عبدالله الشعيبي:
مدخل
الصّراي / الصّراج/ السراج/ القنديل، كلها تحيل إلى رفيق يدوي يضمر روحا مختلفة في جسد الليل، حين كان العمانيون قبل مجيء الكهرباء، في مختلف جغرافيات تواجدهم، لا يبصرون تفاصيل حياة الليل إلا من خلال عينه الزجاجية، التي كلما كانت صافية، كلما أتاحت بريقا خاصا في المسارات التي تحفظ الخطوات وترعاها، وتعضد أبصار العيون كي تصل إلى ما تريد من أماكن، وتقضي ما تشاء من حوائج..
هناك صلة وثيقة بين العمانيين وقناديلهم الليلية، وهي - وإن كانت غير حاضرة الآن - لكنها حمّالة تفاصيل، يجدر الوقوف عندها، لفهم تلك الصلة الموجبة تلازما شعوريا يصعب فهمه على من لم يعش تلك المرحلة، ومن عاشها سيدرك أن لها من الخصوصية ما يجعلها ملهمة..
ذلك القنديل المعلق على خشبة طويلة في الجدار (الوتد)، أو المتدلي من سلسلة طويلة موصولة بجذع من السعف معلق في السقف، أو المتموضع فوق (سحّارة/مندوس) في (العريش) السعفي أو (الليوان) الطيني، كان رفيق الليالي الطوال، وأنيس (السكيك) السكك والطرقات، وصوت الظل الذي ترقبه العيون قبل المنام في (السِّبَل) حيث مخادع الليل..
هذه الثيمة التي مرت عابرة في مرحلة ما من عمر العمانيين، هي أكبر من مجرد ذاكرة، وأصدق من مجرد ناقل، وأوضح من مجرد ضوء، ولهذا نحسب أن النقد الثقافي، حين سيريد مقاربة أو تحليل جانب محدد في مرحلة العبور نحو الحضارة الحديثة، لن يستطيع عزل أو تجاوز أو نسيان أو القفز على هذه الثيمة، فهي جزء من صناعة العماني المثقف والمؤلف والواعي في نتاجاته الكتابية من ناحية، أو تأهيله نحو حياة مختلفة من ناحية أخرى، ولكن يبدو أن القنديل عبر ذلك كله بسلام!

ثوب الظلام
لولا الليالي البيض، لكان الشهر في حياة العماني في مرحلته القديمة متلفعا بعباءة الظلام بين غروب الشمس وشروقها، ذلك الثوب الذي لم يكن سهلا التعامل معه، ولم تكن الحياة سهلة به، ولكن لا بد من عيشه، ومن الواضح أن الحياة العمانية كانت الروح فيها تسري في النهار والليل معا، فحين تكون الكثرة في الحياة اليومية الطبيعية في النهار، وهو وقت المعاش وطلب الرزق والتوكل، كان الليل له حياته أيضا، وهي طبيعية كذلك، وأبرزها حياة السقي وري البساتين والنخيل بالمياه، بحسب التوزيع اليومي بنظام (الأثر) المتعارف عليه، وهو تقسيم حصص المياه بين مُلاّك النخيل وما يتبعها من أشجار وحشائش، لهذا كان الليل طبيعيا، وكان لا بد من ارتداء ذلك الثوب، حين تنساب غالبية الأجساد صاعدة نحو مدارج الأحلام.
ليس الليل لـ (البيادير) فقط، بل وللمسافرين كذلك، وحَمَلة العواطف والحب والعشاق، والسهارى في أكناف الوديان ورمال الصحاري وأمام أمواج السواحل، ينسابون بصلواتهم الخاصة في حضرة النجوم التي تومض بحضورها شاهدة على ما يكون.
هذا الثوب، ثوب الظلام، كان وحده الذي يستدعي القنديل من مهجعه، وينير فسحة مكانية لا تتعدى الأذرع، تسمح للمرء بأن يرى أمامه وخلفه وبقية جهاته بنوع من الطمأنينة، وهي طمأنينة مؤقتة على كل حال.

بوصلة طريق
إذا قلنا إن القنديل بوصلة فهو كذلك، والعارفون تضاريس البيئة العمانية، في رملها وجبلها وسهلها، وبخاصة في البيئات الزراعية، وما تتطلبه من الحرص والحذر، يدرك تماما ما يعنيه وجود سراج يفتح عيون الظلام المغمضة، العيون التي في حال انطباق أجفانها لن تفيد عابر طرقات الليل، ويمكن أن يسقط في حفرة، أو يصدم حجرا، أو تلدغه كائنات الليل الخطرة، أو يتوه عن طريقه الذي يريد سلوكه، وبالتالي يفقد مسار وجهته، ولذلك يبرز القنديل بصفته أحد الحلول المنطقية والنفعية والعملية.
قبل أن ينتشر (صراي بو فتيلة)، كان يغمر البيوت (صراي بو سِحّهْ)، والأخير عبارة عن وعاء طولي الشكل، أسطواني بشكل أدق، يتم وضع خيط قماشي فيه، مثبت بالتمر، ويستخدم لإضاءته زيت محلي الصنع؛ أما الأول فهو مختلف تماما، وربما عبر نحو المساحات العمانية من خلال ما يرد من بضائع مصدرها الأسواق الهندية، ويتم توزيعها للولايات من خلال (البنادر/ الأسواق) الكبيرة، لتقوم (الدكاكين) الصغيرة ببيعها على راغبيها في عمان الداخل، وهي البعيدة عن مرافئ السفن، فهذا القنديل يتم تشغيله بـ الكيروسين، وله زجاجة شفافة يتم تثبيتها بقاعدة ثابتة أرضية وأخرى علوية متحركة، مع وجوب تنظيفها يوميا للحصول على درجات إضاءة أنقى، ولديه سلك معقوف وموصول بأعلى القنديل، يتم حمله من خلاله، والتنقل به من مكان لآخر.

ظلال الخرافات
قالوا قديما في معرض تخصيص من يسكن الزمنين، الليل والنهار، قالوا: (الليل لْحَدّ والنهار لْحَدّ)، في إشارة واضحة إلى من يسكن الزمنين، أو كما يرد في التعبير الميثولوجي (بني شوف)، وكما نقله الروائي محمد الشحري في روايته موشكا بتعبيره (بني يشوف)، وكلها تصبّ في زاوية تعريفية عن كائنات الليل المبهمة والغامضة شكلا وسلوكا، والذين تنتفي رؤيتهم بالعين المجردة في غالب الأحيان، إذ يروننا ولا نراهم، ولهذا فإن القنديل هو أحد العناصر التي تساعد عابر الليل أن يكون حذرا من مكامن الظلام، حتى يرى بشكل جيد، فضلا عن أن تلك الكائنات لا تتكيف مع الأضواء، بحسب المعتقد الشعبي، لذلك تنشط في الظلام، والليل مفتاحها العام.
تلك الحكايات المنشطرة بين كونها خرافات وأساطير من ناحية، وكونها كائنات حقيقية خارج إبصار العين من ناحية ثانية، هي ذاتها الظلال التي تكشفها القناديل، أي تكشف حركتها وسلوكها، ولذلك كان السراج رفيقا وحاميا وحارسا ومنبها.
هناك صلة محددة بين السراج والميثولوجيا في البيئة العمانية القديمة، وهي على الرغم من كونها ليست ذات تأصيل واضح، بخاصة في النصوص الأدبية، أو أن اجتراح تلك الصلة لا تزال غير عميقة بمعناها الدقيق، لكنها قابلة للتشكل وفق خيارات قارئيها والراغبين في توظيفها، وانسيابا مع ما تنتجه الظلمات من مشاعر وكائنات وعلاقات قادرة على تشكيل بيئة خصبة للإبداع..

وجوه وتفاصيل
حين يسكن القنديل في المنتصف، ويتحلق حوله الصغار والكبار، تبرز الوجوه، وتتضح تفاصيل الملامح، وتشي التفاصيل بما يجول في النفس، وبما يستكنّ في خفايا النفس، حيث الحوارات تسري، وموسيقا الضحكات تطرب الليل، وتشعل رقص الظلام، في حين أن الغرف المغلقة، حيث النوم يهطل كالمطر، و(المِداحي) تكتنز بأصحابها، يصير القنديل المعلق في السقف، بإضاءة خافتة، بمثابة سمير، ترى العيون بعض تفاصيل المكان، وربما تسرح المخيلة في أحداث اليوم المنصرم، وترى تفاصيل ما سيحصل في اليوم التالي، كنوع من السفر نحو تفاصيل لا تدركها الأطراف، ولكنها جزء من خاصية الحواس وعوالمها.

خاتمة
نظن أن بعض التفاصيل، التي ربما تجاوزها الكثير من العمانيين في الفترة المعاصرة، وكانت جزءا من ذاكرة سلوك اجتماعي قديم، مهمة وضرورية لقراءة نمط الحياة السائد، أو على الأقل لمعرفته بشكل أعمق مما هو عليه، ولهذا نعزو غياب تلك القراءات إلى كوننا انفصلنا عن جوهر جمال ما كان عليه الأسلاف، بمحمولات سلوكياتهم وأنماطها كلها، بل إن توظيفها إبداعيا، واسترجاع ذاكرتها بشكل أعمق سيثير جانبها الذي لم نره جيدا.