استعمال:(استحياء) بدل (حياء) ليزيد في درجة الحياء ومنزلته بين الأخلاق

د. جمال عبد العزيز أحمد:
.. وذكرتِ الضرورة الشرعية الملجئة للخروج، فوضعت تقريرًا مركزا وحَيِيًّا عن طبيعة تربيتهما، وكونهما من بيت عفة، وفضل، وبيت حياء، وطهر، فجاءت الفاء ردًّا سريعا: (فسقى لهما) فقد أفادت الفاء للترتيب، والتعقيب، وكأنه لم يفكر بعدما وقف على طبيعة هذه الأسرة، وسموِّ أخلاقها الذي تمثَّل في حيائها، وإلمامها بأخلاق السماء، فشخَّصت الفاءُ كلَّ تلك الدلالات، والمعاني في سرعة الاستجابة من سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ وإنهاء مهمتهما، وإعادتهما إلى بيتهما معزَّزتين، مكرَّمتين:(فسقى لهما)، فلم يذكر السياق القرآني المفعولين، كما أنه وضعهما في ضمير واحد:(لهما) إذكاءً لخلق الحياء، وتعميقًا لأخلاقيات ومشاعر الطهر، وهكذا طبيعة الرجل الكريم، يقابل بالنبل بالنبل، والحياء بالحياء، والطهر بالطهر، فلم يحكي القرآن قائلاً:(فسقى لهما إبلهما ماء، وودَّعهما)، إنما اقتصر على الفعل والفاعل فقط، ثم جاءت العبارة القرآنية الآسرة:(ثم تولَّى إلى الظل)، والفعل:(تولى) بتشكيلته الصوتية، وتشديد اللام، كأنه جرى جرياً، ولم يطل الوقوف مع البنتين، ولم يستغل الموقف معهما أو يعرِّف بنفسه، رغم أنه قد ظهر جلده، وقوته وأمانته وعفته أمامهما، (وتلك من الأمور التي تُطمِع المرأة في الرجال)، لكنْ لم يشأ أن يفعل ذلك ولم يستغل حاجتهما، فقد رباه ربه على عفة الخلق، ونبل الصفات، فتولَّى مباشرة إلى الظل، وأنهى مهمته من غير تعقيب ولا حديث، على الرغم من فاقته وحاجته إلى المال، وكان يمكنه أن يأخذ مقابلا على تعبه الذي طال، لكنه أبى ذلك حياءً ونبلاً، ثم راح يشكو حاجته إلى ربه، فنادى نداء الخاشع الدامع الباكي المفتقر لمولاه الكريم:(فقال رب إني لما أنزلتَ إليَّ من خير فقير)، فحذف ياء المتكلم في:(ربِّ) التي هي ياء نفسه، ياء المتكلم، وهو سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ فكأنه توارى خجلا، وانزوى حياء من ربه، وتضاغط، فلم يعد يرى نفسه، من خشية ربه، وإجلاله، فلم يذكر في رسم المصحف ياء كلمة:(رب)، وإنما حُذِفَتْ ياء المتكلم اجتزاءً واكتفاءً بالكسر قبله: (ربِّ)، ولما ذكر افتقاره وحاجته وتذلله، عاد، فأكده بإنَّ، وذكر ضميره:(إني)، وحذف المفعول:(أنزلته)، وجاء بالصفة المشبهة:(فقير) أيْ قد أكلني الفقر، وشَفَّتْ جسمي الحاجةُ والفاقةُ، والمسغبةُ، ثم تجئ الفاء السريعة التي تبيِّن مكانة موسى ـ عليه السلام ـ عند ربه، الذي استجاب دعاءه، وحققه له في الحال:(فجاءته إحداهما تمشي) هنا في التجويد مدٌّ متصل، ويقابله مدٌّ متصل على الأرض، سرعة استجابة من الله لنبيه موسى ـ عليه السلام ـ والفعل:(وتمشي) مضارع، يفيد استدامة السعي، ودوام المشي منها حتى الوصول، وقال القرآن الكريم في حق تلك البنت الفاضلة:(تمشي على استحياء)، وهنا طريقتان في تلاوة تلك الآية: فلو قرأنا، وقلنا:(تمشي على استحياء) ووقفنا، وبدأنا: قالت ..) لكنا قد جعلنا الحياء في مشيتها دون قولها، ولو قرأنا:(فجاءته إحداهما تمشي)، ووقفنا، ثم تابعنا التلاوة:(على استحياء قالت) لكنا قد جعلنا الحياء في قولها دون مشيها، ثَمَّ إن فصحاء علماء الوقف والابتداء يقرأون هذه الآية هكذا:)فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) ثم يبدأون:(على استحياء قالت إن أبي ..)، فيجعلون بذلك الحياء مشتركًا في مشيها وفي قولها، وهو الذي يتناسب وبنات الأنبياء، فتكون الجملة من قبيل باب التنازع في النحو، حيث تنازع الفعلان:(تمشي) و(قالت) شبه الجملة:(على استحياء)، وكلاهما يريده شبهَ جملة في محل نصب حالاً، واستعمال:(استحياء) بدل (حياء) ليزيد في درجة الحياء، ومنزلته بين الأخلاق، فالاستحياء حياءٌ من الحياء، وهو طلب الحياء، فهن حييات، وحياؤهن حَيِيٌّ فكم يكون هذا الحياء ؟!، وكيف بهما، وهما على هذه الصفة الجليلة؟!، فهما يمشيان في حياء، داخل في حياء، محوط بحياء، مشتمل على حياء، فهما يتقاطران حياءً: قولا، ومشيا، وسلوكًا، وعفةً، حتى عندما حدثاه قالت إحداهما له:(إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) فقد اقتصرت في قولها على الجملة الاسمية المؤكَّدة، دون مزيد حديث، وحذفت مفعوليْ الفعل:(سقى) ولم تقل: (ليجزيك أجر ما سقيت لي)، مع أنها جاءته وحدها، ودون أختها، لكنها لم تنسَ أختها، ولا عائلتها حتى لا تُظهِر له أنه خصَّها وحدها بذلك، ولا أنها تشكره دون أختها، ودون أبيها.
ثم تختم الآية بقوله سبحانه:(فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخفْ نجوتَ من القوم الظالمين)، فعاد التركيب ممتدًّا، وجاء العطفُ والمفعولُ به، والردُّ عليه، والصفة، ونحوها من وسائل، وإمكانات امتداد التركيب، فامتدَّ التركيب، فهما رجلان، ونِعْمَ الرجلان، والنبيَّان، وغاب هنا حديث النساء، وبدأت الأسرتان في النسب، والمصاهرة وكان الحياءُ أساسًا في ذلك، وأعطتنا اللغة أثوابها الحيية، وقواعدها الجلية لتظهر هذاك الحياءَ بكل أشكاله اللغوية وأساليبه، وأنماطه التركيبية.
اللهم علِّمْنَا ما ينفعنا، وارزقنا فهم اللغة، وجمالها وجلالها ، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية
[email protected]