خطوات متثاقلة، جسم نحيل، ظهر مقوس، وشال طويل ينتهي بخيوط دقيقة متعددة الألوان، ثم عصا ينبئ صوت وقعها على الأرض بمقدم شخصٍ ما والأغلب أنها امرأة فرائحة الزعفران الزكية تكاد تغطي كل أجزاء هذا القسم؛ لتعطي انتعاشا لأرواح المرضى الساكنين بانتظار أدوارهم.. هادئةً هي في خطواتها، جميلةً بكل مواصفات الكِبر التي هجمت عليها فلم ترخ لها بقعة من جلدها إلا وأدخلت عليه بعضًا من تجاعيدها فهكذا هي الحياة، بتلك الصورة التي نولد بها إلى طريق الكبر الذي يأخذنا إلى العالم الآخر.. صوت العصا المرتّد من وقعه على الأرض وكأنه يخبرنا أن الثبات والقوة يصنعهما الإنسان لنفسه وليس للكبر والجينات دخلٌ في ذلك.. واصلت التقدم ارتطمت قليلا بالحائط الذي لم يفلح العصا في تحسسه وتحديد قياسه جيداً. دخلت ولعلها أحسّت بعدد الأعين والنظرات الثاقبة التي تخترق وجودها، ترمش عيناها بسرعة كبيرة تتعدى الألفي رمشة في الثانية، أثر الزمن بدا جليا عليها، كما بدت هي ضعيفةٌ في كيانها.. أطلقت سلاماً عابرا لجموع الحاضرين لتجد ردا سريعا وقد يكون غير إرادي لتوغل كل من في المكان بالنظر إليها، اتخذت مكاناً بين جموع المراجعين مع تنهيدة بدت كأنها زفرة أخرى من فعل الحياة..بريئة هي في جلستها، في ابتسامتها التي ترسمها لوجود طفل صغير ينظر إليها من بعيد ولعله كان مثلي تماماً يجول بناظريه ليملي عينه بآثار الزمان التي طمرت جسدها تاركًا منه جمال قلبها..الواضح من تواجدها في هذا المكان وهذه الساعة من اليوم هو أمر واحد لا ثاني له فلا عاقل يدخل عيادة العيون في هذا اليوم إلا بألم وخز عينيه وليس ثمّة شي آخر يفسر وجود امرأة في الستين من العمر وحيدةً تتخبط في أرجاء هذا المستشفى بعيدة كل البعد عن ما يدور حولها، راغبةً بانتزاع ألم عينها التي يحتمل أنها تعبت من تحمله وتعب الكحل منه كذلك.بطيء هو مرور الوقت هنا ونحن ننتظر، فالجلوس على هذه المقاعد يجلب لك ألماً آخر أنت في غنى عنه..جلت بناظري لعل أحدا يشبهني هنا، آه، فتلك الأم البائسة تحاول إغماض عينيها شبه المغلقتين محاولة استراق بضع ثوان من الراحة موهمةً نفسها بأن سارقً مجنونا قد يمر من أمامها فيسرق منها ألمها ليهرب به بعيدا إلى نحو ذلك المكان حيث مردم الألم..مرّت دقائق طالت إلى ساعات عجزت فيها الصمود أكثر ولكن لأنه قد قدر لي أن التقي بسيدة عجوز بتلك البراءة في هذا اليوم تجلس موازيةً لي فكان من الصعب علي الاستمرار في مشاهدة مسلسل الآلم مباشرةً من أمام مقر بثه..انتزعت نفسي مارةً بجموع من يسبقني في المقاعد المحدودة الموزعة على مرضى العيون. استجمعت قواي وأخذت اجمع بعض العبارات لأخبر الممرضة أن ثمّة روحا ارقها الزمن واسرفت الدنيا عليها الإنتظار يستوجب علينا السماح لها بالدخول لأن حالتها الصحية وهيئتها البريئة تستدعي تقديمها على كل جنس بشري يحاول أخذ فرصة لمقابلة الطبيب..عظيم! وافقت الممرضة! ولعلّ طهر الدعوات التي تلوتها قبل انتصابي أمامها كانت كفيلة بمنحها فرصة الدخول. مرّت ربع ساعة من الوقت وهي بالداخل أكاد اجزم أن كل من يستوطن هذا المكان يحسبني قريب تلك السيدة غير أني لست إلا بشرا صعبت عليه حالها محاولةً عكس مجرى التيار لأعطيها جرعة أخرى من أمل الحياة، لم تمكث طويلاً فهاهي تهم بالخروج غير أنها ليست بنفس الحال الذي دخلت عليه؛ فالممرضة تمسك بيدها والعصا يمسك بها من اليد الاخرى..وليس هناك من بريق ينبع من وجهها فعيناها مغلقتان!هل انتزعهما ذلك الطبيب؟أم أنها منحتهما لإنقاذ حياة أخرى؟أم أن عينيها تبرأتا منها لكثر الكحل الذي تضعه كل يوم؟أم أنها سقطت من ضعفها في محاولة لها للتماسك عند فحص الطبيب؟قطع سير أفكاري صوت الممرضة مناديا لها ( أمي هذه قطرة موسعة للعين حتى نقدر نشوفها زين، ويمكن تعمل لك دوار فلا تتحركي لمدة نصف ساعة علشان ما يصير لك إغماء)شددت قبضة يدي، مطلقةً صرخةً صامتة حبستها أعلى صدري خشية أن يسمعها أحد..فتبًا لتلك الحياة التي جعلت هذه الأم الضريرة تسير متخبطة بين ثنايا هذه المتاهة وحيدةً كسيرة. دائما ما يقال بأن الأبناء هما النور الذي تبصر به الأمً حياتها، فهل من الممكن أن يكون الأبناء هم الألم المرهق في هذه الحياة..اهدئ نفسي وأمنّيها أن هذه العجوز لا تملك ابنًا ولا ابنة فقد تكون وحيدةً فعلا؛ وإلا فكيفً يترك ابنًا زهرةً اهدته رحيقها ليرحل بعيدا ويسلمها للذبول..سرحتٌ كثيرا حتى ادركتُ نفسي، انظر أمامي! على جانبي!أين هي! اخذت ابحث عنها كروح تخصّني، اتفحص المراجعين، المرضى، ليست بينهم! ايعقل أنها اُدخلت لمقابلة الطبيب مرةً أخرى؟ لا فالنصف ساعة لم تمضِ بعد، اتراها قصدت دورة المياه؟ عجباً فالممرضة هنا من يكون أوصلها وأخذ بيدها، تماسكت فلسان حالي يقول اصمتِي واتركي كلا في شأنه.. أنت لا تعلمين بهذه المرأة ولا تمت لكِ بصلة فمالك بها..غير أن نفسي تأبى إلا أن تدفعني من مكاني نحو مكتب التسجيل..استجمعت كل قواي وتقدمت قاصدةً السؤال عنها، فلا يمكن أن تختفي فجأه أمام مرآى من الجميع بالتأكيد هي في مكان ما هنا، فأنا سرحت لفترة قصيرة لايمكنها الابتعاد من هنا.. بحثت عن كل حروف اللغة التي يمكن أن تسعفني في سؤالي عليها، حتى وصلت لمقر الممرضة التي تعمل كحارس لغرفة الطبيب تنادي المرضى الواحد تلو الآخر ولعلها كانت تجمع العديد من الحروف للرد علي بأن دوري لم يحن بعد..قاطعني رنين الهاتف في مكتب التسجيل ولعله انقذني وترك لي مساحه أخرى لالتقاط الحروف الهاربة للسؤال عن تلك المرأة التي ترهق القلب في التفكير بها، غير أني جهلت القدر الذي ينتظرني والعاصفة الهوجاء التي تستعد للهجوم علي..طالت أذني كثيرا فغدت باتساع كبير ولولا احترامي للمكان الذي أنا به لكنت أخذت الهاتف وجعلته على أذني..الممرضة رداً على الطرف الآخر من الهاتف (أيوه حرمه كبيرة اسمها عفرا كانت معنا بالعيادة، عطيناها قطرة موسعة للعين وخليناها شوي حتى يبدا مفعوله، كيف؟ الطوارئ؟ حصلتوها بالشارع على باب المستشفى)هنا توقفت الأرض عن الدوران، انقطع انسياب الهواء الصاعد عبر كل مجاري التنفس في جسدي؟ اصبت بالعشى الليلي في وضح النهار؟ جفت كل قطرات الدماء الماره عبر شرايين جسدي منذرةً عن سقوط تام لكل الأعضاء الباقية على قيد الحياة، تراجعت! تمتمت بكلام كثير لم يفهمه أحد غيري، لم أكمل استماعي لحوار الممرضة ولم أشعر بنفسي إلا وقدماي تجرّان نفسيهما نحو قسم الطوارئ.انتهى الوقت هنا، سكن كل شئ سوى من وقع أقدام خُيّل لي أنه جرف دموع ساقطو من أعلى قمم القنوات الدمعيو في محجر العين..دخلت مسرعة مخترقةً كل باب مغلق والأمل يحملي علنّي أجد من ريح الزعفران دليلا يوصلني نحور أمي عفرا، فمثلها لا ينبغي أن ينادى سوى بأمي، غير أن شرطي الأمن لقسم الطواري استوقف طريقي في تتبع طيب الزعفران من منبعه..لم يكمل سؤاله حتى أخبرته أن قريبة لي احُضرت إلى هنا منذ دقائق، سمح لي بالعبور، ولعله لم يفهم حرفا من مجمل حروفي المشّبعة بأنفاسي المتضاربة محاولةً اسعافي بالكثير من الدماء والصبر، متعبةً كنت حاملةً معي أملاً بأنها بخير على أحد أسّرة الطواري تستريح قليلا..حتى توقفت بجانب إحدى ستائر الغرف التي تفصل كل سرير عن الآخر على صوت دكتور (أمي من الطيحه هذي استوى جرح لعينك وإنت بحاجة لعملية سريعة حتى ما تفقدي النظر بشكل كامل؟ من حاضر معك؟ علشان نتواصل معه وتحبي نعلمه بالعملية)صوت الضعف مع شحرجة بكاء (حاضر معي ربي ولدي! ولي تشوفه زين سويه)أصبت بالصمم، لا تعمدت ذلك، ليست هي! هذه امرأة أخرى، أمي عفرا زينه، حقيقةً فقدت نفسي، سقطت جاثيةً على الأرض، انصهر كل شي باقي على قيد الحياه..فرائحة الزعفران هنا، هي بالداخل، الصوت يتردد بأذني كل شفاه تردد نفس العبارة ( حاضر معي ربي يا ولدي).تبا لكل شي، لكل ابن ترك جنته متعبة تقاسي الوجع راحلاً باحثًا عن وهم يسمى عش الزوجية، وسحقا لكل ابنة خجلت من تربة يدوس عليها هذا القلب الحنون..زلزال بحجم كل دفعات الغضب التي تُحطم كل ما يسقط أمامها كان حاضرا معي، وبركانً بكتل الحمم ظل يلتهب في صدري..فالله معك أمي وحده يعلم بما يثقل صدرك ويعبر بك في دروب الحياة.. علمت حينها أن الألم الذي كان يتعب كيان هذه الأم لم يكن بسبب عينها ولا كبر سنها، بالقوة تلك؛ ولكنه كان ألم لم يستطع العالم صنع دواء له ولا تشخيص دقيق ليوصف به إنما تراكم مع طول السنين هماّ أصاب القلب فأرهقه، وأصاب العين فشل عنها بصرها ليؤدي بها نحو ذلك القدر المجهول بدار المسنين..(لقد كنت على وشك الحياة بريحٍ من الزعفران حتى أعدمتني الحياة في أول محاولة لي للعيش فيها). مروة الهطالية