قال الله تعالى حديثاً عن الزوجين اللذين لا يستطيعان مواصلة الحياة الزوجية:(وإن يتفرقا يُغنِ الله كلاًّ من سعته وكان الله واسعاً حكيماً), وقال تعالى يخاطب المؤمنين ليحافظوا على شخصيتهم وعقائدهم:(يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم).
وأظنك تتساءل كما تساءل من قبلك , لماذا ذكر في هذه الآية قوله:(إن شاء), ولم يذكر في الآية السابقة؟ مع أن كل شئ بمشيئته سبحانه؟ والذي يلوح في الذهن ــ والله أعلم بما ينزل ــ أن الآية الأولى جاءت خطاباً لبعض الأفراد الذين تعسر عليهم مواصلة المسيرة مع أزواجهم رجالا كانوا أم نساء,فأراد الله تبارك وتعالى أن يبين لهم سعة فضله وواسع رزقه, وعظيم تيسيره, أما الآية الثانية فجاءت خطاباً للأمة, والأمة لا بد أن تتعود التضحية للمحافظة على عقائدها ومقدساتها مهما كلفها ذلك من ثمن, وقد يؤدي بها ذلك الى أن تحرم بعض المكاسب, وتتحمل كثيراً من الأعباء ولذا ذكر فعل المشيئة في هذه ان الاعجاز البياني ليس حديثاً عن جمال وروعة التعبير فحسب, بل هو مع ذلك يشتمل على سمو التوجيه, فهو ينظم شؤون الحياة كلها.
وهذه آية أخرى نستأنس بها لهذا الاستنتاج ونستعين بها على ما ذهبنا اليه وهي قوله سبحانه:(وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم), فهذه الآية كما نرى لم تتقيد بالمشيئة لأنها حديث عن شؤون بعض الأفراد والأسر, فهي شبيهة بالآية الأولى:(وإن يتفرقا يُغنِ الله كلاًّ من سعته), لكن تلك الآية في شأن انفصال كل من الزوجين عن الآخر, وهذه تأمر بتزويج الأيامى, والأيم من لا زوج له ذكرا أو أنثى.
يقول الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً), مع أن أكثر المنهيات كانت تلي حرف النهي مباشرة, (ولا تقتلوا أولا دكم), (ولا تقربوا الزنى), (ولا تقربوا مال اليتيم), (لا يسخر قوم من قوم), (ولا يغتب بعضكم بعضا).
ولكن آية النساء جاء نسقها غير هذا كله, فلم يقل فيها (لا ترثوا النساء كرها).
ولقد وقفت عند هذا النص الكريم أبحث عن سر التغاير, وبضم الآيات التي تشبه هذه الآية بعضها الى بعض مثل قوله تعالى:(ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً).
ظهر لي والله أعلم ولله الحمد والمنّة, أن هذه الكلمة انما تجئ بجانب الأمور, أو بجانب القضايا التي كان الناس يزاولونها دون أن يروا بها بأساً أو حرجاً, أما غيرها من المنهيات فهي أمور تنفر منها الطباع أو ينكرها العرف, فالقتل والزنا وأكل مال اليتيم وأكل أموال الناس بالباطل لا يقرها عقل ولا يحلها شرع, أما التحكم في النساء, ووراثتهن كرها فإنها تختلف عن الأمور السابقة حيث رأينا أن بعض التشريعات والقوانين عند الأمم المتمدنة المتحضرة, كانت تجيز هذه الى عهد قريب, وهنا تبرز دقة التعبير في كتاب الله في مخاطبة النفس الانسانية فالأمور المتفق على تحريمها تلي حرف النهي (لا تقربوا), (لا تأكلوا), (ولا تقتلوا النفس), أما ما يظنه بعض الناس حقا لا مرية فيه ولا غبار عليه, فإننا نجد القرآن الكريم يعبر عنه بأسلوب آخر حيث يلي حرف النهي هذه الجملة (يحل).
قولوا لي بربكم, أتكون هذه الدقة والموضوعية, وهذه الفروق في التعبير في كلام الناس؟ لا, ولا ألف لا .. إن الله الذي خلق كل شئ فقدره تقديراً هو الذي أنزل هذا الكتاب محكما فقدر ألفاظه كذلك تقديرا يتلاءم مع موضوعاته من جهة, ومع نفوس المخاطبين وعقولهم من جهة أخرى, (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير).