شكلت مجان وهو الاسم الذي ذكرته نصوص وأدبيات بلاد الرافدين على امتداد تاريخها الطويل مركزاً حضارياً نشطاً، تفاعل منذ القدم مع مراكز الحضارة المجاورة في منطقة الشرق الأدنى. كما أنها كانت مركزاً تجارياً بحرياً وبرياً مزدهراً، فقد كانت واحدة من المراكز الحيوية على طريق التجارة القديم الذي يربط بين الشرق والغرب. وأسهمت بدورًا حيويًا بارزًا في التشكيل الحضاري الذي نقل المنطقة إلى الأدوار التاريخية، وذلك من خلال موقعها الجغرافي المميز كحلقة وصل ربطت بين مدنيات العالم القديم شرقها وغربها، ونقلت خلال تحركها بين المشرق والمغرب تيارات ثقافية متباينة ساهمت بلا شك في رسم الصورة الحضارية لمنطقة الشرق الأدنى القديم.
وتشير الدراسات التاريخية إضافة إلى نتائج الحفريات الأثرية إلى اتساع شبكة التجارة الإقليمية التي ربطت مدنيات الشرق الأدنى القديم، وإلى مدى المساهمة الحضارية الفاعلة التي حققتها مجان وموانيها التجارية خلال هذه الفترة المبكرة. فقد أتاح لها تميز موقعها بان يكون لها دوراً مؤثراً وعاملاً مساعداً في نمو وازدهار مدنيات العالم القديم.
تقع مجان في الجزء الجنوبي الشرقي من الجزيرة العربية، وتطل سواحلها على الخليج العربي وخليج عمان وبحر العرب, ولذلك فهي تتصل من جهة البحر بإيران، وشرق الجزيرة العربية شمالا وشرقا, وجنوب غرب الجزيرة العربية, وشبه القارة الهندية, وجنوب شرق أسيا, والساحل الشرقي لأفريقيا جنوبا وغربا.1 وتربطها طرق تجارية قديمة بكل من شرق الجزيرة العربية وشمالها, وجنوب الجزيرة العربية وغربها.2
فقد احتلت مجان منذ القدم موقعاً جغرافياً وسطياً مميزا، هذا الموقع أتاح لها أن تصبح حلقة الوصل بين ملتقى طرق تجارية بحرية وبرية عدة بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب. وبالتالي أصبح سكانها شركاء ووسطاء في هذه التجارة التي تصل إليهم من مراكز الحضارة المجاورة. ويبدو أن العلاقات التجارية لعبت الدور الرئيس في نهوض مدنيات العالم القديم، وإرساء دعائمها وتمكينها من أداء رسالتها الحضارية عبر انتظامها في شبكة تجارية إقليمية دعمت مراكز الحضارة القديمة في الشرق الأدنى القديم. وتشير الدراسات التاريخية، إضافة إلى نتائج الحفريات الأثرية, إلى اتساع شبكة التجارة في منطقة الشرق الأدنى خلال فترة الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد.3 ولذلك حظيت المراكز الحضارية التي تشرف على هذه الطرق بدور رئيس في التأثير على توجهات السوق التجارية, وغدت هذه المراكز كمجان ودلمون في منطقة الخليج العربي تلعب دور الوسيط التجاري بين الشرق والغرب. فدلمون كانت مركزا تجاريا للبضائع العابرة بحكم موقع الجزيرة على خط الملاحة للسفن المتجهة إلى الشمال, أو تلك المتجهة إلى الجنوب, إضافة إلى إنتاجها عدد من المواد والسلع التجارية, مثل اللولو, والتمور, وبعض الفخاريات المميزة.4 أما مجان فكانت مصدرا لبعض المواد الأولية كالنحاس, والأحجار, والأخشاب, والتمور, وبعض الفواكه والحمضيات. إلى جانب إشرافها على خط التجارة للسفن القادمة من الجنوب والمتجهة إلى الشمال, فهي تعد أخر الموانئ للسفن المتجهة إلى الجنوب, وأول الموانئ للسفن المتجهة للشمال.5
وخلال فترة الألف الثالث قبل الميلاد، كانت هناك حركة تجارية نشطة في المنطقة قادتها مجان لتزويد المراكز الحضارية المجاورة. وكانت بلاد الرافدين المستفيد الأكبر من هذه التجارة الإقليمية الناشئة. فبلاد الرافدين تبحث عن بعض مواد الخام الأولية، كالنحاس، والحجارة المختلفة، والأخشاب المختلفة، إلى جانب بعض السلع والبضائع والخضروات والفواكه الأخرى. ولذلك فقد استمرت هذه العلاقة التجارية بينهما منذ وقت مبكر ربما يعود الى بواكير الألف الرابع قبل الميلاد حتى منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد.6
ومن المرجح الان كما تشير المعطيات والأدلة الاثرية أن مجان كانت خلال فترة بواكير الألف الثالث قبل الميلاد, كمن أدرك انه يمتلك ثروة مادية كبيرة تمثلت في تشكيلة واسعة من مواد الخام ذات الطلب الزائد كالنحاس والحجارة والاخشاب وبعض المنتجات الزراعية التي تطلبها المجتمعات المجاورة, ويبدو ذلك من خلال ظهور معطيات حضارية مميزة طبعت المجتمع ثقافيا, واقتصاديا خلال تلك الفترة- كدلائل اتصالات مع جماعات العبيد, ثم مع جماعات جمدة نصر, وهي مؤثرات قادمة من بلاد الرافدين, إلى جانب المؤثرات العيلامية القادمة من إيران.7 ويبدو أن للظروف الاقتصادية التي عمت المنطقة الدور الاكبر نحو تحول مجان من مركز تجاري يمتلك الثروة, إلى مركز تجاري يستثمر تلك الثروة, من نحاس وأحجار وأخشاب, وغيرها من المواد التي درت عليه عائدا كبيرا, وبالطبع نجد أن مجان خلال فترة الالف الثالث قبل الميلاد تجني فوائد عائداتها وقد انعكس ذلك على مدنها وقراها المختلفة وهو ما يلاحظ من خلال غنى المواقع العائدة إلى تلك الفترة.8
وفي النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد وفي عهد سرجون الأكادي تحديدا نحو2371 – 2316 قبل الميلاد، يبدأ اسم مجان بالظهور في سجلات بلاد الرافدين من خلال ذكر اسمها كمركز تجاري في المنطقة مع دلمون وملوخا، ويبدو أن المراكز التجارية الثلاثة قد أنشئت حلفا تجاريا كان قوامه تبادل السلع فيما بينها من خلال شبكة تجارية بحرية اعتمدت على التجارة البعيدة المدى. فقد مثلت هذه المراكز دور السوق التجارية بين الشرق والغرب, وبين الشمال الذي يفتقر إلى مقومات النهوض الاقتصادي من مواد خام أولية للإنشاءات والتعمير, ومواد أخرى كالنحاس, والعاج, والذهب, وغيرها من المواد الضرورية, وبين الجنوب الغني بالمواد الخام والسلع والبضائع والخيرات.9 ثم بعد ذلك يطرأ تراجع طفيف لدور مجان التجاري في الفترة التي أعقبت الإمبراطورية الأكادية كما يتضح من النصوص المسمارية المكتشفة في بلاد الرافدين. إلا إنها يبدو كانت لا تزال تمارس نفس الدور كمحطة تجارية مهمة تستقبل سلع الجنوب الممثلة بمراكز وادي السند كملوخا, وما جاورها كأفغانستان, ومراكز وادي التجارة الأخرى في الهند وباكستان, والغنية بمواردها الطبيعية, كالأحجار الكريمة مثل العقيق الأحمر والأبيض, وخشب الورد, والعاج, وخشب المنغروف المسمى بالسومرية قص-أب-با/gis-ab-ba أي قصب البحر أو القصب الكبير الحجم.10 والحيوانات الهندية النادرة والطيور النادرة مثل الطواويس, والحمير, والديوك الصغيرة والثيران, والذهب والفضة والعاج والعقيق,والطيور والأخشاب والقصدير والرخام وغيرها من المنتجات التي تحتاجها جل المراكز الحضارية المجاورة آنذاك.11 وغيرها من المواد الخام والسلع الهامة التي تنتجها, إضافة إلى البضائع والسلع التي تصلها من المناطق البعيدة في جبال آسيا الوسطى ومرتفعات بلوخستان.12 وكانت هذه المواد الخام والبضائع والسلع إلى جانب سلعها وبضائعها المميزة, تجد أسواق ومنافذ عدة في مراكز الشمال الحضارية, كبلاد الرافدين, وبلاد الشام, وبلاد الأناضول.
ويبدو أن ذروة صعود مجان التجاري كان خلال الفترة من بداية تأسيس أسرة أور الثالثة وحتى سقوطها، على يد حكام أسرة أسين- لارسا، 2050-1950قبل الميلاد. خلال هذه الفترة أخذت مجان زمام المبادرة في تجارة المنطقة كمركز تجاري يتاجر وينقل معظم السلع والبضائع التي ينتجها، أو تلك التي يستوردها من الشمال، أو السلع والبضائع التي ترد من الجنوب من خلال خطوط التجارة البحرية الموصلة من مجان إلى شبه القارة الهندية. ولم تقتصر التجارة البحرية خلال تلك الفترة على البضائع والسلع الهندية فقط، بل نجد أن العمق الجغرافي الهندي كان ينقل إلى مجان سلعا أخرى من جبال آسيا الوسطى، ومرتفعات أفغانستان، وبلوخستان، وتضم هذه السلع حجر اللازورد، والفيروز والذهب، والفضة، والنحاس، والقصدير من أفغانستان، ووادي زوفشان. وهو دليل أخر على أن الطريق التجاري البحري بين رأس الجنز ورأس الحد في مجان, وكوجرات على الساحل الهندي, أصبح خلال تلك الفترة ممرا حيويا يستخدم لنقل البضائع والسلع النادرة والثمينة, والأحجار الكريمة, والمعادن التي عرفها الشرق الأدنى القديم.13 خلال هذه الفترة نجد أن مجان ظهرت بروابطها التجارية القوية مع بلاد الرافدين, حيث نجد أن القصر كان شريكا مباشرا في تجارة مجان,14 وكانت السفن تنطلق مباشرة من مجان إلى أور مركز بلاد الرافدين التجاري في ذلك الوقت. وكان هناك تجارا أمثال لو- انليلا وهو تاجر من بلاد الرافدين يقومون بعقد الصفقات مباشرة مع تجار مجان كما افصحت بذلك سجلات وارشيفات بلاد الرافدين.15
خلال تلك الفترة التي تقدر بنحو أكثر من قرن من الزمان، ترد عدة نصوص تفصح عن مدى الاتساع والسيطرة التجارية لمجان، إلا إننا لا نعلم حتى الآن إلى أي مدى بلغت سيطرتها في المنطقة، جغرافيا وسياسيا واقتصاديا. هذه النصوص وردت خلال فترة أور الثالثة، أحدها يعود إلى عهد الملك شوسين 2037- 2029قبل الميلاد. ويبدو النص وكأنه يعدد المناطق المحيطة بإمبراطورية أور الثالثة، وينتهي بالقول "بلاد سأبور على شواطئ البحر الأعلى، ومجان مع كل مقاطعاتها... على الجانب الأخر من البحر". وهناك رسالتان تعودان إلى السنة الرابعة من حكم الملك أبي- سين 2028-2006قبل الميلاد. تشيران إلى الخليج العربي باسم بحر مجان لا باسم البحر الأسفل كما كان يطلق عليه سكان بلاد الرافدين.16 هذه بعض الإشارات التي ذكرت مجان وتجارتها خلال فترة الالفين الثالث والثاني قبل الميلاد, ويبدو ان اتساع هذه التجارة الإقليمية لمجان قد ساهم وبشكل فاعل في حالة الاستقرار السياسي والاقتصادي وهو ما يبدو جليا في غنى مواقع مجان العائدة لهذه الفترة حيث شكل الموقع الجغرافي المميز لمجان حجر الأساس الذي قاد مجان للتحرك بيسر في اتجاهات مختلفة شكلت الدائرة التي ارست عليها دعائم تجارتها البحرية وتشكيل شبكة تجارية مع مراكز الحضارة المجاورة تناوبت فيه هذه المراكز لتزويد بلدان ومدن الشرق الأدنى القديم باحتياجاتها من المواد الخام الأولية ومن ثم الكمالية بكل يسر وسهولة.
ولذلك فان موقع عمان الجغرافي ومنذ القدم كان ومازال موقع يمثل نافذة استراتيجية مهمة وبدرجة عالية من الاهمية كما توضّح في دراستنا هذه حيث ساهم ومنذ بدايات قيام التجارة الاقليمية في ارساء دعائم شبكة التجارة الوليدة خلال النصف الثاني من الالف الرابع قبل الميلاد, واستمرت هذه الاهمية الاستثنائية وخطوط امداد العالم المتمدن في ذلك الوقت بمواد وسلع اولية ياتي على راسها خام النحاس ومادته التي شكلت في تلك الاثناء طفرة كبيرة قامت عليها دول وتأسست على خاماتها مرتكزات مدن وحضارات ناهضة اعتمدت عليها في صناعتها وشكلت عماد تجارتها منها. وخلال عصور ماقبل التاريخ وحتى دخول المنطقة في الحقب التاريخية المختلفة, ومرورا بالعصور الكلاسيكية واستحضار الاوربيين من المؤرخين والجغرافيين كشهود على طفرة التجارة المزدهرة وبتركيز اكبر على خاصرة عمان الجنوبية حيث منابت اللبان وافضل انواعه المنتجة, وطغيان ثروات الارض وتواصل تجارة جنوب الجزيرة وطرقها ومسالكها المختلفة التي عرفت قبل ذلك بعهود طويلة شاهدة على تجارة اللبان وعظمة ثروتها وقداسة مادتها وطقوس عبادتها. وصولا الى عصور ازهى وتاريخ مشرق مضئ حمل في طياته انشاء اكبر امبراطورية اقليمية في المنطقة امتدت اذرعها التجارية الى ماوراء البحار وحتى منابع البحيرات الافريقية العظمى. وخلال تاريخ طويل تشكلت فيه قوى اقليمية وحضارية مختلفة تفردت فيها بحار مجان وموانئها التجارية شاهدة على عظمة مجتمع سخر الطبيعة ووسائلها المختلفة لعمارة هذه الارض الطيبة.

المراجع والهوامش
--------------
1 أبوالعلا، محمود، جغرافية إقليم عمان، سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة، الكويت، مكتبة الفلاح، 1988م، ص ص17-18؛ العزي، خالد يحيى، الواقع التاريخي والحضاري لسلطنة عمان، بغداد, 1986م، ص185.
2 يورنس، زارنس، أرض اللبان، ترجمة وتحرير معاوية إبراهيم، وعلى التيجاني الماحي، مسقط، جامعة السلطان قابوس, 2001م، ص ص24-25.
3 كورنوول، دلمون، ص 145.
4 Frifelt, "On Prehistoric Settlement", p.391.
5 Speece, "The role of Eastern Arabia", p.167.
6 بوتس, الخليج العربي في العصور القديمة، ص ص258-259؛ التكريتي, "تتبع ثقافة العبيد", ص ص59-60؛ بوتس, " العولمة- تاريخ طويل وتحليل متعدد المستويات", ص16.
7 Tosi, "The dating of the Umm An-nar culture", pp.81-85.
8 Potts, "The Jamdat Nasr culture complex", p.114.
9 رايس, آثار الخليج العربي, ص 388.
10 البدر، منطقة الخليج العربي، ص.122.
11 Cleuziou & Tosi, In the Shadow of the Ancestor, pp.182-183.
12 الهاشمي، "النشاط التجاري القديم"، ص ص78 – 82.
13 Speece, "The role of Eastern Arabia", p.168-169; Cleuziou & Tosi, In the Shadow of the Ancestors, p.183-184; Potts, "The Jamdat Nasr culture complex", p.115؛ بوتس, الخليج العربي في العصور القديمة، ص ص250-258.
14 بوتس, الخليج العربي في العصور القديمة، ص256.
15 بوتس, الخليج العربي في العصور القديمة، ص252؛ Potts, "The Jamdat Nasr culture complex", p.115؛ الأحمد, تاريخ الخليج العربي, ص239.
16 بوتس, الخليج العربي في العصور القديمة، ص ص252 -253؛ البدر, منطقة الخليج العربي, ص55.

د. علي بن راشد المديلوي
باحث ومختص في قضايا الآثار والتاريخ القديم