إعداد/علي بن عوض الشيباني:أيها القراء الأكارم: القرآن الكريم كتاب الله تبارك وتعالى الذي أنزله على نبيه (صلى الله عليه وسلم) ليخرج الناس من الظلمات إلى النور, وليهديهم صراطاً مستقيماً.وصدق الله إذ يقول:(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم), ومعنى هذه الآية الكريمة أن هداية القرآن الكريم هي اعظم الهدايات وهذا ما يفهم من قوله سبحانه:(للتي هي أقوم) وتظهر هذه الهداية في أحكام القرآن وقيمه الخلقية, وقواعده التربوية ونظمه التشريعية.والحق أن بيان القرآن وتشريعاته لا ينفصل بعضها عن بعض وإذا عرفنا أن القرآن معجزة بيانية، فيجب أن نعلم أنه معجزة تشريعية كذلك.وقد اقتضت حكمة الله ومشيئته ــ وقد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ــ أن ينزل هذا القرآن الكريم، وقد بلغت اللغة العربية غاية في نموها وتهذيبها سعة واحكاماً ودقة ووضعاً وبلغ العرب الناطقون بها مبلغاً في المهارات اللغوية فطنة ورقة طبع, وذلك من أجل أن يكون القرآن الكريم معجزة لغوية يتحدى فحول الفصحاء وجهابذة البلغاء.واقتضت مشيئة الله وحكمته كذلك ان ينزل القرآن الكريم, وقد مر على القانون الروماني, الذي كان مرجع البلاد المتمدينة وقد بلغ من الاصلاح والتهذيب فكان نتيجة اصلاحات لكبار الفلاسفة ورجال العلم والقانون والاجتماع مدة ثلاثة عشر قرناً, ابتداء من سنة سبعمائة وأربعة وأربعين قبل الميلاد الى سنة خمسمائة وثلاث وثلاثين ميلادية في عهد (جوستنيان) فكان القرآن كذلك معجزة تشريعية يتحدى القوانين والمقننين والفلسفة والفلاسفة كما تحدى اللغويين.كيف نفهم الاعجاز التشريعي للقرآن؟إن المتحدث عن الاعجاز التشريعي جدير به أن يقف اولا مع تشريعات القرآن الكريم في شتى مناحي الحياة ومختلف جهاتها وقد يجد نفسه مضطرا الى الإلمام بما جاء في السنة المطهرة من تشريعات فإن القرآن الكريم كثيرا ما تذكر فيه الأحكام مجملة, فتأتي السنة لتشرح هذه القواعد وتفصل ذلك الإجمال, فالسنة ــ إذن ــ ليست أجنبية عن القرآن بل هي شارحة مبينة.وجدير به ثانياً أن يدرس ما وصل اليه العقل البشري من قوانين وانظمة في مناحي الحياة المختلفة وجوانبها المتعددة.وجدير به ثالثاً أن يعقد موازنات منصفة بين التشريعات القرآنية التي جاء بها سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) النبي الأمي في بلد لم تكن فيه معاهد ولا مدارس وفي أمة لم تنعم بما نعمت به الأمم الكثيرة من أنواع المعارف.وسيجد أي باحث منصف البون الشاسع بين تشريعات القرآن الكريم من حيث سموها وشمولها وما فيها من نظرة انسانية وخلو من السلبيات والثغرات والمآخذ, نقول سيجد فرقا بين تشريعات القرآن الكريم وبين غيره من القوانين التي بذلت في تنقيحها طاقات وعملت أفكاراً وعقولاً، ولسنا نحيف على هذه القوانين، فنجردها من كل خير, ولكننا ــ ونحن لا نبخس الناس أشياءهم ــ سنجدها غير بالغة من حيث مقرراتها ومضامينها من بلغه كتاب الله, لا وهي قربية منه في كثير من الشئون والاحكام. ولا نتعجل الحكم, وسندعكم ايها القراء الأعزاء تستنتجوا بفكركم وتخلصوا بفطرتكم الى سمو التشريعات القرآنية لتدركوا أن شريعة القرآن برهان صدق ودليل حق على أنه من عندالله.يقول أحد العلماء: ومن أجل ان نتبين قيمة ذلك الشرع في ذاته ونظر الناس يجدر بنا أن نرجع الى الماضي السحيق ونتطلع الى المستقبل البعيد.أما في الماضي فنجد أن الشرع الذي اقترن بظهور محمد الرسول الأمين ـ عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ هو قانون الرومان، فقد كان الشرع المسيطر في التطبيقات العملية والقضائية في الشام ومصر .. وغيرها من البلدان التي تعاقبت البلاد العربية وتحيط بها من الغرب والشمال ويقول علماء القانون اليوم إنه من أكمل الشرائع التي تفتق عنها العقل البشري ولا زال يعتبر أصلاً لكثير من الشرائع القائمة التي تفرعت وقامت على دعائمه.وإن من يريد أن يعرف منزلة الشريعة الاسلامية وأنها في درجة فوق مستوى العقل البشري فليوازن بينها وبين ذلك القانون الروماني لأن قانون الرومان قد استوى على سوقه, وبلغ نهاية كماله في عهد جوستنيان سنة 533 بعد ميلاد المسيح ـ عليه السلام, وهو في هذا الوقت كان صفوة القوانين السابقة وفيه علاج لعيوبها وسد لخللها من يوم أنشئت روما سنة 744 قبل الميلاد الى سنة 533 بعده أي: أنه ثمرة تجارب قانونية لنحو ثلاثة عشر قرنا ظهرت منها الفلسفة اليونانية وبلغت أوجها وقد استعانوا في تلك التجارب القانونية بقوانين (سولون) لأثينا, وقوانين (ليكورغ) لاسبارطة والنظم اليونانية عامة والمناهج النظامية والفلسفية التي فكر فيها الفلاسفة اليونان لبيان أمثل النظم التي يقوم عليها المجتمع الفاضل كالذي جاء في كتاب القانون وكتاب الجمهورية لأفلاطون وكتاب السياسة لأرسطو وغيرها من ثمرات عقول الفلاسفة والعلماء في عهد اليونان والرومان.وإن شئتم فقولوا إن القانون الروماني هو خلاصة ما وصل اليه العقل البشري في مدى ثلاثة عشر قرنا في تنظيم الحقوق والواجبات، فإذا وازنا بينه وبين ما جاء على لسان محمد النبي الأمي (صلى الله عليه وسلم) وأنتجت الموازنة أن العدل فيما قاله محمد (صلى الله عليه وسلم) وما استنبط الفقهاء من بعده يكون من الحق علينا أن نقول إن أساس شريعة الاسلام ليس من صنع بشر، بل من صنع العليم الحكيم اللطيف الخبير سبحانه.* إمام وخطيب جامع السلطان قابوس الأكبر