في ظل الانتشار الواسع للبرامج والفعاليات الثقافية، ومشاركة الشعراء الشباب في عدد من الأمسيات الشعرية المقامة بالمراكز والأندية والجامعات والكليات بمختلف محافظات السلطنة، تظهر في بعض الأمسيات المقامة بمؤسسات التعليم العالي على وجه الخصوص قصائد يبني الشاعر اختياره لها حسب توجهات جمهور الأمسية الشعرية، متجاوزًا بذلك الانتقاء المبني على شاعرية النص الملقى وقيمته الأدبية إلى الانتقاء الذي من الممكن أن يثير تفاعلًا وقبولًا واسعًا لدى الجمهور المتلقي.وهنا يصبح اختيار الشاعر للنصوص الملقاة حسب المكان والزمان والمناسبة التي يشارك فيها أمر مهم للغاية، يساعده على تجسيد الحضور البهي للشعر في مختلف الفعاليات، ويأصل الاهتمام البالغ به لتقديم الإضافة الجمالية لكل محفل، وهو أمر يشرف الشاعر ويزيد من شعوره بالامتنان للشعر الذي يمنحه كل هذا التقدير، وحقيق بنا أن نفتخر بالكثير من الشعراء العمانيين الذين أضافوا للمنابر، وأبهروا المستمع بروائعهم المدفوعة بشغفهم المعتاد لخلق الدهشة وإبهار المتلقي، وهو أمر لا يتأتى إلا بعد كثير من التجارب في مختلف الفعاليات والأمسيات، والقرب من المتلقي إلى جانب الإخلاص للشعر، وعدم النزول بالذائقة الشعرية لمستوى تشعر فيه الأذن بانزعاج وعدم تقبل.ورغم كل هذا الجمال المتحقق لدى الكثير من الشعراء العمانيين، وشعورهم بالمسؤولية تجاه الشعر، إلا أنه لا يزال حاضرًا في بعض المحافل الشعراء الذين ينحدرون بالقصيدة لما دون المعنى المُتقبَّل٬ ومما لا ينبغي عرضه على مسارح مليئة بالجماهير الشعبية، حين يتخذ الشاعر الوزن والقافية لباسًا يسرد منه ما يمكن أن يندرج دون الحد الأدنى من الحياء والشاعرية، وهو ما يشعر فيه المتلقي بإيذاء لذائقته السمعية، وتشكيك بمدى جدارة اعتلاء الشاعر لهذه المنصة عند تجاهله لرسالة الشعر والجماليات يجب أن يطعم بها قصيدته لتصل الفكرة بإحتفاء للجمهور.ومع إقامة الكثير من الفعاليات بمؤسسات التعليم العالي ومشاركة الشعراء الشباب في معظم هذه الأمسيات، وقرب الشعر الغزلي أو القصائد العاطفية للجمهور، ومتعته للاستماع لها خصوصًا في هذه المرحلة العمرية، نجد أن بعض الشعراء الشباب قد يتطرق في بعض قصائده للجوانب التي قد تبرز فيها الجرأة بشكل جلي ويقع فيها بمستنقع السطحية التي تبتعد كل البعد عن الشاعرية التي يجب أن تغلف بها كل المواقف والمشاعر بما فيها الغزل والعاطفة، وتقديم هذه الأفكار بما يليق بالشعر دون إسفاف أو دونية.ومن خلال تفاعل عدد من الجمهور مع مثل هذه القصائد قد يتوهم الشاعر بأن مثل هذا التصفيق والابتسامات هي شهادات رضى وإعجاب بقصيدته ومقياس لمدى بلوغه لمستوى يضعه ضمن الشعراء الذين يضيفون الجمال والتفاعل في كل أمسية، دون إسقاط هذه القصيدة على جوانب قد تعين على تقييم الشاعرية أو الجزالة أو الفكرة أو الإبتكار وغيرها من العوامل التي تعلي من شأن القصيدة ولا تحصرها عند تفاعل الجمهور فحسب، إذ أن التفاعل لوحده قد يكون بحضور الشاعرية ونقيضها. وحيث أن الأمسيات هي معرض لجمال الشعر، وتقديم لجزء من تجربة الشاعر فيجب من خلالها أن يكون حريصا على تقديمها بما يعكس ما بلغ من مستوى شعري، في ظل تنوع الحضور، وإختلاف ذوائق الجمهور وميولهم الشعرية.ومع الإيمان بأن حضور القصيدة وتقبلها من الجمهور لا يخضع لأي معايير محددة، أو يمكن من خلالها الحكم على ما يجب التفاعل معه أو عكس ذلك، يبرز أيضا ذكاء الشاعر في اختيار ما يرفع من قبوله لدى المتلقين عبر اخياراته ونوعية القصائد التي قد تثير الإعجاب بشكل مضاعف دون غيرها، وتقدم أسلوبه في الكتابة بطريقة رائعة، والتي قد يكون من بين قصائده ما قد يعتبرها البعض أقرب للدعابة التي يحرص أن تكون مغلفة بالشعر أو الفكاهة التي من خلالها يقدم تصويرا يدهش المتلقي وغيرها من الأساليب، وهو أمر مهما تكرر في الأمسيات من المهم جدا أن لا يكون له أثر في النزول بمستوى الشاعرية إلى حد تخفت فيه تدريجيا أو تتلاشى، وألا يقترب ما يلقيه الشاعر من مستوى الكلام أو دون ذلك أحيانا.وبالطبع فإن لكل شاعر توجهه في نوعية القصيدة وأسلوبها ومستوى شاعريتها أو أفكارها، وهو أمر يحترم وقد تختلف حوله الآراء والتوجهات حسب معايير النقاد أو المتلقين أو الشعراء أنفسهم، إلا أن الحديث عن النزول بالمستوى الشعري لمستوى يخدش الحياء في أحيان كثيرة دون أي شاعرية، هو أمر قد تجمع عليه مختلف الفئات المذكورة على ضرورة وعي الشاعر بأهمية مراجعة ذلك في طريق إثبات حضوره وقدرته على المواصلة في دروب الشعر، وإخلاصه للقصيدة أولا وأخيرا.إن استخدام الشعراء لفرصة الظهور في عدد من الأمسيات لأجل تمرير قصائد خالية من أي جمال شعري أو قيمة أدبية بدافع الجرأة ومحاولة محاكاة تفكير فئة الجمهور المتلقي عبر طرح مواضيع لا يمكن طرحها دون التسلح بجمال الحرف، لهو أمر مضر بالشعر ومستوى تقبل الجمهور له، وقدرتهم على التعويل على هكذا شعراء برسائل تبتعد عن القوة ورصانة الصياغة، وهو أمر من النادر أن نجده بشعراء الفصيح لأسباب كثيرة منها اللغة المستخدمة والتي لا يمكن عبر أبيات الشاعر الإشارة لكلمات شعبية دارجة في المجتمع، وعند إستخدامها من قبل الشاعر الشعبي فيجب أن تكون بما يضيف للقصيدة جمالا دون نزول لكلمات تحشر عنوة في النص، أو استخدام لألفاظ بعيدة عن اللهجة العامية من أجل مخاطبة فئة بسيطة، حتى لا تضع الجمهور في حيرة في تأويل مقاصدها.ومع التقدير لكل الشغف والسعي الحثيث للشعراء الشباب لتقديم قصائدهم والظهور في الأمسيات، وتكوين شريحة من المتابعين والمعجبين بإبداعهم، إلا أن التعامل مع الجمهور يجب أن يكون بما يعزز عطاء الشاعر ويدفعه لمزيد من الإبداع والتوهج وليس الانصياع لرغبات الجمهور بما يلاقي حوله التصفيق مع نوعية معينة من القصائد التي تم الإشارة لها آنفا والذي من المتوقع أن يفقده الكثير جوانب جمالية في نصوصه الشعرية ويضعه أقرب للسطحية أو السرد بلغة بعيدة عن الشعر، ومن المهم أن يكبر هذا الإدراك لدى الشاعر في مرحلة مبكرة عبر اقترابه من المتقدمين من لهم الأسبقية في مجال الشعر؛ ضمانًا لاستمراريته في هذا المجال الذي يخضع الشعراء فيه لتحديات لا يصمد أمامها من يفتقر إلى الشاعرية ودهشة الفكرة الشعرية. فهد بن يوسف الأغبري