سبرت اغوارها : جميلة الجهورية :لم أتوقع أن وجهتي التي كانت لأداء واجب العزاء في ولاية العوابي قد يتخللها رحلة مباغتة في لحظة غير مخطط لها، ولم تعبر في ذهني حدود "بيت العزاء" ، رغم جماليات الجو الذي تكسوه السحاب ويبشر بطقس ماطر، يستحق بعض المغامرة، والاستمتاع بجمال الطبيعة واكتشاف حياة القرى التي تتناثر على طول خط جنوب الباطنة، بل وتحتضنها ولاية العوابي بين جبالها الشاهقة وأوديتها الرحبة التي تمتد إليها شرايين بلادي بشبكات الطرق التي تشهد نموا بالولاية.لكن العرض جاءني في جلسة تسترسل كلمات الرحمة والغفران لأمواتنا وأموات المسلمين والربت على قلوب شقتها لحظة الفقد .. فهل كنت أرفضها لأني فقط غير مستعدة ؟! وهي تأتيني كترحيبٍ حميم من أهل بيت العزاء الذي يتوسط واحات النخيل ، ويبدي ما حوله يضج بالحياة بل ويدعوني لمصافحته بجميع حواسي.نعم ورغم انحراجي منهم ، قبلتُ العرض"حبا وكرامة" في أم ناصر الخروصية التي وجهت ابنتها رؤى وابنة أختها شيماء أن يصطحباني في جولة لقرى الولاية الهادئة ظهر ذلك اليوم.دروب وادي بني خروص الساعة 12 ظهرا انطلقت رحلتنا تحت "النفاف" الرذاذ الخفيف والتي بدأت ببعض إنجاز المهام والالتزامات الاجتماعية ثم التوغل بمركبتنا ذات الدفع الرباعي في دروب وادي بني خروص بعد إلقاء التحية على حصن العوابي بوابة الوادي وحارسه ، والذي كان قد تعرض مؤخرا لأعمال عبث طالت بعض مقتنياته، ليبقى رغم ذلك يتمتع بحصانته وقوته التاريخية ومعلما شامخا يأبى الخنوع للزمن والعبث.أخبرتني شيماء عن القرى التي سنمر عليها ونتوقف عند بعضها لضيق الوقت، وتمتد على جنبات الوادي الذي يصل لمسافة 24 كيلومترا ويضم كلا من قرى الهجير وستال ومسفاة الهطاطلة وصنيبع وشوه وثقب والهجار ومسفاة الشريقيين وبدي والطيختين وحدس والهودنية وظاهر سقطرى والمرخ وصنعاء وعين كرفس والمحصنة والعلياء وتوابعها صقر وسحكون والدار وغيرها من القرى التي يحتضنها الوادي وأخرى تطالعه بشموخ النخلة من أعلى سفوح الجبال التي تتحدث عن علاقة متينة وصلبة بين السكان والطبيعة ، والحياة التي تشق أنفاسها على دروب تجمعها جبال الحجر الغربي وتعانق فيها قرى جنوب الباطنة ، وقرى الداخلية، عبر مسارات جبال عمان القديمة "دروب التواصل والبقاء".تحدثني شيماء ورؤى عن علاقة الإنسان بالجبال والمشي الطويل واللياقة البدنية التي يتمتع بها السكان والنساء في حضرة الطبيعة الوعرة وتقول شيماء بفخر : خلف هذه الجبال هناك الجبل الأخضر والواحات الخضراء والمدرجات الزراعية والحياة والثروات الطبيعية التي تجمع سكان المحافظتين. قرية الامام الذي ترجى فضائله نصل إلى قرية ستال وخطب الجمعة تعلو الجوامع ، وبعد مرورنا على عدد من المدارس ومستشفى وادي بني خروص ننزل في منطقة يطلق عليها "الغراق" التي كان يكثر فيها المياه وتقصد النساء أفلاجها ومازالت حيث عرفت الغراقة أنها نظام مياه تقليدي لانتقال وحركة المياه من منطقة لأخرى.كانت المنطقة تقع بين كتلتين صخريتين يشقها الوادي وتشقها الطرق الممتدة إلى باقي الطرق وترى البيوت الحديثة تعانق البيوت القديمة التي اندثر كثيرها وبعضها عاصر النهضة .. كل شيء يتلبس الماضي ويعيش عنفوانه.كانت الرحلة في بدايتها حيث وصاية أم ناصر أن تكون الوجهة الرئيسية هي زيارة قرية " الهجار " تلك التي تحتفظ بمكانتها التاريخية والعلمية، وعندما نتحدث عن المكانة العلمية فالتاريخ في العوابي لا يتنكر لأمجاده وما سطرته صفحاته على أيدي نجبائه من الأئمة والعلماء، وكيف يتنكر ؟! وشعار ولاية العوابي الكتاب والمحبرة والقلم لمكانتها العلمية ودورها الحضاري والتاريخي.وحيث ودعنا "ستال" قرية الإمام الذي ترجى فضائله ، ابن الكرام وابن السادة النجب ، الإمام الذي استنجدته الزهراء السقطرية بأبيات أشعلت ضميره وخرج بجيشه انتصارا للمظلومين وتحرير سقطرى ، تلك القصة التي جميعنا يعرفها ويفخر أن بطلها هو الإمام الصلت بن مالك الخروصي الزاهد العادل أشهر أئمة عمان في القرن الثالث الهجري.لحظات عشتها في ضيافة سيرة الإمام الصلت بن مالك الخروصي التي تزيدني فخرا بهذا القائد الذي يشكل جزءا من ذاكرة التاريخ العماني وبطولاته ، جزءا من الإمبراطورية البحرية حيث لم تكن سقطرى وحدها من استنجدت به ، كذلك ملك الهند استنجد بالإمام الصلت الذي أرسل أسطوله البحري لحمايته من قراصنة البحر.مسجد الغمامة وليمونة الوارثوحيث لا زلنا ننتشي بالتاريخ مع الصلت بن مالك هاهي قرية الهجار أهم القرى التاريخية بالعوابي تضعنا أمام سيرة إمام جليل آخر اشتهر بالورع والتقوى وكان أول إمام من بني خروص وثاني إمام في عُمان وها هي "عزة" احدى فتيات القرية تلتقينا عند مدخل الهجار وتعرض علينا المساعدة بل كانت خير مرشد لنا في القرية التي تعد من أهم القرى التاريخية في وادي بني خروص لاحتضانها أشهر الأئمة والعلماء النجباء الذي يخلدهم التاريخ ويحفظ موروثهم الحضاري والثقافي."عزة" رغم صغر سنها ومازالت في الصف العاشر، كانت حريصة أن تأخذنا إلى أهم المعالم التاريخية وهو مسجد الغمامة والذي بناه الإمام الوارث بن كعب الخروصي في العقد السابع من القرن الثاني حسب الروايات.ونحث الخطى نحو المسجد الذي اشتهر باسم "الغمامة" السحابة التي كانت تظله حسب رواية بعض السكان، وقيل اطلق عليه مسجد الغمامة أنه وعند شروع الإمام الوارث في بناء المسجد أظلت الموقع غمامة مربعة فقام ببناء المسجد في نفس مكان ومساحة ظل الغيمة وقيل : إن الغمامة ظلت فترة طويلة تظل الإمام الوارث طيلة فترة قيامه بالعمل وبناء المسجد كما قيل وضمن الروايات حول القصة أن الإمام كان يحرث "جلبة" الثوم وبيده "مجز" مقبضه من أشجار الليمون وحينما كان كذلك كانت تعلوه غمامه وكلما كان يتحرك كانت ظله فدعى ربه بدعاء وغرس بعدها "المجز" في الأرض وإذا بها بعد عدة أيام تخرج شجرة الليمون.كذلك أخبرنني رفيقات الرحلة أن الغمامة بين فترة وأخرى كانت تتكون فوق المسجد الذي تم ترميمه وصيانته ليكون جزءا من تاريخ القرية ومعالمها التراثية والسياحية التي لا زالت حاضرة مع بركة الماء و"جلبة" شجرة الليمون التي اشتهرت بها القرية وكانت جزءا من أوقاف المسجد. الهجار الساكنة بالأطلالالقرية الساكنة تحت سلسلة جبال الجبل الأخضر كانت مترفة بالأطلال المعنوية والمادية، وغنية بجمال وسحر الطبيعة التي كانت تضاريسها تعانق ذلك الجو الممتلئ بالبياض ، وتشي بقدوم الغيث.نسلك فيها دروبنا وسط بقايا تلك البيوت الأثرية المتناثرة التي تحيط بها واحات النخيل والأشجار ونصل إلى مسجد الغمامة الذي بحثت كثيرا عن تلك الغمامة التي كانت وفية للإمام الوارث بن كعب إلا أن السحاب كان يغطي القرية.دخلنا إلى المسجد المربع والذي يشاطره الأرض مدرسة للقرآن، ويحاذيه مظلة ودورات مياه ومغاسل حديثة، وهنا تستلفتني عبارة "واعلم بأن مسجد الغمامة بناه من تتوج الإمامة وهو الذي ترجى به السلامة ، سليل كعب وارثِ الكرامة" عبارة وضعت داخل المسجد حفظا للتاريخ وعلامة لتوثيق الآثار المادية والمعنوية.نخرج من المسجد ونتغفر على هذا الإمام الورع ونتأمل جلبة "شجرة الليمون" الصغيرة التي تواجه المسجد وحرص الأهالي على الاهتمام بها، ونكمل المسير إلى مرتفعات القرية وتتبع مجاري الأفلاج التي تشق طريقها بين سواقي مسطحات "الثوم والبصل" والمزروعات التي تشتهر بها القرية ونعود أدراجنا سريعا أملا في زيارة أكبر عدد من قرى الوادي في ذلك الوقت القياسي من الوقت والجو الماطر، ورفيقات الرحلة يؤكدن أنه لا يزال هناك متسع لزيارة قرية العليا..صقر وسحكون والعليا قصة أخرىنلوح للمغامرة النسائية بالتحية نحو العليا ونمر في طريق فرعي على قرى صقر وسحكون ذلك الوادي الأخضر بواحات النخيل الذي يأسرك بجماله وبسحر الطبيعة التي تجود بخيراتها من وفرة المياه ووفرة طيبات الارض.وعلى الرغم من ذلك الجمال الذي لا يترك لك خيارا الا الهبوط إلى تلك القرى إلا أن رفيقاتي يهمسن لي انتظري قليلا "العليا" ستبهرك أكثر فهي قرية تتلاقى فيها كل الجمال وهي مقصد سياحي وبها مدرجات وبها طريق يأخذك إلى الجبل الأخضر ويمكن السير له مشيا عبر الممشى والطرق القديمة.وتقول شيماء إنها قد سبق لها المشي سيرا إلى الجبل الأخضر عن طريق العليا والذي قد يستغرق حوالي الساعتين وتشير إلى أن من مميزات هذه القرية أنها تشتهر بزراعة المانجو والعنب وفواكه الجبل كالمشمش والخوخ والرمان والتين والحمضيات وشعار الأهالي أن ما قد تجده تحت تلك الأشجار يمكنك أكله ، فهو مسموح به.وها هي "العليا" نصلها والساعة الثانية ظهرا والاتصالات تتوالى بحثا عنا نظرا للأمطار التي بدأت تهطل بكثافة على ولاية العوابي وقرى وادي بني خروص، والتي تدعونا للعودة بسبب الأودية التي قد تهبط وتقطع الطرق.نتبادل النظرات في هل ننزل أم نعود فالوقت أصبح غير مطمئن، والقرية متخمة بالتاريخ والحياة وجدير سبرها ، ولا يمكن تتبعه في ربع ساعة في تطواف يظلم هذه القرية التي تعد مسك الختام لوادي بني خروص.ونتأمل القرية ونودعها وعدا منا بزيارتها في يوم خاص نقصدها ونعيش فيها أجمل التفاصيل التي يمكن أن ننقلها حبا في هذه الأرض التي رحبت بطيبات الأرض والطبيعة والتاريخ والثقافة.نعود بأجسادنا ولا نعود بأرواحنا التي تعلقت بذلك الوادي الذي يحمل اسم إحدى قبائل امبراطوريات التاريخ العماني.