د. جمال عبد العزيز أحمد:
التقارير التي تطلب منَّا هي عبارة عن بيان مختصر تُشْرَحُ فيه مسألة ما أو قضية ما أو تفاصيل حادثٍ ما أو قد تكون عن نتائج دراسة مَّا أو عن كتاب معين أو رسالة دكتوراه أو ماجستير أو عن موقف حدث أمامك، ويراد منك تلخيصه بأسلوب واضح ومباشر ومفهوم، وهو نوع من توظيف الكتابة في عمل من الأعمال عن طريق جمْع قدر معقول وكاشف من الحقائق والمعلومات الصحيحة عنه، سواء انتُهِيَ منه أم لا يزال في طور العمل والإعداد، فيكتب فيه كلَّ ما ينفع القارئ أو طالب التقرير، ويقفه من أقرب طريق على طبيعة العمل، وما تمَّ فيه، وما حدث من إنجاز أو إخفاق في بعض أجزائه، والجهود التي بُذِلَتْ فيه أو أوجه التقصير التي لحقتْه إن وُجدتْ، والظروف والملابسات التي أحاطتْ به حتى لحظة كتابة التقرير، وتأتي أهمية التقرير من كونه مصدراً من مصادر المعلومات، وأداة تقويم ومراقبة لكل ما يحدث من أمور في أيِّ مؤسسة، أو مصلحة، ويمكِّن القائمين عليها من التعرف عن قرب على جميع وجهات النظر فيمن تحت أيديهم من عمال وأعمال وموظفين، ونحوهم ممن يشغلون أعمالاً ما في أيِّ مكان مَّا، كما أنه من باب آخر يساعد على التعاون والتنسيق والترابط بين جميع الموجودين في أيِّ مؤسسة علمية أو تعليمية أو ثقافية أو اجتماعية .. أو غيرها، كما يمكِّن هؤلاء من الإصلاح المستمر، وإجراء التغييرات المناسبة في الأوقات المناسبة، ويساعد أهل الحل والعقد على التنبؤ بالاحتياجات المستقبلية حتى لا يفاجأوا بها، ويحاروا في استدراكها، ويساعد بشكل أو بآخر في اتخاذ القرارات المعنية التي تساعد في التخطيط الفعَّال يا كان: داخليًّا أو خارجيًّا، وهو في الأخير وسيلة رقابية مهمة لكلِّ ما يمكن أن يسمَّى إنجازاُ أو يوقف على ما يمكن أن يوصف بالإهمال والتقصير، والتقارير أنواع منها: تقارير يومية أو أسبوعية أو شهرية أو ربعية أو نصف سنوية أو سنوية، سواء كانت تقارير دورية أو غير دورية، وهي ما يسمونها بالتقارير الطارئة التي يتطلبها الموقف، وتقتضيها الحاجة والسياق الوظيفي الآني، وأهمها تقارير المتابعة، أو التقويم أو التقييم، وتقارير اللجان المختلفة، لكنْ ثمة خصائصُ للتقرير حتى يكون تقريراً جيداً ودقيقاً ومفيداً وفاعلاً، من أهمها وضوح الهدف منه، وطريقة عرضه، وتناوله كموضوع ، وحسن اختيار ألفاظه وعباراته، وابتعاده عن الكلمات الغريبة ذات المفاهيم المعقَّدة، أو المختلف في معناها، ومراعاة مستوى قُرَّاء التقرير وثقافتهم العامة، وينبغي أن يكون مشتملاً على كلِّ المعلومات اللازمة لفهم ما سيق له، وأن تكون نقاطه الرئيسة واضحة، لا تكهُّن فيها، ولا غموض، بحيث يؤدي إلى استنتاج واستنباط، كما أن من أهم خصائصه وسماته أنه لا بد أن يكون موجَزًا، يتسم بالاختصار والإيجاز، ويبتعد عن التكرار والإسهاب، الذي يدفع إلى الملل، والتَّرْك، وأن يغطي بشكل وافٍ الموضوع محل التقرير، ولا يذكر تفاصيل لا علاقة لها بما هدف إليه، وبما لا يهم القارئ منها أو لا يضمنه من السطور ما لا يعبأ به قارئه، وأن يعرضه بكلِّ موضوعية وعدم تحيز، سواء في أصل عرضه أو في نتائجه، ولو كانت مخالفة لما يرغب فيه، أو يميل إليه، وأن يكون دقيقا في حديثه، معتمداً على ما بين يديه من أدلة من غير تزيُّد، وافتئات، وأن يكون ما جمعه متأكَّدًا منه، وموثوقًا فيه، وأن يُعرَض بشكل منطقي، متسلسل، منظَّم، مقسَّم إلى أقسام، يربطها رباطٌ منطقيٌّ، يترتب ما بعده فيه على ما قبله، وأن يتدرج في عرض موضوعه من اليسير إلى المعقد، فالأكثر تعقيداً، على أن يكون مرتَّبًا ترتيبًا زمنيًّا ومكانيًّا إذا كان ذلك يوصلنا إلى النتيجة المعقولة، أما عن محتوياته فهي ثلاثة: المقدمة التي بها تعريف بموضوع التقرير وخطته وهدفه ومن سيوجه إليه، ثم أصل وصلب التقرير:(الذي تعرف فيه الحقائق والموضوعات والنتائج والإنجازات والمعوقات والسلبيات والإيجابيات وكل الأحداث التي يتطلبها التقرير)، ثم تأتي الخاتمة التي تلخِّص ما ورد فيه، مع بيان رأي كاتبه بكل تجرُّد وموضوعية، ويتضمن شيئًا من التوصيات أو المقترحات، وما يمكن أن ينجم من خلاله من دراسات قد تُعِين على تجاوز ما ورد من سلبيات أو تضيف مستقبلاً عملاً آخر من الأعمال النافعة، ثم يُرفِق به ما يشاء من صور وجداول أو نماذج أو رسومات بيانية موضِّحة لطبيعته، وطبيعة ما ورد فيه من أفكار ورُؤًى ومعلومات وحقائق، ونأخذ تقرير الهدهد الموجز الدقيق، كما ورد على لسانه في كتاب الله تعالى لنتعرف على طبيعة الدعاة المحققين عند رفع تقرير جيد بكل سماته منهم؛ لأنه سيترتب عليه أخطرُ القرارات المتخذَة التي تحوَّلت من خلاله أمةٌ من جهلها ووثنيتها وعبادتها لغير الله، إلى أمة مسلمة مؤمنة تدين ولاءً وبراءً لربها، وتحسن فهم مهمتها، وتتقن رسالتها، قال الله تعالى حاكيًا عن صنيع هذا الهدهد الموفَّق الذي نتعلم منه كيف ندعو إلى الله عز وجل، وكيف نكتب التقارير الممتازة بكل خصائصها، تلك التي نحتاج إليها حقاً:(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ، أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).
في هذا الحديث الشائق من هذه الهدهد الموفَّق العجيب، نرى أنه قد غاب هذا الهدهد فترة من الزمن عن سيدنا سليمان ـ عليه السلام ـ فسأل عنه فيها سيدنا سليمان، الأمر الذي يدل على أنه محيط بكل شؤون مملكته ـ عليه السلام ـ وهكذا القائد الحكيم، يكون محيطا إحاطة كاملة بكل ما يدور في مملكته على اتساعها وكبرها، ويبدو أن هذا الهدهد كانت له مكانة كبرى عند سيدنا سليمان، حتى إنه ليسأل عنه، ويتوعده لأنه لم يكن كعادته صباحًا في أثناء مروره ووقوفه، أو وضع التقرير اليومي الصباحي بين يديْ سيدنا سليمان ـ عليه السلام ـ فقال:(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) إنه الحزم، وفن الإدارة، ووضع تام للضوابط الصارمة التي تحكم شؤون المملكة وذلك لاتساع المملكة وتطلبها قيادة حكيمة، لا تلين أو تتهاون مع المقصرين أو المتكاسلين أو التاركين لمواضعهم وأماكن أعمالهم، ثم فوجئنا بهذا الهدهد الحكيم أنه لم يكن يعبث، أو يستهين بوظيفته أو يستخف برسالته، وهذا ما جعله يقف قريباً من سيدنا سليمان حتى ليكاد يلتصق به:(فمكث غير بعيد) أي قريب، وهو أسلوب قرآني سامٍ راقٍ عبر به عن شدة القرب ومدى الالتصاق، وهو كذلك كناية عن الثبات، وخطورة ما وراءه من أمور، وما سيقوله من تقرير حكيم يبيِّن فيه سبب تغيُّبه عن تشريفة الصباح، وما أمهل الهدهد سيدنا سليمان، ولكن، وبفاء العطف التي تفيد الترتيب والتعقب بدأ تقريره الذي تحمَّل كل سمات التقارير المسؤولة الممتازة الواعية الدقيقة التي يكون لكل حرف فيها دلالته وقيمته وخطورته:(فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) هذا أسلوب تشويق، وجذب للعقل والذهن والفكر، بدأ فيه بـ(القول) الذي يتضمن القاف المفخمة، والألف الجوفية، واللام التي تخرج من جوانب الفم، أي: هو ثابت القلب، والخُطا، وراسخ اللسان، والعبارات، ويتحدث عن المسؤولية الفردية الخاصة، فيقول بتاء الفاعل المضمومة المسؤولة:(أحطت) فتاء الفاعل تعني أنه يدرك فحوى ما يقول، وهو مسؤول عن كل حرف فيما يتفوه من تقرير، ثم تأتي (ما) الموصولة أو المصدرية التي هي غامضة، ومقصود غموضها هذا ليزداد شوقُ وانتباهُ وعناية، واهتمامُ سليمان ـ عليه السلام ـ والفعل (أحطت) الذي يفيد الشمول ومعرفة قُبُل الشيء ودبره، وقوله:(بما لم يحط به) هو كلام خطير جدا، ويستنهض عزيمة سليمان ـ عليه السلام ـ وهمَّته، فهذا الهدهد الصغير حجمًا الذي يمكن أن تُضَمَّ عليه الأصابع والكف الواحدة، فيتحطم مباشرة، وتتكسر أضلعه الرقيقة يقول لسيدنا سليمان ـ عليه السلام:(أحطت بما لم تحط به)، وهو كناية عن خطورة الحدث، ووجود أمر لا يحتمل التأخير، ويتطلب سرعة الدراسة، وتقديم أشمل وأكمل الحلول، وفيه من التشويق الأمر الكثير، ومن جذب الانتباه، وشحذ العزائم ما الله به عليم.
ثم شرع بعد هذا التشويق والإثارة وجذب الانتباه يقول التقرير، ويحدد مكانه وموقعه وطريقه، وهو مسؤول شخصيًّا عمّا يقول:(وجئتك من سبأٍ بنبأٍ يقين) وفي التقرير فصاحة وبلاغة متناهية، وجناس غير تام، واستعمالٌ لكلمات، كلها دقة واحتراف، فلم يقل:(بخبر) ذلك لأن النبأ يختلف عن الخبر في كونه يخبر عن شيء لا علم للمخبَر به، وأنه لا يحتمل الخطأ، وأنه حديث لما سيأتي ومن ثم سمي النبي بذلك، وأصلها النبىء من النبأ لإخباره عن الله تعالى بكل صدق، وكذلك ورد في القرآن الكريم:(عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم).

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية
[email protected]