سميحة الحوسنية:استيقضت قريتي من نومها لتشهد الوداع الأخير لتلك المنازل التي كان لها موعدا مع الرحيل (الواسط) ذات الملامح الجميله حسناء فمن يشبهها في وجهها سيماء الحنان والطيبه حضن ارتمى فيه الكثيرون فكانت درة ثمينه ترابها زعفران لاتضاهيها جواهر الكون.هاهي معشوقتي تلوح بحرقة مودعة الوجوه العابسة الحزينة لذلك الفراق الأبدي .. فكيف لاتذرف دموعنا على فراقك ياقريتي ..منذ الصباح الباكر وفي مشهد حزين بدأت قريتي تتحول منازلها الى أكوام تسقط أسقفها وتنهار جدرانها التي طالما كانت أماناً ودفئاً لقاطنيها .. عم الصمت أرجاءالمكان .. وبدأت أمواج البحر بصوتها المبحوح تبكي على سيف الوداع ولوح طائر النورس بجناحيه مودعاً ذكريات المكان.وداعاً قريتي من منا لم توجعه تلك اللحظات القاسية ونحن نقف على الاطلال صغاراً وكباراً نودع ملامحها الجميلة منازلها البسيطة المطلة على البحر وذكريات عطرة تتأرجح أمام أعيننا سنوات منصرمة في احضانها طفولة نقشت على رمال شاطئها الملتهب بالحنين قصة الصياد والبحر وصوت تلاطم الأمواج بالقوارب أصوات الماره في طريقهم إلى السوق القديم طيبة اهلها وحسن معاملتهم وطيب جيرتهم، فالجار عمي والجارة أم وخالة وعمة وجدة.قبل الغروب كان العم أحمد القلاف يقف أمام أكوام منزله تخنقه العبره تارة ينظر إلى البحر .. وتارة أخرى ينظر إلى منزله يعيد ذكرياته أيام شبابه .. وصباه وعمره الذي قضاه في ذاك البيت وكان يمسك في يده (مسباح) يقوي بذكر الله قلبه الحزين تناديه الحاجة مريم بنت محمد وهي تجلس بالقرب من بيذامة منزل الحاجة كاذية وقد تناثرت أوراقها أما أكوام بيت الحاجة شمسة(أحمد لقد هدم بيت أم العيال) لحظات صعبة قرآتها في تعابير وجههم وقد اغرورقت عيناهم بالدموع تسترجع لطيفة معهم بعض الذكريات .. يالله ياذاك الزمان .. لويرجع لحظة.كنا صغاراً نسابق الريح في خطاوينا نلعب على الشاطئ نرسم أحلاماً وأياماً وردية بمجسمات من الرمال، فالأصداف جواهرنا فايزه اللواتية ونعيمه راشد وفاطمة أحمد وزكية محمد ونعيمة سعيد ومريم خلفان ورحمة مسعود وهدى محمد واخواتهن وأسماء راشد وفاطمة خلفان وطاهرة راشد وشريفة بلال ونجوى وحميدة وأمل.في هذه السكة التي تقع بين بيت المرحومة زوينة بنت سعيد والمرحومة موزة بنت سالم كانت تجتمع الكثير من النساء يتبادلن أطراف الحديث بضحكاتهن وجمال حديثهن دلة الشاي والقهوة والفواله وهاهي المرحومة شريفة بنت ناصر تأتي وهي تحمل الجريدة عندما تكون هناك أخبار مهمة.وهناك رجال يلعبون الحواليس في حلقات ويشربون الشاي الأحمر (السليماني)..عطر الورد (تيروز) رائحة تحملها نسمات البحر .. إنه المرحوم أبو نواس في طريقة إلى المسجد ..ما أحلى تجمعنا صغاراً لمشاهدة المسلسل الكرتوني (سالي) بيت أختنا دلال وهي تقدم لنا الشاي مع بسكويت (ماري).ومن أكلات الطيبين لا أنسى المذاق الطيب والطعم اللذيد الذي كانت تعده المرحومة الحاجة زينب، حيث كانت تبيع (البكوراه) والكل يتذكرها من جيل السبعينيات والثمانينيات حيث يكتض منزلها في فترة المغرب صغاراً وكباراً نجتمع في باحة منزلها وهي (بكوراه) رائعة المذاق تبدع في إعدادها ولايختلف عليها اثنان.(الماهوه) أو الماوه ـ كما كنا نسميها ـ نوع من الحلويات التي تتفنن في إعدادها الحاجة زينب (ام عبدالله) .. كنا نشتري منها (الماوه) في أكياس صغيرة لنأكلها في وقت العصر ..(الأيس كريم) الذي تصنعه في المنزل المرحومة الجدة زوينة و(الكامي) المثلج على شكل دوائر تضعه في اكياس وعليه (شطة) إلى جانب باقة متنوعة من (المينو) والحلويات والبسكويت .. الى غيره .. وكانت تنادينا بأسماء مضحكة من باب الدعابة نضحك معها والجدة حليمة أيضاً كانت تبيع المواد الغذائية المتنوعة في بيتها مثل الحلويات والعصائر وعصير (أهلا) المثلج والمبرد والذي نشتريه في فصل الصيف كثيراً و(البطاطس) بأنواعه والحلويات وكانت تعطينا بعض (العلوك) زيادة كهدية لنفرح بها.الحاج المرحوم ـ بإذن الله ـ محمد ود ربيع هكذا ينادوه يصنع بعض السعفيات الجميلة في منزله ليشتريها الجيران ويستفيد منها أصحاب النخيل ..المرحوم ـ بإذن الله ـ العم بلال ومكتبته المنزلية المليئة بالكراسات ذات الغلاف الكرتوني .. فما أزكى رائحة الأوراق الجديدة والأقلام واللوازم المدرسية قبل بدء العام الدراسي نذهب إليه لشراء مستلزمات الدراسة.لقد كان لتجمع الجارات مع والدتي المرحومة زليخة مذاق آخر .. فما اروع تلك الجيره الحاجة موزة بنت جمعة والمرحومة عمتي جوخة والجدة حليمة والمرحومات ـ بإذن الله ـ الحاجة عائشة وحليمة وسعاد وعلياء ..والأخت عائشة وآمنة سالم والحاجة آمنة وسميره خلفان ومحفوظة ومريم أطال الله في عمرهن.تغيرت خارطة المكان واختفت المنازل التي غادرتها أجمل الأرواح ولكن ستظل تلك المعالم واضحة في ذاكرتنا .. فمهما بلغ حجم الأكوام الاسمنية ستظل مرسومة وكأنها في ذات المكان ..كان يامكان وأسدل الستار على قصة الأمس بيوتنا .. وجيراننا .. وأهلنا .. أصواتهم وضحكاتهم افراحهم وأتراحهم ليبقى عطر من رائحة الطيبين نشم شذاه كلما هاج الحنين في الذاكرة.أهل حارتي الكرام لاتهجروا البحر وضعوا بصماتكم على شاطئه كي تعلم أجيالكم قصة وفائكم وليكن قبلتكم .. فالبحر يحتفظ برائحة الزمن الجميل وستفوح مع أمواجه كلما هبَّ النسيم في ليالي قمرية..ستبقى القصص والحكايات نرويها وسيظل ذاك الزمن الجميل خالداً ومحفوراً في ذاكرتنا..رحم الله تلك الأرواح التي أوصدت أبوابها للأبد.* مراسلة (الوطن) بولاية الخابورة