د.جمال عبد العزيز أحمد:.. فذكر من بين ما ذكر قوله عزوجل:(واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً)، الأمر بالذكر هنا يشمل كلَّ ألوانه من: التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والاستغفار، والحوقلة، كما يشمل ذكرُ الله تعظيمَه في القلب، ووقوف المرء خاشعاً عند حدود الله، لا يتعداها، فذِكْر الله هنا كناية عن التعظيم التام، والإخبات الكامل لكلِّ مطلوب السماء.وأما التبتل فهو الانقطاع الكامل لله، والإنابة لجلاله، هو انفصال الإنسان عن كل ما سوى الله للقاء الله الخالق (الانقطاع للاتصال)، وصرف النظر عن المخلوق إلى محبة الخالق، وكان من المفترض ـ حسب القاعدة النحوية والصرفية في باب مصادر الأفعال ـ أن يقول:(وتبتل إليه تبتُّلاً) لأن مصدر الفعل تفعَّل هو التَّفَعُّل لكن القرآن خالف المصدر ليبين أن المرء رهنُ إشارة ربه، ولو خالف كلَّ القواعد، فالتَّبْتِيل أكبر من التبتُّل، وكل زيادة في المبنى مفضية ـ من غير شك ـ إلى زيادة في المعنى، وعمق في الدلالة.فالمتبتِّل قد خرج عن كل قياس، وخالف كلَّ قاعدة لكونه قد وضع نفسه وروحه وحياته وكله رهنَ إشارة ربه، وتَبَعَ رضاه، ووفق هداه، والمفعول المطلق أو النائب عنه (تبتيل) قد أسهم من غير شك في بيان طبيعة المؤمن مع ربه، عندما يخلو بمولاه، وتنسكب بالدموع عيناه، وتخضل منه خدَّاه، ويرتجف فَوْادَهُ، وتصطك من خشيته ركبتاه، وتزلزل قدماه، فيستنزل جراء ذلك رحماه، وكامل رضاه:(وتبتل إليه تبتيلاً) فهو المستحق للعبادة، المستأهل للتبتُّل لأنه:(رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً)، وهذا فعل أمر، يفضي إلى حسن التوجه، وصدق الإنابة لمن هو قادر، وقدير، ومقتدر، هو ربُّ كل شيء، رب المشرق والمغرب، ورب المشرقين والمغربين، ورب المشارق والمغارب، الإله القوي المقتدر، فأمر باتخاذه وكيلاً، أي حافظاً ومدبراً لأمور الإنسان كلها، فالله وكيل كلِّ مؤمن صادق، يحفظه، ويرعاه، ويدبر أموره، ويجعل له من أمره يسراً، ويجعل له من شأنه انفتاحاً، وانفساحًا، ويزيح عسراً، ثم تجئ أساليب الأمر المتتابعة:(واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً)، أمر بالصبر وجميل الهجر، فالهجر له عين باصرة على المهجور، وخوف عليه أن يزداد بُعْدًا، فهو هجر لكنه للوصل، وترك غير أنه للعود، تربية وإصلاح للوصول إلى الصواب والفلاح، أما أولو النَّعمة الذين انغمسوا فيها ماديًّا ومعنويًّا، وصارت الحياة بزهوها وخيلها ورجلها، وحلها وحرامها تشغلهم، وتأكل أيامهم، وحياتهم، فصاروا يكذِّبون بمطالب السماء، ويصدون الناس عن سبيل الله، فما عليك إلا أن تذرني وشأنهم:(فذرني والمكذبين أولي النَّعمة) فهو أسلوب أمر فيه، يحمل التهديد، والوعيد الأكيد، والعذاب الشديد، والنَّعمة (بفتح النون) هي النعم المعنوية، فهو كبراء القوم، وهم سادتهم، وموضع نظرهم، وحديث ألسنتهم، هؤلاء الذين جعلوا الدِّينَ خلف أدبارهم، ودبر آذانهم، بحيث صار لا يشغلهم، ولا يقيمون له وزناً، أنا سأمهلهم قليلاً، ثم إن لدينا لهم أنكالاً وجحيماً، وطعاماً لا يستساغ فهو مُرٌّ في حلوقهم، وصار لهم عذاباً مؤلماً موجِعاً، لا يحتمله بشر، ولا يستطيعه إنسان.جاء ذلك في ثوبه مؤكدًا بـ (إنَّ)، وبالتقديم والتأخير:(إن لدينا أنكالاً وجحيماً)، وبأسلوب العطف والوصف وبعده العطف:(وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً)، أي أن هذا هو ما ينتظركم يا أرباب النعم، فمن لا يعير الدين اهتماماً، ولا يعرف، ولا يُلِمُّ بشئ من مطالب السماء إلماماً، وحياته هائمة في الغي والتيه هياماً، ولا يعرف إلا متعة ونياماً، ولا يقوم لله في الليل قياماً، فهو رهن الجحيم ونارها لا يروم عنه، ولا يعرف هرباً، ولا يستقر منامًا، ثم تأتي بعد ذلك مظاهر الآخرة لتهز الفؤاد اهتزازاً.