في آية الإسراء بدأت بلفظة:(سبحان) التي تفيد ثبوت المعجزة واستمرارهاد/ جمال عبد العزيز أحمد*القرآن كله معجز، معجز في حروفه وحركاته، وفي ألفاظه وكلماته، وفي جمله وعباراته، لا يشبع منه العلماء، ولا يخلَق على كثرة الرد، وكلما اقتربت منه، وأجللته اغترفت، وأعطاك بقدر قربك منه، وعلى وفق حبك له والتزامك به، ومعايشتك لمعطياته ، وعطاؤه لا ينفد، وبحره زخار، وهو في دلالاته ومعانيه على الزمن مَوَّار دَوَّار.وفي آية الإسراء التي يقول الله عزوجل فيها:(سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)، حيث بدأت تلك الآية الكريمة بلفظة:(سبحان) التي تفيد ثبوت المعجزة واستمرارها لأن الاسم وضع لإفادة الثبوت والاستمرار، ولكن الفعل وضع لإفادة التغير والحدوث، ولما كانت معجزة الإسراء قد تمَّت وحدثت، وعاشها الناس، ورأوها بأم أعينهم أمستْ من المسلَّمات، والأمور المقررة في قلب، وعقل، وحس، ووَعْي المسلم، وهذا اللفظ:(سبحان) عَلَمٌ على التسبيح والتنزيه، وهو ممنوع من الصرف لكونه عَلَمًا مختوما بالألف والنون (هذا الحكم لو كان اللفظ غير مضاف)، كما أنه يفيد المبالغة، واعتلاء قمة الإعجاز، وتعجب ممَّا حدث، وهو كناية عن طلاقة القدرة، في أن يُسْرِيَ الله بعبد من عباده آلاف الآلاف من الكيلو مترات، ويُعِيده في لحظات إلى مكانه، حتى إنهم ذكروا أنَّ موضع نومه لم يزل ساخنًا كأنما تركه لِتَوِّه، وعاد إليه سريعاً، وراحة العرب يومها في ذهول تام، حيث قالوا لأبي بكر ـ رضي الله عنه: إن صاحبك يزعم أنه قد أتى بيت المقدس، وعاد في لحظات، وإننا لنقطع إليه أكباد الإبل شهراً، هم مُحِقُّون مع أنفسهم، لكنهم لو ربطوه بالقدرة الإلهية، وقدسوا ربَّهم، و نزَّهوه عن علاج الأمور، وأن فعله يكون بقوله:(كن) لما توقَّفوا لحظات في قبول الحادث، ولصدَّقوه بكلِّ تسليم وإيمان.وجاء المضاف إليه (وهو اسم الموصول الذي)، وحذف الموصوف، وهو (لفظ الجلالة) إذ الأصل:(سبحان الله الذي أسرى بعبده)، ففيه مجاز بالحذف، وحُذِف المضاف إليه الموصوف للعلم به، والتيقن في معرفته، كما في نحو:(خُلِقَ الإنسانُ من عجل)، ونحو:(وفُتِحَتِ السماءُ فكانت أبواباً، وسُيِّرَتِ الجبالُ فكانت سرابا)، وقد حذف المضاف إليه وأقيمت الصفة مقامه تقديرًا لإيمان المسلم، وإعلاءً من شأن اعتقاده، وعلمه بأن الله وحده لا شريك له هو القادر على الإسراء بعبده في جزء من الليل كلَّ هذه المسافات الجسام، والعود به في فترة زمنية يسيرة، فلما كان ذلك، وكان العلم به عند المسلم حاصلاً ومحققاً، لا ينفك عنه، وحُذِفَ المضاف إليه الموصوف، وأقيم الوصف مكانه، وجاءت العلة بالفعل الماضي (أسرى بعبده)، وهي تدل على انتهاء المهمة على خير، وأن القلب قد استراح واستقر بحدوثها، وأمست عندنا كمسلمين يعترفون ويقرون لربهم بكامل القدسية، وتام الهيمنة والألوهية، والفعل (وأسرى) يعني أنه أقدر غيره على السُّرَى، وهو غير الفعل الثلاثي:(سرى) بمعنى: مشى ليلاً بنفسه، فالذين أنكروا على النبي (صلى الله عليه وسلم) ليس معهم حق لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم ينسب الفعل إلى نفسه، فلم يقل:(سَرَيْتُ)، وإنما أسنده الله إلى ذاته العلية، فلا محل لنقاش، ولا موضع لتفكير، ولا مدخل لنقد أو شك، فالله تعالى أسند الفعل إلى ذاته المقدسة، فقال:(سبحان الذي أسرى)، أي أسرى هو، بمعنى أنه هو سبحانه الذي قضى بالمعجزة وبحصولها، وقام بها بذاتها العلية، والباء في (بعبده) تفيد المعية، وفيه كناية عن شرف الصحبة، وسُمُوِّ السُّرَى، وكلمة (عبده) في هذا المقام هو كناية عن كمال التشريف، فالعبودية شرف، وكلما ازداد العبد سجوداً وخشوعاً زاد رفعة وقدرا، فتمام العزة في كمال الذلة، والإضافة في (عبده) كذلك للتشريف، أي عبدٌ له، وهي منزلة قلما يرقى إليها إنسان، ويأخذ وصف ربه له بشر، بأنه قد حقق العبودية التامة، له ـ سبحانه ـ فهي كناية عن مكانته عند ربه، وقربه من مولاه واصطفائه واجتبائه إياه.كما أن فيها كناية أخرى عن الحب والحدب، والرعاية والعناية، والقرب والود، فهو يتابعه ويسرى به، ويصحبه، ويصفه بكمال العبودية، و تمام الافتقار، أي أنه حقق ما تصبو إليه كلُّ نفس شريفة، خاضعة، خاشعة، دامعة بين يدى ربها، ساجدة، طامحة في أن تنال القرب بالسجود، والرضا من الواحد المعبود، وكل الآية كناية عن قدسية الرحلة، وامتلاك الله وكمال قيوميته على ملكوت السموات والأرض، وإيمانية الحادثة، وشرف ونبل غاياتها، ولفظة (ليلاً) توحي بقِصَر المدة الزمنية، ففيها كناية عن القدرة الإلهية غير المتصوَّرة، والتنكير في هذا الظرف (ليلاً) يشعر إضافة إلى أنه زمن يسير أنه يغشاه الهدوء وتحوطه الإيمانيات، ويملؤه صفاء الذات، ونقاء الروح، والليلُ ـ عند أهل الله الخاشعين المخبتين ـ هو زمان ووقت العابدين، وكنز الساجدين، وأوان الخاشعين المحبين، ووقت الاختلاء بالمحبوب، والبكاء بين يديه، والخشوع لقدسيته، فهو وقت الروح والراحة، وزمن التفكر والهدوء، وهو محل صدق العبادة وبيان إخلاص العبد لله، حيث يقوم لربه حين ينام الناس، وينصب قدميه قائما بين يدى مولاه على حين يطويها آخرون، وهم في نومهم يغطُّون، وتصدر الأصوات من أنوفهم، فهم غارقون في النعاس، في الوقت الذي تدمع فيه عيونُ آخرين، وتنسدل الدموع سحَّاحة على الخدود عند غيرهم، تبلّل دموعهم لحاهم، وصدورهم، وتسمع لصدورهم أنين، ولهذه الصدور أزيزٌ كأزيز المِرْجَل؛ خوفا ووجلا من سؤال الله، وهي واقفة تصطك من تخيُّل عَرَصات القيامة، والجميع مهطعون إلى الداعي يقولون:(هذا يوم عسر)، أما أهل الله المحبون لجلاله، الباكون في محرابه، فيقول الواحد منهم فرحا مستبشراً:(هاؤم اقرؤوا كتابيه، إني ظننت أني مُلاقٍ حسابيه)، ولفظة (ليلاً) تدلي بكل هاتيك المعاني، وتنهض لكل تلك الدلالات حدوث الزمن، وأوضحت طلاقة القدرة وصفاء الأجواء، وروحانية المشهد، وإيمانية الغاية، وجلال الصحبة، وكمال الهدف، وتخفيف الحمل، والربط على الكتف، ومحو الآلام التي حدثت له (صلى الله عليه وسلم) في مكة والطائف، وقوله:(من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) فيه كناية عن كونها رحلة عبادة، وسفر طاعة، فقد انتقل من مكان طاهر إلى مكان طاهر، وكلمة (من) تفيد ابتداء الغاية المكانية، وكلمة (إلى) تفيد انتهاء الغاية المكانية، وما بينهما هو إرث للمسلمين، وهو إعلان وراثة المسجدين، ودخولهما ضمن حوزة المسلمين وممتلكاتهم إلى يوم الدين، ووصف المسجد بـ(الحرام)، وهذه الصفة هي مصدر يفيد الثبات والاستمرار، فحرمته مستمرة إلى يوم الدين، قال تعالى:(ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب السَّعير)، ففي التعبير بالمصدر أكَّد على الحرمة، وثبوتها، وأزليتها من الفعل.في هذه الآية تحديدٌ مكانيٌّ، سبقه تحديدٌ زمانيٌّ، وهو يعلمنا أنه في أيِّ عمل مَّا لا بد أن يكون محدَّدًا بأُطُرٍ زمنية ومكانية، وله أهداف سامية، وغايات راقية، وقوله:(الذي باركنا حوله) منتهي الإعجاز، حيث لم يقل: (باركناه) حتى تعم البركة المسجد، وما حوله، وتشمل المكان وما حواليه، والفاعل هو الله عز وجل، و(نا) الدالة على الفاعل تعود على الله تعالى وإذا بارك الله شيئاً فلا يمكن لكائن مَنْ كان أن يمحوَ بركته، ففيه كناية عن عظمة البركة واتساعها واستمرارها، كما أن استعمال الماضي (بارك) يدل على التحقيق، والظرف (حوله) يدل على أن بركة المسجد ليست مقصورة عليه، وعلى ما بداخله، وإنما يمتد أثرها حواليه، وهو الحاصل في الواقع، والمرئي على الأرض، لا يستطيع أحد إنكاره، ويدل كذلك على كمال العناية، وتمام الرعاية، واستمرار العطاء الإلهي إلى يوم الدين، والضمير في (حوله) عائد على المسجد الأقصى الذي هو أقرب مذكور، ثم تختم الآية ببيان الهدف، وتحديد الغاية الكبرى التي حدث لها الإسراء والمعراج، وهو قوله تعالى:(لنريه من آياتنا) اللام هنا للتعليل، وبيان الغرض والهدف من السُّرَى، و(نريه) (بضم النُّون) من الفعل الرباعي:(أرى) الذي يدل على كمال العناية، والرعاية وتمام الحنان والحدب برسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) حيث تولى الله تعالى بذاته القدسية إراءته كلَّ المرائي والآيات التي شرحتْ له الحياة كلَّها، وما فيها من أحكام وقيم وابتلاءات وغرور، وحذرت من الدنيا وزينتها، وخِدَاعها من خلال ما بيَّنتْه المرائي المشروحةُ في كتب السيرة وكتب التفاسير مما تقف معه النفس المؤمنة موقفًا واضحًا من الحياة ومجرياتها، طاعة وجهادًا، وحرصًا على الطاعة، وحذرًا من المعصية، والبعد عن الله، وتحذيرًا من خطورة الكلمة، وأكل أموال الناس بالباطل، وأكل أموال اليتامى، والتحذير من العواصف الهوج من أهل المِلَل والنِّحَل الأخرى الذين يريدون لهذا الدين أن يغيب عن الحياة، وكذلك وضحت الآيات والمرائي خطورة الكلمة، وخطورة الزنا في المجتمعات، وثواب الجهاد والمجاهدين في سبيل الله، ويمكن الرجوع لكل تلك الآيات والمرائي في محلها من كتب السيرة، وكتب التفسير، و(من) تفيد التبعيض، أي: لنريه بعضًا من آيَاتِنَا، والإضافة (نا) تفيد التشريف، وجمع (الآيات) لبيان استيعابها لمجريات الوجود كله، وشؤون الحياة ومتطلبات الأحياء جميعا، ثم جاء التذييل الدقيق:(إنه هو السميع البصير)، وهو أسلوب توكيد ورد فيه أكثرُ من مؤكد حيث توجد فيه:(إِنَّ)، وضمير الفصل (هو)، واستعمال الجملة الاسمية تأكيداً على خطورة الحدث، وبيان قيومية الله، وسمعه، ورؤيته لكلِّ ما يحيط برسوله وأمته، وقوله:(السميع والبصير) هما صفتان مشبَّهتان ومعرَّفتان، تفيدان أزلية وجودهما لله بكامل قدسيتهما، وقدم السمع لاستيعاب كلِّ مسموع، والمرء يسمع أصواتاً كثيرة، لكنه يرى ما أمامه فقط، والله تعالى يسمع كل شئ حتى ما ليس له صوتٌ مسموع، ويرى كلَّ ما يحدث في كونه، ويعلمه قبل حدوثه، وهو يواسي حبيبه (صلى الله عليه وسلم) بأنه مسموعٌ مرئيٌّ، مشمولٌ بالعناية، محوطٌ بالرعاية، غيرُ متروك أبدًا، محفوفٌ بكل عون، ورعاية، وكما رأينا أن هذه الآية الكريمة قد حدَّدت الحدثَ الكبير، ومن قام به، ومَنْ فُعِلَ لأجله، والغاية منه، وزمانه، ومكانه، فَوَقَفَتْنا على كيفية التخطيط لكلِّ أمرٍ، ووَضْعِ أُطُرِ نجاحه زماناً ومكاناً، وأهدافًا وغاياتٍ، كما وَقَفَتْنَا على جلال القدرة، وعظمة القيومية، ومكانة الرسول الكريم عند ربه، ومقام العبودية الذي حققه، ووصل إليه، وتشريف الأمة بحصول الإسراء فيها، وليس في غيرها من الأمم السابقة، نسأل الله أن يكرمنا بعبوديته، وحسن طاعته، والحفاظ على مسرى رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) والذود عن حياضه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة[email protected]