لا شك أن تجارة المخدرات من الجرائم السياسية، برغم ما يحيط بهذا المفهوم من غموض وتعقيد، لكن يتفق الجميع في النهاية على أنها كل ما يضر بنظام الدولة السياسي ويخل به، وهو ماتفعله بالضبط هذه التجارة السوداء.تعتبر مكافحة المخدرات من العمليات المرهقة والعصيبة جدا التي تواجهها الدول، فمافيا المخدرات ليس لديها أي مانع من مواجهة جيش بكامل عتاده الحربي نظرا لما تتمتع به عناصرها من قوة تسليحية توازيه، أضف الى ذلك تلك الميزانية الضخمة التي تلبي كافة احتياجاتها في أي وقت تشاء، وهو ماجعل بعض دول العالم تسمح بمشروعية استهلاك المخدرات، مثل أميركا "المستهلك الاول" لنبات الحشيش والكوكايين، وبعض الدول الاوروبية كألمانيا وإيطاليا، شرط تنظيم امتلاكه بكميات محدد.إن الحديث عن تجارة المخدرات، يقودنا الى أسماء كثيرة في عالم "بارونات المخدرات" ـ وهو لقب يشير لزعامة أو رئاسة شبكة إجرامية تعمل بهذا المجال ـ ، لكن سيظل أشهر تلك الاسماء تاريخيا، هو الكولومبي بابلو إسكوبار.أفلام درامية ووثائقية ومسلسلات عديدة عرضت قصة حياة هذا الارهابي أكبر تاجر مخدرات عرفه العالم، لكننا اليوم نقف أمام شخصية ربما لم يعرفها الكثيرون، الا انها حفرت اسمها في عالم تجارة الكوكايين بقوة، كأفضل موزع لتلك المادة المخدرة في حقبة الثمانينات بفضل مهارته وفطنته التي كانت سببا في هلاكه.صناعة اميركية (American Made): فيلم جريمة وسيرة ذاتية للطيار الاميركي باري سيل، من انتاج وتوزيع شركة "يونيفرسل ستوديوز"، قام بتأليفه جاري سبينيللي بينما اخرجه دوج ليمان الذي عرفناه في أعمال الجاسوسية والتشويق كـ" The Bourne Identity " و" Mr. & Mrs. Smith".ينجح ليمان بالعودة بنا الى حقبة السبعينات وبداية الثمانينات، في أزياء وديكورات متجانسة مع تلك الفترة وتصوير متناسق مزج فيه أسلوبين، أحدهما اعتمد على الكاميرا المحمولة، وهو أسلوب ليس بجديد في عالم السينما حيث يستخدم في الاعمال الوثائقية وادخله المخرجين الى عالم السينما، حين يريدون ان تكون التفاصيل دقيقة وقريبة من المشاهد اكثر بالاضافة الى كاميرات التصوير العادية، الاسلوب الثاني لم يستخدمه الكثيرون، فهو يعتمد على حبكة العمل في الاصل، حيث يقوم البطل بسرد صوتي وكأنه يحكي للمشاهد ماحدث.الفيلم بطولة نجم شباك التذاكر توم كروز، الذي يقرر سريعا ارتداء ثوب "يناسبه" بعد سقطة عمله الأخير.، فهو لم يستحق لقب "نجم شباك التذاكر" من فراغ، فوسامته ونجوميته التي جعلته محبوبا، مكنت أعماله من نيل شهرة عالمية ومراكز متقدمة بشباك التذاكر، وهو من النجوم القلائل الذي ظل محافظا على مستواه منذ أن شاهدناه في أول بطولة مطلقة له بـ "Risky Business".يصبح كروز طيارا من جديد، فقد شاهدناه قبل ذلك مقاتلا على إف ـ 14 في " Top Gun"، لكنه سيقود هذه المرة عددا من الطائرات الخاصة مجسدا دور الطيار الاميركى الشهير "بارى سيل" ، الا ان كروز يعتزم قيادة المقاتلات من جديد وذلك العام القادم في الجزء الثاني المرتقب من Top Gun الذي يحمل عنوان" Top Gun: Maverick".اعتاد كروز على تأدية أدوار المجازفة، ويعتبر المخرج ليمان انه شجاع حقيقي، مؤكدا انه يقوم بحركات الطيران بنفسه دون الاستعانة بـ"دوبلير"، وهو يعرفه جيدا ، حيث أن هذا العمل يعد التعاون الثاني بينهما بعد "Edge of Tomorrow".يشارك في العمل سارة رايت في دور "لوسي" زوجته، دومينال جليسون يقوم بدور عميل المخابرات "مونتي شايفر"، وعددا اخر من الممثلين في ادوار مساعدة لم تنل قدرا من الاهتمام برغم قوة حضورها بالقصة الحقيقية، كتاجر المخدرات المشهور بابلو إسكوبار، الذي تحدثت عنه في بداية المقال.سيناريو الفيلم يشوبه قصور، من حيث سرد الاحداث الحقيقية للقصة، يمكننا القول إن الكاتب اكتفى بتسليط الضوء على قصة حياة الطيار دون الخوض في تفاصيل اخرى مرهقة، لو بحثت عنها في محرك البحث جوجل ستجدها، ككيفية ادارة عمليات التهريب تحت إدارة ودعم سلطات الولايات المتحدة وبعلم من رئيسها آنذاك. لذا جاءت مراجعتي النقدية وفق ما أشار اليه العمل من حياة بطله فقط وعدم الخوض بالصراعات التي حدثت في اميركا الوسطى وما تلاها من أحداث اثرت على سير الحرب الباردة، حتى يومنا هذا....................................أحداثباستعراض سريع لحقبة الحرب الباردة، يبدأ المخرج شريطه عبر لقطات أرشيفية، نعيش فيها معه أجواء تلك الفترة ، لنلتقي بباري سيل الذي يعمل طيارا بشركة "تي دبليو إيه".يحظى سيل بحياة عائلية مستقرة، بجانب زوجته الجميلة لوسي وطفلين، ولزيادة دخله يقوم من حين الى أخر بتهريب "السيجار الكوبي" اثناء رحلاته الجوية، الى أن يفتضح امره في احداها، وذلك على يد عميل الـ"سي أي آيه" مونتي شايفر، الذي يعرض عليه العمل لديهم وتوظيف مهارته تلك في خدمة بلاده....................................حياة جديدةتنقلب حياة سيل رأسا على عقب بعد اندفاعه وموافقته دون تخطيط، على العمل لدى الـ"سي أي آيه"، بدافع الطمع في مال اضافي والبحث عن طرق سريعة للثراء وحياة أكثر جنونا واثارة، حيث ستكون مهمته السرية، الاقتراب من مناطق النزاع الى جنوب الولايات المتحدة وحتى شمال خط الاستواء، المسماة انذاك بدول اميركا الوسطى "المكسيك ـ جواتيمالا ـ بنما ونيكاراجوا "، المدعومين من الاتحاد السوفييتي والملقبين أميركيا بـ"اعداء الديمقراطية". وبحسب تعليمات شايفر سيكون على سيل الاقتراب من تلك المناطق وتصويرها بواسطة كاميرات مثبتة أسفل طائرة صغيرة متطورة تابعة للاستخبارات الاميركية.ثقة الاستخبارات في سيل، واعجابهم بمهارته، دفعتهم لتوكيله مهمة جديدة في بنما، يقوم فيها بدور الوسيط بينهم وأحد الجنرالات هناك يدعى نورييجا، الذي كان يبيع للاستخبارات المعلومات حول الشيوعيين....................................مافياأحلام مافيا المخدرات الكولومبية بالانتشار العالمي، تجد طريقها للتنفيذ، حين يعرض افراد منظمة " كارتل ميديلين" الاجرامية بقيادة بابلو إسكوبارعلى سيل، مهمة تأمين حمل طرودهم من مخدر الكوكايين، من كولومبيا إلى عدد من بلدان الولايات المتحدة، بدءا من لويزيانا، وذلك مقابل مبالغ ضخمة من المال، سنرى انها تتضاعف في كل مرة زادت بها كمية الطرود.يلقى القبض على سيل في كولومبيا بتهمة الاتجار بالمخدرات، لكن شايفر يخرجه ويؤمن منزلا جديدا له ولعائلته بإحدى المدن النائية في ولاية أركنساس اسمها "مينا"، بعيدا عن إزعاج إدارة مكافحة المخدرات الـ" دي إيه آيه" التي كانت قد فتحت عينها عليه، كل ذلك يتم بعد اتفاق جديد بين سيل وشايفر، يقضي بتأمين الأول نقل أسلحة لقوات "الكونترا" الذين يقاتلون الشيوعيين في نيكارجوا.يصبح لدى سيل مطار صغير به اسطول من الطائرات تحت إمرته لاستخدامه في عمليات نقل السلاح، ويستعين ببعض من الطيارين المحترفين الذين يساعدونه أيضا في تنفيذ عمليات تهريب ضخمة للكوكايين.يصاب سيل بالجشع وتتكدس أمواله التي لا يجد مكانا لإيوائها، بعد ان ملأت المستودعات، اضف الى ذلك تماهيه في علاقته وإرتباطاته مع تجار المخدرات لدرجة أنه اصطحب زوجته داخل معاقلهم، بدافع كسب الثقة والمودة....................................نهاية متوقعةوكأن أميركا كلها تبحث عن سيل، فمن مكافحة الكحوليات، مرورا بمكافحة المخدرات، وصولا الى شرطة الولاية، يهاجم رجال تلك الوكالات المختصة بإنفاذ القانون منزل سيل الذي قد بدأ بإخفاء كل مايدينه بعد تخلي الاستخبارات عنه، عقب إغلاق برنامج تدريب قوات الكونترا بعد فشلهم في تحقيق أهداف إدارة الرئيس الاميركي رونالد ريجان أنذاك.البيت الابيض سيكون المنقذ لسيل تلك المرة ، حيث استغلوا تقاربه مع أباطرة المخدرات، للحصول على دليل تورط الشيوعيين في تلك التجارة، وذلك عبر التقاط صور لهما في احدى صفقات التبادل، واستخدامها لإدانتهم والحصول على الدعم العالمي.بالفعل يتم استخدام تلك الصور ضدهم، وعرضها على شاشات التلفزيون، ويتم حينها إدانة سيل والحكم عليه بخدمة المجتمع في احدى المؤسسات الدينية التابعة للكنيسة، وذلك لظهوره في الصور، ويتوعده افراد الكارتل بالانتقام ، حتى يغتالوه بالرصاصفي 16 فبراير 1986.صناعة أميركية.. يستحق الاهتمام فبجانب مايحتويه من إثارة وأكشن، فإنه يحمل بين لقطاته العديد من المواقف الكوميدية المرحة الخفيفة، يرصد الحالة التي كانت عليها الولايات المتحدة في السبعينات، تلك الفترة التي شهدت منافسة شرسة بينها وبين الاتحاد السوفيتي، والتي كان يطلق عليها اسم "الحرب الباردة".وبرغم بساطة حبكته وتشابهها نوعا ما مع كثير من الاعمال التي شاهدناها من قبل، الا انه يظل يتميز بعنصر التشويق الذي يأسرك من بداية دقائقه حتى نهايتها التي جاءت متوقعة دون الرجوع للبحث عن القصة الحقيقية لسيل. رؤية : طارق علي سرحان [email protected]