد أسرتها او احد افرادها له موعد مع الأسفار للبحث عن لقمة العيش وتوفير الحياة الكريمه لأسرته فكانت النساء تقوم بجميع الأدوار من تربيه الأطفال وتوفير احتياجاتهم المعيشية والحفاظ على الأسرة إلى جانب تربيه الاغنام والابقار والدواجن وبيع منتجاتها لتساهم في تلبيه بعض الاحتياجات الضروريه ورفع المستوى المعيشي حتى يعود ازواجهن من الكويت و البحرين والدول الخليجيه والاخرى كالهند وزنجبار...الخ محملين بالهدايا والشوق لعوائلهم بعد رحلة غياب دامت سنوات واجهوا من خلالها الكثير من اهوال البحر والعمل الشاق في غربة قاسية ليعودوا بعد سنوات من الانتظار.
وهناك الكثير من النماذج المشرفة للمرأه العمانية التي سعت إلى تربية أيتامها والإعتناء بكبار السن في بيتها في زمن كانت الحياة فيه بسيطة والامكانيات محدودة كان عطاؤها ملموساً حملت الحطب على رأسها وباعت خبزها وما تصنعه أناملها لتوفر ما يعينها على الحياة وأفرادها.
ففي عمق البحر أسرار وحكايات كثيرة عاشت أحداثها الكثير من الأسر بين عيون تترقب الآتي ووجع طال مدته في ليالي الانتظار ودموعاً ذرفتها أمهاتنا وجداتنا من ألم الفراق.
فعندما تأتي البشارة بوصول رسالة أو مكتوب أو اتصال في بعض البيوت التي يوجد بها هاتف وهي قلة، للإطمئنان عليهن وعلى أحوال الاسرة والبلاد كانت الفرحة تعم جميع أهل القرية.
خالتي الحاجة فاطمة (أم سالم) التي ودعت زوجها وهو ذاهب إلى قلب البحر وغموضه مليئ بالأمنيات ليتحطم المحمل قي قاع البحر ويهلك الكثير (زمن الطبعة) .. تاركاً أطفالاً صغاراً، ولتختم العاصفة نهاية انتظار الكثير من النساء على سيف الوداع فارتدن سواد الحداد .. كانت من السنوات المحزنة .. وكم اعتصر الألم قلوبهن لتبقى ذكرياتهم حاضرة وصورهم معلقة على الجدار طول الحياة.
الحاجة المرحومة زكية بركة المنزل .. أم للجميع وصاحبة القلب الحنون والأيادي البيضاء والتي يجتمع في بيتها الكثير من الاهل والجيران .. فما أجمل حديثها المترف عن قصص الأمس وألمامها بكل جديد وطيب كلماتها في الترحيب.
فما أروعكن من نساء صابرات مأجورات في فقد الذرية والأهل والأحباب في زمن انتشرت فيه الأمراض المعدية كالحصبة والجدري والسل والكوليرا .. وغيرها من الأوبئة التي حصدت أرواحاً كثيرة .. نساءً ورجالاً وأطفال في عمر الزهور .. حيث لم تكن الخدمات الصحية متوفرة ـ حينذاك ـ فكان المرضى يقصدون العاصمة (مسقط) لتلقي العلاج في عيادة (طومس وخاتون) وأصبح فيما بعد (مستشفى الرحمة) .. فكم كان الطريق شاقّاً ومتعباً .. شهد الكثير من قصص الألم والوجع .. فكيف هو الحال عند ألم الولادة أيضاً .. هكذا كانت جداتنا وأمهاتنا الصابرات على الألم حتى ترى الأجيال النور.
في ذاك الزمن الجميل كان معظم جيراننا يعملون في دول الخليج فتتعاون النساء كأسرة واحدة تسودها المحبة والألفة .. وكان الجار سنداً لجاره في كل أمور الحياة .. يقتسّمون اللقمة، فهم كالجسد الواحد في الفرح والترح فتجد الجاره تسهر على مرض ابن جارتها وتحفه بالعناية والرعاية .. فما اجمل تلك الجيرة.
يتباهى بهن زمانهن وقد رصعت حياتهن بالكثير من قصص الكفاح والصبر .. نساءٌ واجهن الحياة بكل تفاصيلها في السهل والوادي وعلى ساحل البحر .. فكانت المرأه تساهم بشكل كبير، وجاء عصر النهضة لتشمر عن ساعد الجد بكل المعطيات لتكون عطاءً بلا حدود ولتنعم بعد تلك الشدة بحياة طيبة في ظل نهضة شاملة وعناية أبوية لتحيا حياة كريمة تليق بها فهي مجتمع بأسره وقلباً نابضاً بالتضحية والحياة.

* مراسلة (الوطن) في ولاية الخابورة