عمّان ـ العمانية:تحدث فيلم "نوستالجيا" للمخرج الروسي أندريه تاركوفسكي عن الاشتياق والحنين إلى مكان آخر وزمن آخر. وفي أحداث الفيلم الذي وضعته لجنة السينما في مؤسسة عبد الحميد شومان ضمن عروضها الأسبوعية، يسافر "أندريه"، وهو شاعر روسي، إلى إيطاليا بحثاً في حياة موسيقار روسي كان يقيم قبله هناك وكان الحنين يستبدّ به إلى بلده الأم لكنه كان يخشى العودة إليها، والمفارقة أن الموسيقار حين عاد إلى بلده التي طالما حلم بالعودة إليها أدمن الخمر وانتحر. ويستعيد الفيلم الذي أُنجز في إيطاليا عام 1983، رحلة ذلك الموسيقار في أنحاء إيطاليا، باستقصاء "أندريه" للأماكن نفسها التي ارتادها الموسيقار، وخلال هذا البحث يستكشف "أندريه" ذلك الحنين الجامح إلى الوطن، والشوق الجارف الذي لا يُحتمل، وهي المشاعر التي انتابت الموسيقار قبله.ومن ناحية أخرى، يرتبط "أندريه" نفسياً وفكرياً برجل قيل إنه مجنون يدعى "دومينيكو" يسكن في بلدة صغيرة تشتهر بحمامات المياه المعدنية الساخنة، التي قيل إن البقاء في مياهها يطيل العمر بسبب أن إحدى القديسات قد زارتها.ويبدأ ارتباطه بهذا الكهل عند شعور كل منهما بالعزلة عن المحيط، ثم ينتقل ليجعل من "أندريه" يرى في جنون الكهل الكثير من الحكمة، ويجد نفسه تلقائياً منساقاً إلى أفكاره وأفعاله التي كان يرغب بالقيام بها دون أن يتمكن، ومنها اجتياز الحمام المعدني الساخن مع شمعة منارة دون أن تنطفئ.تبدو شخصيات "نوستالجيا" –-كما في بقية أفلام تاركوفسكي- مأزومة، معذّبة، مترددة بين الشك واليقين، تجد نفسها أمام أسئلة قاسية يطرحها الماضي والحاضر معاً، وهي تبحث عن المصالحة بين المرء وذاته، وعن التوازن بين الذات والآخرين، وبين الذات والطبيعة، لكنها لا تجد ما تسعى إليه، وهي لن تحرز مبتغاها إلا بالانفتاح على ما يحيط بها من أفراد وأشياء وعناصر، برؤية الأشياء بعين أخرى جديدة وبريئة ونافذة. وكالعادة، يستمر تاركوفسكي في تقديم هوايته المفضّلة المتمثلة في "طرح التساؤلات" بانتظار متابعيه الذين سيقدمون إجاباتهم المختلفة، وهذه من العناصر المميزة لأسلوب هذا المخرج المبدع.يبني تاركوفسكي فيلمه من سلسلة من مشاهد متعاقبة ذات خاصية تشكيلية تبهج الحواسّ وتحرّك المشاعر، وتمثّل تجارب وأحلام وذكريات الشخصيات. الكثير من المشاهد ساكنة، لا شيء يحدث فيها، ومع ذلك فإنها تحمل كثافة شعرية، وتخلق حالة من التأمل لدى المشاهد. وتذوب الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر في "نوستالجيا"، وتذوب معها الحدود بين الحقيقة والخيال، بين الواقع والوهم، وتتعرّض للمحو والإزالة، أو تبدو ضبابية وغير واضحة، وتتشابك العوالم الداخلية والخارجية بحيث يصعب التمييز بينها. الأصوات مركّبة بعناية في الفيلم، وعلى نحو مدروس، حيث تمتزج أصوات الحاضر والذاكرة، وتختلط الأصوات القريبة والبعيدة، رابطة بين الواقع والرؤية، وأحياناً لا يعبأ تاركوفسكي بالمؤثرات الصوتية الواقعية المتزامنة مع الحركة، مجرّداً بذلك المشهد من الحس الواقعي، ومصعّداً الحس الشعري.يشكل فيلم "نوستالجيا" بإيقاعه البطيء دعوة للتأمل، وللعودة إلى الماضي حيث الأمنيات التي لم يعد من الممكن تحقيقها في حياتنا أو ربما لم يعد في عمرنا بقية لذلك. يقول تاركوفسكي عن هذه التجربة: "أردتُ أن يكون الفيلم عن الارتباط القاتل للروس بجذورهم الوطنية، ذلك الارتباط الذي سيحملونه معهم لبقية حياتهم بصرف النظر عن أيّ قدر قد يرميهم به، ما كنتُ أتخيله وأنا أصنع فيلمي هذا هو ذلك الإحساس الشديد بالشوق الذي يملأ فضاء الشاشة ليصبح القطعة الباقية من حياتي، والتي سأحمل داءها المؤلم في روحي حتى يومي الأخير". ومن الجدير بالذكر أن تاركوفسكي الذي أهدى فيلمه "نوستالجيا" إلى أمه، قضى أيامه الأخيرة في منفاه الاختياري بعيداً عن بلده الأم روسيا.