الخرطوم ـ أحمد حنقهلقد أصبح التراث السوداني تراثاً عالمياً ، وفي المتحف البريطاني حالياً توجد من هذا التراث مخطوطات اسلامية نادرة ، كما يوجد سيف السلطان علي دينار مؤسس الدولة الاسلامية المعروفة في دار فور بغرب السودان ، وهناك متحف متنقل يحمل التراث السوداني الي العالم ، وقد طاف حتي الآن بفرنسا وألمانيا وهولندا. وهذا التراث يذخر بالكثير ، وفي كل المجالات ولذلك لا غرابة أن يكون لفرقة الفنون الشعبية السودانية صيت واسع في الوطن العربي وخاصة في منطقة الخليج العربي .وفي مجال الفنون يتسم التراث الشعبي السوداني بغنى بالغ نتيجة للتنوع الكبير في كافة المجالات ، وتحتل الموسيقي مكاناً مرموقاً في هذه الفنون ، وتعتبر آلة (الدلوكة) الايقاعية من أهم الآلات الموسيقية في التراث السوداني .وقد عرفت هذه الآلة (الدلوكة) في عهد سلطنة دارفور التي أشرنا اليها ، والتي تأسست في القرن الثاني عشر الهجري ، وكانت تضرب في المناسبات والأعياد ، ثم انتقلت الي أوساط السودان في عهد سلطنة الفونج ، وكان يقوم بالضرب عليها ثلاثة من النساء ، الأولى هي المغنية والتي تضرب على الطبل الكبير والأخريان يضربان علي طبلين صغيرين ولكنهما من فصيلة الطبل الكبير الذي يوضع تحت الأبط الأيسر لحاملته. والدلوكة في شكلها عبارة عن آلة تصنع من الفخار في شكل اسطواني يبلغ ارتفاعه ثمانية وأربعين سنتمترا وتخرط من الوسط الى أن تستقيم مع الفتحة السفلى التي يبلغ قطرها أربعة وعشرين سنتيمتراً ، وتوجد في جوانبها فتحات صغيرة لتضخيم الصوت. وتجلد فتحة الدلوكة العليا بطبقة من جلد الماعز لقلة كثافته ومرونته في الأداء ، ويثبت الجلد بالملصقات ويزين بالألوان والأصبغة وأحياناً بالحناء .واستخدمت الدلوكة في الأفراح من بداية منتصف العقد الأول من القرن الحالي ، لمصاحبة غناء (التم تم) الثلاثي الايقاع والذي اختصت بأدائه النساء والاسم (تم تم ) يرجع الي توأمين اشتهرتا بأداء هذا الضرب من الغناء في مدينة كوستي (وسط السودان) وانتقلت منها هذه الايقاعات الي بقية أرجاء السودان وتصاحب ايقاعات الدلوكة الأغنية الخفيفة التي تعرف (الكسرة) والأغنية الطويلة على السواء .وعند أداء التم تم تجلس المغنية على بساط من السعف مفروش على الأرض ، وفي هذه الحالة توضع الدلوكة على الفخذ الأيسر ، وتحتضن المغنية هيكلها الفخاري بيدها اليسري وتضرب عليها بأصابع اليدين معاً عند الغناء . وقد تغنت بالدلوكة مجموعة من المطربات الشهيرات ، وأغاني الدلوكة في بيوت الأفراح تجسد معانيها الأغراض العاطفية المعروفة التي تطرقها الأغاني في كل زمان ومكان ، ولكن أغاني (السيرة) تقتصر على شعر الحماسة الذي يشحذ الهمم .و(السيرة) هي موكب يتم بعد اكتمال مراسم الزواج أو ختان الذكور ، حيث يكون (العريس) أو الطفل المختون في كامل زينة السيرة ، وهي الجلباب السوداني التقليدي ، والطاقية والعمامة والحذاء الجلدي المعروف باسم (المركوب) والسيف ، ويكون (العريس) مخضوب اليدين والرجلين بالحناء ، وتغطي رأسه طبقة من العطر الجاف النفاذ الرائحة تسمي (الضريرة) ، ويلتف حول رأسه شريط يتوسطه هلال من الذهب الخالص ، وتتدلي من عنقه مسبحة طويلة تسمي بمسبحة (اليسر) وحباتها خليط من العقيق والخشب العطري ، والعريس يسير في المقدمة ويهز سيفه يمنة ويسرة في زهو .وفي حالة السيرة تحمل احداهن الدلوكة على إحدى كتفيها وتكون الفتحة المغطاة بالجلد متجهة الى الخلف حيث تسير المغنية وهي تضرب عليها عند الأداء ، وخلفها اثنتان تضربان على الطبلين الصغيرين ، ويكون ايقاع (السيرة) قوياً لان الأغاني كما أشرنا تقتصر هنا على أغاني الحماسة ، ومن أكثرها شيوعاً الأغنية التي مطلعها :عريسنا ورد البحر .. العديلهوقطع جرايد النخل .. العديلهوالمعنى ان عريسنا في طريقه الى البحر – وفي السودان تطلق كلمة البحر علي النهر – لقطع جريد النخل .. أما كلمة (العديلة) فتعني أن المغنيات يتمنين الخير للعريس والمستقبل الزاهر له .. والذهاب الى النهر – النيل أوغيره ، أو أي منهل مائي – هو تقليد يرجع بأصوله الى زمن سحيق من تاريخ السودان ، والقصد منه التبرك ، أما قطع جريد النخل – وليس بالضرورة أن يكون الشجر نخلاً – فالقصد منه أن يكون فألاً حسنا بأن مستقبل العريس سوف يكون دائم الخيرات والرزق الوفير . وما زالت الدلوكة تحتل مكانتها المرموقة في الريف السوداني ، وبدأت تنحسر في المدن حيث حلت الآلات الحديثة محلها . وهذه هي سنة الحياة .