[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
” رغم ضخامة إنتاج حقل "ظهر" لا تنوي الحكومة المصرية تصدير الغاز للخارج وتكرار خطئها القديم عندما تورطت في عقود تصدير طويلة الأجل مع دول مجاورة في تسعينيات القرن الماضي اعتمادا على ضخامة الإنتاج والاحتياطيات التي تبين عدم دقتها, وأنشأت في سبيل ذلك خطوطا لنقل الغاز طولها 400 كيلومتر ولكن سرعان ما نضبت مكامن الغاز بعد عشر سنوات من تشغيلها, ”

محنة تراجع أسعار النفط الذي هبط من 110دولارات في 2014م , ليقترب من 25 دولارا في يناير 2016م , غيرت كثيرا من المفاهيم والمسلمات التي استمرت لعقود طويلة عن طريقة تعاطي الدول مع سلعتي النفط والغاز, حيث كشفت الأزمة الخطأ الفادح الذي ارتكبته كثير من الدول النفطية باعتمادها اقتصاديا على تصدير الخام الأحفوري واستخدام عائداته في دعم الموازنة العامة وتمويل الإنفاق الحكومي وتحقيق الرفاهية والتنمية الاجتماعية لشعوبها, دون النظر لاستخدامه في أنشطة اقتصادية تحقق التنمية المستدامة مثل الصناعات التحويلية والبتروكيماويات والمجالات التي تولد فرص العمل وتعطي الاقتصاد القيمة المضافة التي تحصنه ضد هزات أسواق الطاقة, أو نضوب الاحتياطات النفطية والمكامن الغازية.
هذا التحول لابد أن يواكبه أيضا تغيير في الثقافة المتجذرة لدى بعض مواطني الدول النفطية الذين يعانون اليوم من تراجع مستوى الرفاهية وندرة فرص العمل وانكماش الإنفاق الحكومي وفرض ضرائب ورسوم حكومية وارتفاع أسعار الخدمات بصورة لم يعهدوها من قبل , لابد أن تنتهي من قاموسهم الجملة التي طالما ترددت على ألسنة البعض منهم طوال العقود الماضية .. "حقي في النفط" , وتتحول إلى رغبة في الحصول تعليم راق وتدريب متميز يؤهلهم للمنافسة في سوق العمل والحصول على فرصة عمل حقيقية مقابل أجر يلبي احتياجاتهم الأساسية.
ورغم احتفاظ النفط والغاز بمنزلتهما في سوق الطاقة العالمي حتى الآن, وعدم قدرة أنواع الطاقة البديلة" الكهرومائية والشمسية والنووية وطاقة الرياح " على تلبية حاجة العالم من الطاقة اللازمة لتسيير حركة الحياة على كوكب الأرض, إلاّ أن الإشكاليات المحيطة بالاستثمار في " النفط والغاز" من سيطرة الشركات العالمية على عمليات التنقيب والاستكشاف لامتلاكها التكنولوجيا الحديثة والإمكانيات المادية والبشرية غير المتوافرة في دول الإنتاج , وارتفاع التكاليف وتراجع العوائد الاقتصادية التي تجنيها الدولة صاحبة الاكتشاف؛ حيث وصل الأمر لتجاهل اكتشافات كثيرة بعدما تبين عدم جدواها الاقتصاديةـ تدفع الدول للبحث عن أنشطة اقتصادية بديلة أكثر استدامة.
فرغم اكتشاف مصر حقل ظهر العملاق الذي يحتوي على 30تريليون قدم مكعب من الغاز, إلاّ أن التكلفة الباهظة للحفر في المياه العميقة واستجابة الشركة المنتجة لإلحاح الحكومة المصرية بتسريع مراحل الإنتاج رفع التكلفة لحوالي 16مليار دولار تتحملها الشركة الإيطالية صاحبة الامتياز, هذه التكلفة جعلت حصة مصر تقل عن 40% من قيمة الغاز المكتشف حتى تسترد الشركة المبالغ التي أنفقتها, وإن كانت الفائدة ستعود على مصر من شراء حصة الشريك الأجنبي بأسعار تفضيلية وعودة ملكية الحقل إليها بعد عمر طويل في حالة استمرار الحقل في الإنتاج.
رغم ضخامة إنتاج حقل "ظهر" لا تنوي الحكومة المصرية تصدير الغاز للخارج وتكرار خطئها القديم عندما تورطت في عقود تصدير طويلة الأجل مع دول مجاورة في تسعينيات القرن الماضي اعتمادا على ضخامة الإنتاج والاحتياطات التي تبين عدم دقتها, وأنشأت في سبيل ذلك خطوطا لنقل الغاز طولها 400 كيلومتر ولكن سرعان ما نضبت مكامن الغاز بعد عشر سنوات من تشغيلها, نتيجة ارتفاع الاستهلاك المحلي في تشغيل محطات الكهرباء ومصانع البتروكيماويات والتوسع في صناعة الحديد والأسمنت التي حظرتها أوروبا لتلويثها البيئة ونهمها للطاقة الأحفورية, فتوجهت هذه الصناعات المؤذية إلى دول العالم الثالث الباحثة عن الاستثمار الأجنبي بأي ثمن دون النظر لآثاره الجانبية, وأُنشئ في مصر عشرات مصانع "الحديد والأسمنت" التي جذبتها الطاقة الرخيصة والتسهيلات الضريبية وقوانين الحماية ومنع الإغراق التي سنتها الحكومة لجذب هذا النوع من الصناعات على أمل الاستفادة منها مستقبلا ولكنها للأسف الشديد بمجرد انتهاء فترة الإعفاء الضريبي وارتفاع تكلفة الغاز سارعت معظم هذه الاستثمارات بالخروج من السوق المصري بحثا عن مكان آخر أقل تكلفة وأكثر توليدا للأرباح.
عقب اندلاع ثورة 25 يناير 2011م في مصر توقف عمليات التنقيب والاستكشاف, نتيجة حالة الانفلات الأمني التي تعرضت لها مصر وتفجير خطوط الغاز وعجزت الحكومة المصرية عن تلبية عقود التصدير أو تدبير مستحقات الشركات الأجنبية التي توقفت عن العمل وغادرت الأراضي المصرية, وتكبدت مصر نتيجة لذلك غرامات بمليارات الدولارات بعد لجوء المستوردين للتحكيم الدولي الذي لم يلتفت لمبرر القوة القهرية الذي دفعت به مصر.
وإشكالية (الغاز) أننا لا نستطيع تخزينه وهو في حالته الغازية ولا نستطيع ضخه في شبكات التوزيع إلاّ إذا كان هناك استهلاك وطلب مساويا للكميات المنتجة, فهناك اعتقاد خاطئ لدى الكثيرين أنه بمجرد اكتشاف الغاز واستخراجه يمكن الاستفادة منه وتصديره للخارج, وهذا أمر غير قابل للتنفيذ, فلابد من وجود محطات تحول الغاز للحالة السائلة ليتسنى نقله عن طريق الشاحنات أو تحميله على مراكب التصدير وهذه المحطات مكلفة, لذلك تلجأ بعض الدول للاستعانة بقاطرات تسييل جاهزة أو سفن تسييل لتتمكن من نقل وتصدير الغاز, والذي يحتاج لمحطات تغييز "تحوله مرة أخرى للحالة الغازية ليمكن استخدامه في الدولة المستوردة.
واستطاعت مصر في زمن الطفرة الغازية بناء محطتي تسييل غاز ضخمتين في دمياط وإدكو على البحر المتوسط بتكلفة 3.5مليار دولار في ذلك الوقت (تصل تكلفتهما الآن لحوالي 16مليار دولار ) , ولم تكد تنتهي من بنائهما وتشغيلهما في العام 2003م وإرسال شحنات الغاز إلى أوروبا عن طريقهما, حتى بدا في الأفق شبح تراجع الإنتاج والاحتياطيات الغازية, فتوقف العمل داخل المحطتين ومازال حتى الآن في انتظار وجود فائض في الإنتاج, لذلك تفكر مصر في استيراد الغاز من الدول القريبة التي تم اكتشاف كميات كبيرة لديها تفوق احتياجاتها ولا تستطيع تصديرها لعدم قدرتها على تسييلها, باستغلال محطتي التسييل في إدكو ودمياط وتحويل مصر لمركز إقليمي للغاز المسال والاستفادة من فروق الأسعار.