الْحَمْدُ للهِ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْـلَمْ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، خَلَقَ الإِنْسَانَ وَوَهَبَهُ اللِّسَانَ وَالْبَيَانَ، لِيُتَرْجِمَ الْفِكْرَ وَيُعَبِّرَ عَنْ مَكْنُونَاتِ الْجَنَانِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَبْـلَغُ الْخَلْقِ مَقَالاً وَأَصْدَقُهُمْ فِعَالاً، أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، فَشَكَرَ الْوَاهِبَ الْمُنْعِمَ، (صلى الله عليه وسلم) وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ذَوِي التُّقَى وَالْهِمَمِ، وَعَلَى مَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَدَعَا بِدَعْوَتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَا بَعْدُ، فـ)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (آل عمران ـ 102)، إِنَّ مِمَّا حَفِظْتُمُوهُ صِغَارًا، وَوَعَيْـتُمُوهُ كِبَارًا، أَنَّ أَوَّلَ أَمْرٍ نَزَلَ عَلَى نَبِيِّكُمْ (صلى الله عليه وسلم):(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (العلق 1 ـ 2)، كَلِمَةٌ ابْـتَدَأَ بِهَا وَحْيُ اللهِ، وَافْـتُتِحَ بِهَا مَا لُقِّنَ رَسُولُ اللهِ، لا شَكَّ أَنَّهَا كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأَمْرٌ جَلِيلٌ، يُرِيدُ اللهُ أَنْ يَلْفِتَ لَهُ عِنَايَةَ الْبَشَرِيَّةِ، وَيُعَظِّمَ شَأْنَهُ فِي قُلُوبِ الأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَهَذِهِ اللَّفْتَةُ الْقُرْآنِيَّةُ لِلْقِرَاءَةِ، هِيَ خَيْرُ دَلِيلٍ وَإِشَارَةٍ، عَلَى مَقَامِ الْمَخْطُوطِ، وَأَهَمِّيَّةِ الْعِنَايَةِ بِالْمَكْتُوبِ، وَعِظَمِ أَمَانَةِ الْقَلَمِ، وَأَثَرِهِ الْبالِغِ فِي رُقِيِّ الأُمَمِ، لِنَجِدَ الآيَاتِ تَتَابَعُ فِي بَيَانِ مَنْزِلَتِهِ، وَكَبِيرِ مَكَانَتِهِ، مَعَ تَكْرَارِ الأَمْرِ بِالْقِرَاءةِ مَقْرُونَةً بَاسِمَ الْوَاحِدِ الْمُنْعِمِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمَا أَسَاسُ الْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ:(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( (العلق 3 ـ 5)، بَلْ يَكْفِي الْقَلَمَ شَرَفًا وَجَلالاً أَنْ أَقْسَمَ بِهِ رَبُّ الْعِزَّةِ إِكْبَارًا وَإِجْلالاً، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم ـ 1، وَفِي هَذَا مَا يَكْفِي عِبْرَةً لأُولِي الْعُقُولِ وَالإِيمَانِ، وَدَلالَةً لَهُمْ عَلَى خَطَرِ مَا تَخُطُّهُ الأَيْمَانُ، فَالْقَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ، وَلِلْعِلْمِ أَحَدُ الْمَوْرِدَيْنِ، وَمِنْ هُنَا نَجِدُ لِلْكَلِمَةِ سِحْرَهَا، وَلِلْعِبَارَاتِ صَدَاهَا وَأَثَرَهَا، تُهَيِّجُ الْقُلُوبَ وَالْمَشَاعِرَ، وَتَبْعَثُ الأَفْكَارَ وَالْخَوَاطِرَ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْمُصْطَفَى (صلى الله عليه وسلم):(إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا).
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ:
لَقَدْ فَرَّقَ اللهُ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ، بَيْنَ الْقَوْلِ الطَّيِّبِ وَالْقَوْلِ الذَّمِيمِ، فَقَالَ تَعَالَى:(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ) (إبراهيم 24 ـ 26)، وَدَعَا إِلَى انْتِقَاءِ الْحَسَنِ وَالْبُعْدِ عَنْ كُلِّ قَوْلٍ مُسِيءٍ، فَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ:(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّـهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ) (البقرة ـ 83)، وَبَيَّنَ بِجَلاءٍ أَنْ هُنَاكَ رِقابَةً عُلْيَا عَلى كُلِّ قَائِلٍ وَكَاتِبٍ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مُؤَاخَذٌ وَمُحَاسَبٌ )مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق ـ 18)، حَتَّى إِذَا عَلِمَ الْمُؤْمِنُ الْعَاقِلُ خَطَرَ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، حَرَصَ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ لا تَكْتُبَ بَنَانُهُ، وَلا تَخُطَّ يَمِينُهُ، إلا بَعْدَ طُوْلِ تَفْكِيرٍ فِي الإِيجَابِيَّاتِ وَالسَّلْبِيَّاتِ، وَحُسْنِ تَأَمُّلٍ فِي الْعَوَاقِبِ وَالْمَآلاتِ، فَيَعْمِدُ إِلَى الْفِكَرَةِ السَّدِيدَةِ فَيَنْتَقِيهَا، وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ فَيَجْـتَبِيهَا، لِيَصُوغَ لِقُرَّائِهِ أَجَمَلَ الْعِبَارَاتِ، وَأَرْوَعَ الْمَقَالاتِ، فِي نَسَقٍ مُتَكَامِلٍ مَبْنًى وَمَعْنًى، يَقُودُهُ الإِخْلاصُ لِرَبِّهِ، وَتُرْشِدُهُ حاجَةُ مُجْـتَمَعِهِ، لِيَسِيرَ وَالْعِنَايَةُ الإِلَهِيَّةُ لَهُ مُؤَيِّدَةٌ .
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ الْمُجْـتَمَعَ وَهُوَ يَعْـقِدُ عَلَى كُتَّابِهِ الآمَالَ، إِنَّمَا يَضَعُ عَلَى أَعَنَاقِهِمْ مَسْؤُولِيَّةَ الْكَلِمَةِ وَيُحَمِّلُهُمْ أَمَانَةَ الأَقْلامِ. وَأَمَانَةُ الْقَلَمِ مَا حُمِّـلَتْ إِلاَّ لِرِعَايَةِ الْمَبَادِئِ وَالْقِيَمِ، وَخِدْمَةِ الأَخْلاقِ وَالشِّيَمِ، وَمِنْ هُنَا نَجِدُ الْكَاتِبَ الْعَاقِلَ، فِي تَأَمُّـلٍ دَائِمٍ، وَنَظَرٍ حَازِمٍ، فِي حَاجَةِ مُجْـتَمَعِهِ، وَالْقَضَايَا الَّتِي تَخْدِمُ بِنَاءَ أَمْجَادِهِ، وَتَرْفَعُ لِوَاءَ قِيَمِهِ، جَامِعًا بَيْنَ الأَصَالَةِ وَالْمُعَاصَرَةِ، مُدْرِكًا لِلثَّوَابِتِ وَالْمُتَغَيِّرَاتِ، فَيَسْـتَقِي مِنْ تُرَاثِ أُمَّـتِهِ مَا يُسْهِمُ فِي رِفْعَةِ حَاضِرِهَا، وَيَسْـتَعِينُ بِالْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ، مَا يُحْسِنُ بِهِ تَنَاوُلَ قَضَايَاهَا، مُرَتِّبَا أَوْلَوِيَّاتِهَا، وَمُرَكِّزًا عَلَى مُهِمَّاتِهَا، مُرَاعِيًا مُتَطَلَّبَاتِ الزَّمَانِ، وَمُتَغَيِّرَاتِ الظُّرُوفِ وَالأَحْوَالِ، مُتَمَسِّكًا بِمَبَادِئِ الْوَسَطِيَّةِ وَالاعْـتِدالِ، فَإِنَّهَا خَصِيصَةُ هَذِهِ الأُمَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:(وكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّـهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (البقرة ـ 143)، فَلا إِفْرَاطَ وَلا تَفْرِيطَ، وَلا مُبَالَغَةَ وَلا تَهْوِيلَ، بَلْ وَاقِعِيَّةٌ مُتَّزِنَةٌ، وَمِصْدَاقِيَّةٌ حَكِيمَةٌ، نَائِيًا بِنَفْسِهِ عَنْ كُلِّ دَعْوَةٍ إِلى التَّطَرُّفِ أَوْ التَّمْيِيعِ، سَاعِيًا إِلى الأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، مِنْ غَيْرِ تَنَازُلٍ عَنِ الْمَبَادِئِ الْعَالِيَةِ، أَوْ بَيْعٍ لِلثَّوَابِتِ الرَّاسِخَةِ، أَوْ انْسِلاخٍ مِن الْهُوِيَّةِ، حَذِرًا مِنَ الاغْتِرَارِ بِالشِّعَارَاتِ الْبَرَّاقَةِ، وَالدَّعَاوَى اللامِعَةِ الَّتِي تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَتُمَزِّقُ وَلا تَجْمَعُ، دَعَاوَى الإِفْسَادِ الَّتِي تَلْبَسُ ثَوْبَ التَّجْدِيدِ وَالإِصْلاحِ، أَوْ دَعَاوَى الْعُنْفِ وَالتَّكْفِيرِ، مُدْرِكًا أَنَّ كُلَّ هَؤُلاءِ مُرْجِفُونَ، وَعَنِ الإِسْلامِ السَّمْحِ مُنَفِّرُونَ، )وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ) (البقرة 11 ـ 12)، بَلْ مُهِمَّةُ الْكَاتِبِ الأَمِينِ، التَّحْذِيرُ مِنْ كُلِّ دَعْوَةٍ تَزْرَعُ الْقَلاقِلَ، وَتُثِيرُ الْبَلابِلَ، وَكُلِّ إِشَاعَةٍ كَاذِبَةٍ أَوْ أُطْرُوحَةٍ مُغْرِضَةٍ؛ لَقَدْ تَعَلَّمَ فِي مَدْرَسَةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) التَّسَامُحَ الْمُعْـتَدِلَ، وَالْوَسَطِيَّةَ الْمُتَّزِنَةَ، وَالْوُقُوفَ عَلَى الْمَبَادِئِ كَالْجِبَالِ الرَّاسِخَةِ، لا تَلْعَبُ بِفِكْرِهِ الأَمْوَاجُ، وَلا تُزَعْزِعُهُ التَّيَّارَاتُ، فَأَدْرَكَ أَنَّهُ لا يَعِيشُ لِذَاتِهِ، بَلْ لِمُجْـتَمَعِهِ وَأُمَّـتِهِ، فَلا يَسِيرُ خَلْفَ الشُّهْرَةِ، وَلا تَخْدَعُهُ الأَضْوَاءُ، فَكَانَ قَلَمُهُ تَجْسِيدًا لَكُلِّ ذَلِكَ، وَتَرْجَمَةً لِهَذَا الْفِكْرِ النَّيِّرِ.
فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَأَخْلِصُوا للهِ مَا تَقُولُونَ وَتَكْتُبُونَ، وَتَحَسَّسُوا حاجَةَ مُجْـتَمَعِكُمْ فِيمَا تَنْطِقُونَ وَتَخُطُّونَ .
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.

الْحَمْدُ للهِ خَلَقَ الْخَلْقَ وَمَنَحَهُمُ الطَّاقَاتِ وَالْمَوَاهِبَ، وَنَوَّعَ فِيهِمُ الْمَلَكَاتِ وَالْمَدَارِكَ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْـلٌ مِنَ الْحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (صلى الله عليه وسلم) وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أُولِي الفَضْـلِ وَالمَكْرُمَاتِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ:
إِنَّ أَمَانَةَ الْقَلَمِ تَقْـتَضِي أَنْ يَعْرِفَ الإِنْسَانُ مَوْقِعَهُ، وَيُدْرِكَ حَجْمَهُ فِي سُلَّمِ الْمَعْرِفَةِ وَمَكَانَتَهُ؛ حَتَّى لا يَتَسَوَّرَ مَا لا طَاقَةَ لَهُ بِهِ، وَيُقْحِمَ نَفْسَهُ فِيمَا لا يَعْـلَمُهُ، أَوْ يُقَصِّرَ فِي تَبْـلِيغِ مَا يَعْـلَمُهُ، بَلْ يَسْعَى إِلى إِفَادَةِ النَّاسِ دُونَ خَوَرٍ أَوْ تَوَاضُعٍ مَذْمُومٍ، مُدْرِكًا مَسْؤُولِيَّةَ الدَّعْوَةِ إِلى الْخَيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَيُمْسِكُ عَمَّا لا يُحْسِنُهُ نَائِيًا عَنْ التَّعَالُمِ وَالْغُرُورِ) (النحل ـ 125)، (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الاسراء ـ 36)، فَالْعِلْمُ بَحْرٌ لا سَاحِلَ لَهُ، وَلَيْسَ لِبَشَرٍ أَنْ يُحِيطَ بِحُدُودِهِ، بَلْ يَغْتَرِفُ مِنْه مَا اسْـتَطَاعَ، ثُمَّ يُبَلِّغُ مَا عَلِمَ قَدْرَ الْمُسْتَطَاعِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ احْـتِرَامُ التَّخَصُّصَاتِ، وَتَقْدِيرُ أَهْـلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ كَتَبَ اللهُ لَهُمُ الْمَكَانَةَ )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّـهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة ـ 11)، مُدْرِكًا حِكْمَةَ اللهِ فِي تَنَوُّعِ الْمَعَارِفِ، وَاخْتِلافِ الْمَدَارِكِ؛ لِيَتَكَامَلَ الْبَشَرُ وَيَتَعَاوَنُوا، فَلا يَتَحَدَّثُ فِي غَيْرِ فَنِّهِ حَتَّى لا يَأْتِيَ بِالْعَجَائِبِ، بَلْ يَرْجِعُ فِي كُلِّ اخْتِصَاصٍ إِلى أَهْـلِهِ، وَيَسْأَلُ أَهْـلَ الذِّكْرِ فِيمَا قَصَرَ عَنْهُ عِلْمُهُ:(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (الانبياء ـ 7)، فَحَرِيٌّ بِأَهْـلِ الأَقْلامِ أَنْ يَحْذَرُوا اقْتِحامَ الْعُلُومِ دُونَ تَمَكُّنٍ وَدِرَايَةٍ، لا سِيَّمَا أَحْكَامُ الدِّيْنِ وَتَشْرِيعَاتُهُ، وَتَأْوِيلُ الْقُرْآنِ وَآيَاتُهُ، وَالْخَوْضُ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، أَوْ أُصُولِ الدِّينِ الْمُقَرَّرَةِ، فَذَاكَ أَمْرٌ جَلَلٌ جَسِيمٌ، وَتَقَوُّلٌ عَلَى اللهِ عَظِيمٌ، نَفَّرَ الْقُرْآنُ مِنْهُ أَشَدَّ التَّنْفِيرَ، وَحَذَّرَ مِنْهُ غَايَةَ التَّحْذِيرِ، بَلْ قَرَنَهُ بِالشِّرْكِ بِاللهِ، تَأَمَّـلُوا ـ رَعَاكُمُ اللهُ:(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ) (الأعراف ـ 133).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
أَنْتُمْ فِي زَمَنِ التِّقْنِيَّاتِ، وَتَنَوُّعِ وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ وَالاتِّصَالاتِ، زَمَنٌ سَهُلَ فِيهِ الْوُصُولُ إِلَى الْعِلْمِ وَتَبْـلِيغُهُ، وَتَعَدَّدَتْ فِيهِ مَنَابِعُهُ، وَتَيَسَّرَتْ فِيهِ مَشَارِبُهُ، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ كُبْرَى مَتَى مَا أُحْسِنَ اغْـتِنَامُهَا وَتَثْمِيرُهَا، وَهِيَ بَلاءٌ عَلَى مَنْ أَسَاءَ اسْـتِخْدَامَهَا، فَحَرِيٌّ بِنَا أَنْ نُوَجِّهَهَا لِمَا فِيهِ رِفْعَةُ الْمُجْـتَمَعِ وَقِيَمِهِ، وَحِرَاسَةُ الدِّينِ وَشَرَائِعِهِ، مُغْتَرِفِينَ أَحْسَنَ الْمَكْتُوبِ وَالْمَنْشُورِ، وَدَاعِينَ فِيهَا إِلى كُلِّ خَيْرٍ، نَمْـشِي فِيهَا بِعِلْمٍ وَحَذَرٍ، وَوَعْيٍ بِالْفَائِدَةِ وَالْخَطَرِ، فَنَنْأَى بِأَنْفُسِنَا عَنِ الاغْتِرَارِ بِالشِّعَارَاتِ أَوْ تَقَـبُّلِ الأَرَاجِيفِ وَالإِسْهَامِ فِي نَشْرِ الشَّائِعَاتِ .
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى إِمَامِ المُرْسَلِينَ، وَقَائِدِ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيمًا:(إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الاحزاب ـ 56).
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلَّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنْ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُومًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُومًا، وَلا تَدَعْ فِينَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُومًا.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ وَالمُسْلِمِينَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظَّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا ذَا الجَلالِ وَالإِكْرَامِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ بِكَ نَستَجِيرُ، وَبِرَحْمَتِكَ نَسْتَغِيثُ أَلاَّ تَكِلَنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ، وَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ يَا مُصْلِحَ شَأْنِ الصَّالِحِينَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِ نِعْمَتَكَ، وَأَيِّدْهُ بِنُورِ حِكْمَتِكَ، وَسَدِّدْهُ بِتَوْفِيقِكَ، وَاحْفَظْهُ بِعَيْنِ رِعَايَتِكَ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا فِي ثِمَارِنَا وَزُرُوعِنَا وكُلِّ أَرْزَاقِنَا يَا ذَا الجَلالِ وَالإِكْرَامِ. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ:(إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل ـ 90).