اسمي رونالد، قبل سنتين سكنتُ بلدة بعيدة من هنا، كنت أعمل مهندس بترول في شركة هناك، كانت بلدة معتدلة الأنواء غالبا، حارة في فترات متقطعة، لكن أحيانا تهاجمها عواصف رياح هوجاء، وأمطار تسقط بغزارة غير متوقعة، ثم بعد نصف ساعة يتوقف كل شيء وكأنه لم يكن، فقط كنتُ ألاحظ سحبا دكناء راحلة، وأرضا مبللة بالمطر، واختفاء ملابسي من على حبل الغسيل. ولأني لم أر الشمس كثيرا في مسقط رأسي، فقد استمتعت بالبحر على الشاطئ الرملي، متشمسا في وهج الصيف، وحين كنت أعود إلى أصدقائي في مدينتي، نهاية كل سنة، كانوا يشيدون بلوني البرونزي الذي يجذبهم، ويتمنون مثله.
اليوم صباحا، وبعد الرياضة المعتادة التي مارستها، كنتُ ألهث قليلا، ولكن الآن ألهثُ بشكل جنوني، أنفاسي تتقطع بمفاجأة، إذ كنت أتناول فطوري مع نسكافيه مر، لم أحسن تحضيرهُ هذه المرة، في ذات الوقت وقع نظري على خبر صعقني، كان مُرا هو أيضا؛ بل في الواقع أكثر مرارة. فمن يعلم السنوات التي تمضي كيف تمر على الواحد! وكيف تتغير الأقدار! شعرتُ بتداعيات في قلبي ونفسي، كان خبرٌ في الجريدة، يحمل نبأ جريمة قتل، المقتول أميزهُ جيدا، إذ كان جارا لي واسمه رائد، لم يكن رائدا إلا في الرسم. رأسه بشعره البنّي الغامق تتوسطه صلعة لامعة، وعيناه بنيتان أيضا، نحيف جدا بشكل مبالغ فيه. ورغم أنه يأكل كثيرا، ولا يمارس الرياضة، إلا إنه مصاب بحالات إسهال متكررة، إذ كان يشرب أعشابا مخلوطة بصفة يومية، توقعت أن هذا هو قد يكون سبب نحافته المفرطة.
كان يلون لوحاته كثيرا بالألوان، ولهذا فأن أظافر أصابعه تحتفظ بكميات من الألوان المختلفة التي لم ينجح في إزالتها، لديه مرسم واسع، يقضي فيه فترات الظهر من كل يوم، عازف عن الزواج، ويحب سماع موسيقى حزينة. أُغرم ذات مرة بعيدة بإحدى الفتيات؛ ولكنها رفضته بسبب سمنته وصلعته، اكتئب بعدها ولم يتزوج أبدا، في مرسمه ثمة لوحات تقدر بمبالغ طائلة، إذ كان يود بيعها ليستطيع زرع شعر، ليحقق حلمه بأمتلاك رأس كثيف الخصلات.
في الليل؛ كنا نسهر معا، وأحيانا نطبخ عشاءنا بالتناوب، كانت جلسته محببة إلي، فقد اعتبرته الأقرب لي في تلك البلدة، يبدو مبتسما دائما، يخفي هما طاغيا تحت سعادته، كان متعاقدا مع مجلة أهلية يرسم بها كاريكاتيرا أسبوعيا، غير كونه مدرس تربية فنية في أحد المدارس، في الكاريكاتير الذي تعود رسمه، كان يتناول قضايا تؤرقه وتؤرق شعبه، كان مبدعا؛ إذ ابتدع شخصية وهمية يستخدمها في كل رسوماته، كانت شخصية سمينة جدا وصلعاء، أفشى لي سرّا ذات مرة إنه كان يبدو هكذا، قبل أن يفقد وزنه ويصبح نحيلا.
ثم بعدها بفترة طويلة تغير كثيرا، كان قلقا مضطربا، تبدلت أحواله وشخصيته. امتنع عن الخروج من بيته، يدّعي أن ثمة ظلا يتبعه كلما مشى، وشخصا يلاحقه كلما خرج من بيته، وأنه أحيانا يجد باب بيته الذي أغلقه قبل الذهاب إلى المدرسة مفتوحا، يتوهم أن الأشياء تنتقل من مكانها، وتأخذ لها موقعا آخر في بيته. وبعض النوافذ التي يغلقها قبل خروجه من البيت، يجدها قد فُتحت.
في تلك الفترة، تلقيت خبر نقلي إلى فرع آخر من الشركة، كان المكان بعيدا عنه، لهذا انقطعت عن رؤيته، اكتفينا بتبادل الحديث على الهاتف، ذات مرة ذكر لي بأن المرسم، سُرقت بعض لوحاته، ومُزقت أخرى، وبعد فترة أبلغني بأنه احترق كاملا. كنت أنصحه باللجوء إلى الشرطة، لكنه لم يذهب، لا أدري لماذا؟
بعدها رجعت إلى أهلي وانقطعنا تماما، وبعد آخر اتصال بيننا، كان سيترك بلدته ويسافر كما قال لي آنذاك. تغيرت أمكنتنا وأرقام هواتفنا، ولم نبق على معرفتنا ببعض. كنت أتذكره كلما شاهدتُ لوحة بديعة معلقة على حائط، أو قرأت تعليقا في رسمة كاريكاتير.
اليوم في جريدة الصباح، أرى مصرعه، في الصفحات الداخلية من الجريدة، ذُكر الخبر مفصلا، كان صادما بالنسبة لي، رأيت المجرم الذي قتله، كان سمينا جدا وأصلع. تلك الشخصية الكاريكتيرية التي ابتدعها مصادفة، لم تكن إلا حقيقية.

إشراق بنت عبدالله النهدية