جاءت ندوة تطور العلوم الفقهية في عُمان من خلال عنوانها:(فقه العصر .. مناهج التجديد الديني والفقهي) والتي عقدت خلال الفترة من 15 إلى 18 جمادى الأولى 1436هـ، الموافق 5 إلى 8 ابريل 2015م في نسختها الحادية عشرة من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بتوجيهات سامية من حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه.
ومن ضمن ما قدم خلال الندوة من بحوث وأوراق عمل كانت لنا هذه القراءة في بحث بعنوان:(ضرورات الرؤية الفقهية الجديدة للعلائق بين الفقه والقانون في مجال المعاملات) للاستاذ الدكتور/ رمزي محمد علي دراز أستاذ الشريعة الِاسلامية المساعد بكلية الحقوق ــ جامعة الاسكندرية.
وقال: وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم في كتاب أعلام الموقعين في فصل اسماه: تغير الفتوى وإختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد أن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة.
3 ـ كما تكتسب قاعدة تغير الأحكام بتغير الظروف والأزمان. شرعيتها وأهميتها من عدة أسس أهمها:
ـ المقاصد الشرعية: من المعلوم أن من أهم مقاصد الشريعة هو حفظ مصالح الخلق على إختلافها، وهذا يقتضي مراعاة العرف والعادة وليس معنى ذلك إلا تغير الإحكام إذا تغيرت الأعراف والعادات إنْهليس من المنطقي بل ولا من المصلحة في شئ بقاء الحكم مع تغير الأساس الذي بني عليه.
ـ الضرورة والتغير الإجتماعي: إن النظر في أحوال الناس بهدف تحقيق مصلحتهم وإصلاحم يعد ضرورة إجتماعية، وهذا يعني أيضاً ضرورة تبديل الأحكام الشرعية وفق تبدل الزمان.
ـ التيسير على المكلفين ورفع الحرج والمشقة عنهم: وهو واحد من أهم الأسس العامة للتشريع الإسلامي ولا شك أنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان بل إنه يعتبر مبرراً قوياً وداعماً أساسياً لها، ولذلك سنتعرض له لاحقاً في هذا البحث في إطار بيان المقصد الشرعي للرؤية الفقهية الجديدة للعلاقات في مجال المعاملات.
موضحاً بأن مسألة تغير الأحكام ينبغي أن يراعي بشأنها ما يلي:
أولاً ـ الأحكام القابلة للتغير والتي ورد بشأنها قاعدة:(لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) هي الأحكام الإجتهادية المبنية على العرف والمصلحة فهذه هي الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان والأعراف، لأن العرف والمصلحة بطبيعتهما نسبيان متغيران، فتكون الأحكام المبنية عليهما كذلك، أما الأحكام الثابتة بالنص فلا تندرج تحت القاعدة ولا ينطبق عليها حكمها ولذلك يذهب بعض الباحثين المعاصرين ـ وبحق ـ إلى أن الأولى أن توضح القاعدة بزيادة كلمة أو بتبديل بأوضح فيقال:(لا ينكر تغير الأحكام المبنية على المصلحة والعرف بتغير الزمان)، كما ذكرها بصيغة أخرى وهي:(إن الأحكام المترتبة على العوائد تتبع العوائد وتتغير بتغيرها) ولذلك أيضاً عبر أستاذنا الدكتور محمود العكازي عن هذه القاعدة بصيغة:(إختلاف الأحكام باختلاف العادة) ويقول سيادتة لقد كان من نتيجة إعتبار العادة محكمة وجعل العرف مصدراً تشريعياً وبناء الفقهاء بعض الأحكام مع ذلك أن اختلفت الأحكام تبعاً لإختلاف العرف والعادة لأن تغيير الأصل يستلزم تغير الفرع بالضرورة.
ثانياً ـ إن تغير الحكم بتغير الصرف أو العادة لا يعني تغيير في أصل الخطاب أو إختلاف فيه.
يقول الإمام الشاطبي في ذلك في فصل بعنوان:(إختلاف العوائد لا توجب إختلاف أصل الخطاب) فيقول: واعلم أن ما جرى ذكره هنا من إختلاف الأحكام عند إختلاف العوائد فليس في الحقيقة بإختلاف في أصل الخطاب ـ أي بنسخة مثلاً ـ لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدى لوفرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك .. وإنما معنى الإختلاف أن العوائد إذا إختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها .. أي: أن الحكم يتسم بالثبات إلا أنه يتغير عند التطبيق بسبب إختلاف الظروف، وهذا التغيير لا يعد من باب نسخ الحكم أو تعطيلة.
ثالثاً ـ عوامل تغير الأحكام نوعاً، :الأول: فساد الزمان وأنحراف أهله عن الجادة، والثاني: تغير العادات وتبدل الأعراف وتطور الزمن.
رابعاً ـ أن التغير الذي تعتد به الشريعة، ويبني علي أساسه القول بتغير الأحكام يشترط فيه ما يلي: ألا يكون مخالفاً للنصوص الشرعية. لأن الشريعة جاءت حاكمة للواقع لا محكومة به، ومقتضى ذلك أنه إذا تعارض التغير مع بعض أحكام الشريعة فإنه لا يلتفت إليه مهما كان له من القبول والإنتشار، لأن الإلتفات إليه في مثل هذه الحالة يعد إهداراً أو تعطيلاً لنصوص الشريعة، وأن يكون مطرداً بمعنى أن يكون التغير قد استقر في حياة الناس وتتابعوا في العمل به وصار أمراً سائغاً بينهم، وأن يكون التغير جوهرياً، وأن يكون يقيناً أو قريباً من اليقين، وأن يكون موافقاً لقصد الشريعة.
وقال: ويلاحظ أخيراً في هذا الشأن أن تغير الواقع الإجتماعي وتطوره وتبدله هو سنة كونية وفطرة طبيعية إقتضتها إرادة الله تعالى في خلقه، فثبات الأحوال محال عقلاً وواقعاً، ولأن القانون ظاهرة إجتماعية ينمو ويتطور بنمو المجتمعات وتطورها، ويتأثر بكافة المتغيرات الإجتماعية وغير الإجتماعية كذلك، فالتفاعل الأبدي بين القانون والواقع يؤكد حقيقة إرتباطه الوثيق بالمستجدات الإقتصادية والإجتماعية .. وغيرها بل إن النظام القانوني رهين بمدى إستجابته لأصداء ذلك التطور.
مشيراً الى إن القانون الوضعي يستجيب لهذه المتغيرات من خلال تعرضه للتعديل المستمر بغية ملاحقة التطورات الإجتماعية بما يناسبها من قوانين وتشريعات أي أن أثر تغير الظروف والزمن على القاعدة القانونية أمر لا يثير مشكلة لأن القاعدة القانونية الوضعية بحكم بشرية مصدرها سهلة التبديل والتغيير إذا لا تتمتع بالقداسة التي توجد بالقاعدة الشرعية، وأما في الشريعة الإسلامية فلقد رأينا أن الفقه الإسلامي قد أعترف بما يحدثة تغير الظروف من أثار، ورتب على ذلك قابلية للأحكام للتغير بتغير الظروف بضوابط وفي حدود تعرفنا عليها، ولكن تبقى دائما مسألة التغير في الشريعة مشوبة بالحذر والتردد والتحري من جانب العلماء خشية الوقوع في محظور شرعي بأن يترتب عليه إباحة الحرام، أو تحريم الحلال. وذلك لتمتع أحكام الشريعة الإسلامية ـ بحكم إلهية مصدرها ـ بالقداسة والتقدير بخلاف القاعدة الوضعية.
المطلب الثالث: تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة.
يمكن التأسيسي للرؤية الفقهية الجديدة للعلائق في مجال المعاملات كذلك بالقاعدة الفقهية الشهيرة:(تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة) وجاءت هذه القاعدة بمجلة الأحكام العدلية بصيغة:(التصرف على الرعية منوط بالمصلحة) وقد صاغها العلامة السبكي بصيغة مركزة أكثر إتساعا للفروع الفقهية إذْ أوردها بعبارة:(كل متصرف عن الغير فعليه أن يتصرف بالمصلحة)، وعلى كلً فهي قاعدة لها قيمتها ومكانتها في الفقه الإسلامي، وبخاصة في مجال السياسة الشرعية وتنظيم الدولة الإسلامية، حيث ترسم حدود الإدارة العامة والسياسة الشرعية في سلطة الولاة وتصرفاتهم على الرعية الملزمة في حقوقها العامة والخاصة يجب أن تبني على مصلحة الجماعة وتهدف إلى خيرها.
.. وللحديث بقية الاسبوع القادم.