المرأة العمانية.. ذراع المسؤولية والرزق الحلالعند الحديث عن الأسواق الشعبية في السلطنة، لا يمكن تجاهل الشقيق الآخر للرجل، وهي المرأة، ولعلنا في العديد من البرامج الإعلامية والوثائقية والتسجيلية لا نغفل هذه النقطة، وغالبا ما تكون حاضرة، حتى على مستوى البرامج ذات الخاصية الفلكلورية، وهنا مكمن المشكلة، فالبحث يأتي بالصورة بطلة مشهد على حساب الجوهر، على حساب التدوين التاريخي السلوكي للمرأة، على حساب توثيق ما خلف الصورة النمطية، ثابتة كانت أو متحركة، باعتبار أن البحث الثقافي، في نقده وتحليله المتوقع، وفي توصيفه وانسجامه مع معطيات الواقع قبل عشرات السنين، لم يكن يقرأ تلك التفاصيل، ولم يتوغل إلى حيث كان ينبغي له فعل ذلك، ولم يقدم المساحة الخفية من العالم الذي كانت فيه المرأة أُسّا وجذرا في الوقت ذاته.نجد أنه من غير الصائب جعل الصورة النمطية هي بطلة المشهد، فهناك، حيث في البعيد تكمن التفاصيل، حيث في المخفي تكمن الخيارات التي لم تجد من يدونها، تعيش الشخصية الأنثوية العمانية، التي لم تمنحها القراءة الثقافية المعمقة شرف أن تسرد عن نفسها ما عاشته، حيث لا صوت ولا صورة ولا قلم يعيد رسم مشهدها.سينوغرافيافي الأزمنة البعيدة، لنقل منذ 100 عام مضى، كانت المرأة العمانية ، في الساحل والجبل، في الواحات والسهول، كانت تحمل مسؤوليات مزدوجة ومركبة في الوقت ذاته، ففي الوقت الذي يكون فيه لا بد للرجل/الزوج أو الرجل /الأخ أو الرجل/الابن السفر نحو المجاهل والأقاصي، والتعرض لأشكال مختلفة من المعاناة والضنك والصبر، كان مقدرا لها أن تكون وحيدة، بصحبة صغار، ربما أطفالها، أو أطفال ذويها، وكان عليها أن تكون ذات شخصية قوية وصارمة وحنون ومدبرة ومخططة، قوامها الصبر وعمودها الكفاح وسماؤها الانتظار.الرجال يذهبون طلبا للرزق، بعضهم في جغرافيات عمانية خارج مناطق سكناهم، وبعضهم إلى أماكن أبعد، تحتاج إلى أشهر للوصول إليها، وسنوات للعودة منها، وربما العودة المنتظرة تستدعي رحلة عمل جديدة، والبعض لا يعودون قط لأسباب مختلفة.كانت المرأة صاحبة القرار، المربية والحامية، راعية البيت وموفرة لقمة العيش، مسؤولية ضخمة على عاتقها، ولكنها يكون قد تم إعدادها سلفا من أجل ذلك، وهذا الإعداد أشبه بالتوريث التلقيني، الذي يصادف أنه (مكتوب ع الجبين)، وتراه المرأة بعين واقعها.إذن هذا المشهد البانورامي وحده، يكفي أن يعطي انطباعا أوليا حول ما تستدعيه المرحلة من المرأة أن تكون فيها ذات جلد، وأن تقاوم الظروف، وأن تحمل في داخلها ثنائية (المرأة/الرجل)، وهي ثنائية معقدة في التنفيذ الواقعي، تستنزف الجهد والطاقة.يد ومخيلةليس أمام المرأة سوى عاملين مهمين في توجيه دفة الوعي بالمسؤولية والتكيف معها، وهما اليد والمخيلة، فاليد هي الصانعة والعاملة والخدوم والمحولة اللاشيء إلى شيء، أما المخيلة فهي خليط بين التعلم والابتكار من ناحية، والاستقلال من ناحية أخرى، لذلك ظهرت العديد من المهن، التي تعلمتها المرأة من الأكبر منها سنا أو قرينتها، وبالتالي وضعتها أمام عتبة العمل، والعمل يضعها أمام عتبة الاستقلال المالي، وبالتالي سيمكنها من توفير متطلباتها الأساسية من دون الاستعانة بالغير، في ظل حياة بسيطة عادية في مجتمعات تتسم بالقروية والتلقائية.البعض منهن يربين الماشية، والبعض الأبقار، والبعض ليس لديهن هذا، فمن لديهن الماشية والأبقار يستطعن عمل الألبان ومشتقات السمن المحلي، ويقمن ببيعه عبر وسطاء في (سوق المناداة) أسبوعيا، وبعضهن يستفدن خلال فترات الولادات.قسم آخر من النساء يقمن بعمل السعفيات ومنتجاتها، وتتم عملية البيع بشكل مباشر في أماكن السكنى، أو من خلال الأسواق، وهؤلاء يستفدن من فترات القيظ (الجداد/قطاف ثمار النخيل).البعض الآخر تعلمن - من خلال كبيرات السن أو القرينات- مهن أخرى، مثل تفصيل الملابس النسائية والطفلية، أو عمل (الأسيام والغولي) بطرق يمكن الاستفادة في تجميل الملابس النسائية، ومواسم البيع هي المناسبات والأعياد، ولإن كان هناك مقابل نقدي لدى البعض، فلدى البعض الآخر مقابل سلعي، وهذا بحسب المرحلة من ناحية، وبحسب الاتفاق من ناحية أخرى.في هذه النماذج يمكن فهم الطريقة التي كانت المرأة العمانية تنتج سلعتها، وكيفية تعاطيها مع الترويج والتسويق، وتعرف الشريحة التي تتناسب مع طبيعة ما تنتجه، ولهذا كان المجتمع النسوي في إطار اشتغاله على الإنتاج السلعي، منسجما ومتناغما، فلكل نوع من يتقنه ويقوم به، ولكل شريحة من يغذي احتياجها، ولكن كل ذلك كان يحدث بشكل بسيط، مباشرة أو عبر وسيط، ولم يكن هناك مكان يجمع النساء المنتجات العاملات في مكان محدد، فالأسواق الشعبية يغلب عليها الرجال، وبخاصة في مسألة بيع المنتجات، وتحصيل أثمانها.عيون وذاكرةعابرون، أو مقيمون، يمرون في أماكن محددة، يرون امتدادا طوليا لنساء يفترشن الأرض، يعرضن منتجاتهن، والشرائح المتسوقة خليط من رجال ونساء من مختلف الأعمار، في لحظة المشاهدة هذه ربما يحضر سؤال وربما لا يحضر، ربما ينبش البعض في مخيلته بعض ما كان يراه في طفولته داخل البيوت أو في (خطبة العيد) وهو مصطلح يعني مكان البيع في يوم العيد، وليس الخطبة المألوفة المسمى، وربما كل ذلك لا يحضر، ولكن المتحقق هو أن المرأة صار لها سوقها التي أرادتها، يجتمعن من كل حدب وصوب، في إبراء وسناو، حيث الناس يرون ذلك الحضور السلعي الشعبي يضع بصمته، وإن كانت السلعة الحديثة حاضرة كذلك، ولكنها ليست هي التي تبرز ما نحن بصدده..كبار السن، ممن كانوا في يوم ما من السنوات البعيدة يقفون منادين على السلع، ومن بينها سلع قامت بإنتاجها نساء عمانيات، لم تعد هناك حاجة الآن إلى كل ذلك، فهي (تأخذ وتعطي لنفسها) بحسب التعبير العامي، مؤكدة مسارها المستقل، معيدة زمنها الأسبق إلى واجهة الحياة المعاصرة.فهم جديدهذه الصورة الجديدة التي أقدمت عليها الحكومة، من خلال تحقيق مناخ بيعي نسوي خالص، هدف إلى وضع معيار اختباري، معني بدراسة التزام المرأة العمانية بما يحقق استقلالها المالي عبر حلقتي الإنتاج والبيع، وقد نجحت فيه، بل إن الإقبال فاق التوقع، من زاويته الشعبية، أقصد المنتجات الأصيلة التي تعبّر عن الالتزام بالمنتج الذي يحقق الخصوصية المكانية النسوية العمانية، ويفتح العين على مألوف موادها المساعدة في صناعة منتجاتها اليدوية الطابع.هذا السلوك جعل الحكومة تطور من مقدار الثقة، مع تطوير في فكرة تحقيق ثقافة (الاستقلال الذاتي) للمرأة العمانية، لذلك أوعزت إلى صندوق الرفد، المعني والمهتم بدعم المشاريع الشبابية، بأن يدرج (المشاريع المنزلية) تحت يافطة الدعم، وهنا نظن بأن ثمة جينات وراثية تراكمية معينة موجودة لدى المرأة العمانية، معنية بتحقيق سياق استقلال ذاتي، مالي واعتباري، يعود في مركزيته إلى مراحل زمنية سابقة من عمر المكان، وصار هذا يشبه الشخصية الجوهرية، وإن كانت نوعية المنتجات مختلفة، وتنتمي إلى الزمن المعاصر، في بادرة كان الدافع إليها هو الإيمان بالفرصة التي يمكن أن تساهم في بناء ذاكرة حديثة ذات امتداد تاريخي، منبعه البيئة العمانية ذاتها.خاتمةنظن، من زاوية هذه الفكرة، التي تتخذ من المرأة العمانية نقطة ارتكاز، أن النقد الثقافي معني بسبر هذه التفاصيل، التي يمكن من وراء بساطتها فهم التكوين المجتمعي النسيجي في السلطنة قديما، والغوص في تفاصيل ذات أبعاد مختلفة، كانت هي الحافز وراء رؤيتنا أن ما يحصل من تطور في فهم التجارة وإدارة الاقتصاد والاستقلال من جانب المرأة مهم، وما نراه اليوم ليس إلا جزء من نسيج تاريخي سابق، كانت له شخصيته الاعتبارية واستقلاليته، وانعكاساته الإيجابية. عبدالله الشعيبي